أخوتي وأحبتي السلام عليكم :
إن إصلاح ذات البين وتأليف القلوب هو من أعظم الأعمال والقربات إلى الله عز وجل ، وهو من أجود أبواب الخير، وقمة المعروف، وذلك لأنّ إصلاح ذات البين يفسد خطط الشيطان وغاياته من إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، وإفساد ذات بينهم.
قال الله تعالى : {لا خير في كثيرٍ من نجواهُم إلّا من أمر بصدقةٍ أو معرُوفٍ أو إصلاحٍ بين النّاس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات اللّه فسوف نُؤتيه أجرًا عظيمًا} [النساء : 114]
وقال أيضاً جل من قائل : {يسألُونك عن الأنفال قُل الأنفالُ للّه والرّسُول فاتّقُوا اللّه وأصلحُوا ذات بينكُم وأطيعُوا اللّه ورسُولهُ إن كُنتُم مُؤمنين} [الأنفال : 1]
وإصلاح ذات البين من أفضل الأعمال الصالحة كما جاء في الحديث النبوي التالي :
- فعن أبي الدّرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ " قالوا: بلى، قال: "إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين، هي الحالقة". رواه أبو داود، والترمذي، وابن حبان في صحيحه, وقال الترمذي حديث صحيح .
قال: ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين". انتهى.
ومما يشير إلى أهمية هذا الأمر في ديننا الحنيف إجازة الكذب لأجل إصلاح ذات البين إن دعت الضرورة لذلك كما هو وارد في الحديث الصحيح :
- عن أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لم يكذب من نمى بين اثنين ليصلح" وفي رواية: "ليس بالكاذب من أصلح بين النّاس فقال خيراً أو نمى خيراً ". رواه البخاري ومسلم و أبو داود .
وقال الحافظ المنذري: "نميت الحديث" بتخفيف الميم؛ إذا بلغته على وجه الإصلاح، وبتشديدها إذا كان على وجه إفساد ذات البين، كذا ذكر ذلك أبو عبيد وابن قتيبة، والأصمعى، والجوهري، وغيرهم.
والتباغض والتقاطع في ديننا خط أحمر ، وقد حذرت الأحاديث النبوية من ذلك الأمر أشد تحذير كما في الأحاديث التالية :
- عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث". رواه مالك، والبخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائيُّ، ورواه مسلم أخصر منه.
قال مالك: ولا أحسب التدابر إلا الإعراض عن المسلم، يدبر عنه بوجهه.
- وعن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" رواه مالك، والبخاري، ومسلم، والترمذي، وأبو داود.
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار" رواه أبو داود ، والنسائيُّ، بإسناد على شرط البخاري ومسلم.
وفي رواية لأبي داود، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث فليلقه، فليسلم عليه، فإن ردّ عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يردّ عليه فقد باء بالإثم، وخرج المسلم من الهجرة".
- وعن أبي حراش حدرد بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عنه أنّه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه". رواه أبو داود ، والبيهقيُّ.
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس، فيغفر الله عزّ وجلّ في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئًا، إلا امرؤٌ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا". رواه مالك، ومسلم، واللفظ له، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه بنحوه.
وفي رواية لمسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجل كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا " .
والمشاحن: من كانت بينه وبين أخيه شحناء وعداوة، وهذه الأحاديث توجه أبناء الإسلام إلى أن يكونوا من ذوي القلوب الكبيرة التي ترتفع على الأحقاد الصغيرة، وإلا حرموا من فرص المغفرة التي يتيحها الله لعباده يومياً وأسبوعياً وسنوياً ، فالويل للقاسية قلوبهم ولا يغفرون ..
ورسائل هامة لمن يحب أن يؤدي عمل إصلاح ذات البين :
- اعلم أنك في عبادة يحبها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن كان في عبادة وجب أن يُخلص النية ويُراقب كل حركة وسكنة وكلمة يؤديها حتى يقبلها الله تعالى منه قبولاً حسناً (كما هو حالنا في الصلاة تماماً ) ..
- إصلاح ذات البين يحتاج إلى حكمة في الطرح والنقل ، والغاية منها أن تؤدي إلى صلاح وليس إلى فساد وخراب ..
- من يدخل في إصلاح ذات البين سيتعرض إلى هجوم مسعور من شياطين الإنس والجن ، وذلك لأن الشيطان لن يتركه ببساطة يفسد عمله الشرير ، فاستعن بالله تعالى وأكثر من المعوذات وآيات الحفظ (مثل آية الكرسي وغيرها .. ) واصبر على البلاء الذي قد يأتيك أثناء تأدية هذه المهمة واعلم أنك منصور بإذن الله تعالى إن كنت مخلص النوايا لله جل في علاه ولا ترتجي الخير والثواب إلا منه تبارك وتعالى ..
وأذكر لكم على سبيل المثال أنني في آخر مرة دخلت فيها إصلاح ذات البين كانت زوجتي تتحسس ثقل ما يجري معي حتى أثناء نومي ، فكنت أقول لها لنصبر ونحتسب الأمر عند الله تعالى عسى الله أن يكرمنا بألا يحدث الطلاق بين أخ أحبه في الله وبين زوجته ، فإصلاح ذات البين هو كمن ينكش عش الشياطين عليه ، ولهذا الأمر يأتي عظيم أجره كما أحسب والله أعلم ، فمعرفة عظيم أجر هذا الأمر والصبر عليه وإخلاص النية في تأديته كل ذلك يجعل منه من أعظم العبادات والقرب إلى الله تعالى كما مر معنا في الحديث الصحيح منذ قليل ..
- يجب علينا دائماً أن نحرص على إصلاح ذات البين بين الناس بشكل عام وبين من نعرف من مسلمين بشكل خاص ، ويجب أن نعطي هذا الأمر أولوية قصوى ونفضله حتى على أعمالنا التي نقتات منها ، فالرزاق هو الله تعالى ، وإصلاح ذات البين من أعظم التقوى ، ومن يتق الله تعالى فسيرزقه الله تعالى من حيث لا يحتسب ، فيجب علينا تحمل المسؤولية الكاملة عندما نجد فرصةً لإصلاح ذات البين وألا نتهرب منها فهذا ليس من شيم المؤمنين ..
- إصلاح ذات البين يشمل كل العلاقات (رجل وزوجته أو بالعكس ، الآباء والأبناء ، الجيران ، علاقات العمل ... )
وأخيراً نقول أخوتي وأخواتي :
الدنيا فانية وهي دار متاع وغرور وأيامها معدودة ، كما أنها ملعونة وملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما ولاه وعالماً ومتعلماً ، وكلنا سنموت ولو بعد حين ولن يبقى فيها أحد من الخلق كما مات ويموت غيرنا ، فلنعمل جاهدين على أن نتخلص من عيوب قوبنا فيها ونجعلها صافية نقية طاهرة مطهرة فنسامح كل من ظلمنا من المسلمين فيها ، فهذا الأمر يحبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ..
{... وأن تعفُوا أقربُ للتّقوى ولا تنسوُا الفضل بينكُم إنّ اللّه بما تعملُون بصيرٌ} [البقرة : 237]
ولنعلم جميعاً أن أصحاب القلوب السليمة لهم شأن عظيم يوم القيامة ، وشأنهم أنهم هم من يقبلهم الله تعالى من عباده فلنتفكر ...
قال الله تعالى :
(( يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنُون (88) إلّا من أتى اللّه بقلبٍ سليمٍ (89) ) من سورة الشعراء ..
صدق الله العظيم
أخوكم جلال