• 9 نيسان 2017
  • 5,026

سلسلة من نحب - الصالحين – (6) -سيدنا الإمام أبو داود رضي الله عنه :

المقدمة

    الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

 

فصل – أبي داود :

نتكلم اليوم عن شخصية أبي داود - رحمه الله تبارك وتعالى -. أبو داود السجستاني هو سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي، وهو من العرب كما قلنا، أربعة من العرب وهم ممن ذكرنا طبعاً أو سنذكر: مالك، وأحمد، ومسلم، وأبو داود، وأربعة من الأعاجم وهم: البخاري، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه على خلاف في الترمذي بعضهم يجعله عربياً وبعضهم يقول من الموالي. لكن على كل حال صاحبنا في هذه الليلة هو سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني الأزدي، هو من قبيلة الأزد، فهو عربي.

وُلِدَ أبو داود سنة اثنتين ومائتين يعني في القرن الثالث الهجري في القرن المفضل الذي قال فيه النبي ﷺ: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".

 

فصل – علم أبي داود :

رحل كغيره في طلب العلم، وأكثر من الرحلة كذلك أبو داود - رحمه الله تعالى -، فرحل إلى مصر، والحجاز عندما نقول الحجاز فنعني مكة، والمدينة، ورحل إلى الشام بمدنها: فلسطين، الأردن، وعسقلان وغيرها، وكذلك رحل إلى العراق: البصرة، والكوفة، وبغداد، واستقر في البصرة حتى توفي - رحمه الله تعالى -، ورحل إلى خراسان، وهرات، والري، وغيرها من البلاد، فكانت الرحلة عنوان المحدثين في ذلك الزمن، فكان كل مُحَدِّث لا بد أن يرحل وذلك حتى يجمع ويسمع أكثر فأكثر من حديث النبي ﷺ.

وتلقى أبو داود عن كثير من الشيوخ، ومن أشهر شيوخه وعليه تتلمذ، وعنه أكثر "أحمد بن حنبل"، ولأبي داود كتابين فقط أسئلة لأحمد، أسئلة في الرواة، وأسئلة في الفقه، فهو تخصص بأحمد واستفاد منه كثيراً، وقد أكرمه الإمام أحمد وكانت هذه من عادتهم في ذلك الزمان في طريقة الإكرام، أكرمه أحمد بأن روى عنه حديثاً مع أنه من كبار شيوخه إلا أنه أكرمه فروى عنه حديثاً، قال: "أنت شيخي في هذا الحديث".

وكذلك حدث أبو داود عن إٍسحاق بن راهوي قرين أحمد، وعن قتيبة بن سعيد، وكذلك حدث عن مسدد بن مسرهد، وكذلك ابن معين، وعن عبد الله بن مسلمة القعنبي، وغيرهم كثير من أهل العلم والفضل في ذلك الزمن.

وتتلمذ على أبي داود كذلك كثيرٌ من أهل العلم والفضل، كالإمام الترمذي، والنسائي، تتلمذا على أبي داود، وقلنا أحمد كذلك روى عنه حديثاً فيكون تلميذاً له في هذا، وذكروا كذلك مِن مَنْ روى عن أبي داود وأكثر الخلال أحمد بن محمد، وكذلك ابن أبي داود، أبو بكر عبد الله بن أبي داود كذلك روى عن أبيه فأكثر وكان من العلماء كذلك.

أثنى أهل العلم على أبي داود - رحمه الله تعالى - فهذا أحمد الهروى يقول: "كان أبو داود أحد حُفاظ الإسلام لحديث رسول الله ﷺ، وعلمه وعلله"، ويقول إبراهيم الحربى: "أُلين لأبي داود الحديث، كما أُلين لداود عليه السلام الحديد"، كما ألان الله الحديد لنبيه داود كذلك ألان الله الحديث لعبده أبي داود سليمان بن الأشعث، ويقول ابن حبان عن أبي داود: "أحد أئمة الدنيا فقهاً، وعلماً، وحفظاً، ونسكاً، وورعاً، وإتقانًا، جمع وصنف وذب عن السنن".

لأبي داود قصة وهو أنه جاءه أمير بغداد، جاء لأبي داود في الليل، طرق عليه الباب ليلاً، فجاءه الخادم وقال له: "هذا أمير بغداد جاء في مثل هذه الساعة"، فقال أبو داود: "ائذن له"، دعه يدخل، فدخل أمير بغداد، فلما سلَّم وجلس، قال له أبو داود: "ما أتى بالأمير في مثل هذه الساعة؟"، يعني فيه شيء تطلبه أن تأتي في مثل هذه الساعة؟، قال: "نعم"، قال: "وما هي هذه الحاجة؟"، قال: "أسألك ثلاثة أشياء"، قال: "هاتها"، قال: "أن ترحل إلى البصرة، فإنها قد خربت، وقلّ فيها العلم، وكثر فيها الجهل، فتأتي البصرة، فينفع الله بك العباد"، قال: "هذه الأولى، هات الثانية"، قال: "وأن تقرأ السنن على أولادي"، أن يقرأ أولادي عليك السنن، قال: "هذه الثانية، هات الثالثة"، قال: "وأن تُفرد لهم مجلساً"، يعني ما يقرأون مع الناس، يقرأون، يعني مجلس خاص لهم، قال: "أما الثالثة فلا، بل يجلسون مع عامة الناس، هذا علم الكبير والصغير فيه سواء"، يجلسون مع عامة الناس، قال: "إذاً يكونون خلف ستار"، قال: "يكونون خلف ستار"، ما فيه مشكلة، حتى لا يخالطوا العامة، قال: "يكونون خلف ستار"، لكن لا أفرد لهم مجلساً، قال: "نعم"، عندها رحل أبو داود إلى البصرة، ونفع الله به البصرة، ومات هناك - رحمه الله تبارك وتعالى -.

ثبت عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت عن ابن مسعود: "ما كان من أصحاب رسول الله ﷺ أشبه برسول الله ﷺ سمتاً، وهدياً، ودلاً من ابن مسعود"، فيقول أهل العلم: وكان علقمة يُشَبَّه بابن مسعود في هديه وسمته ودله، وكان إبراهيم يُشَبَّه بعلقمة كذلك في هديه وسمته ودله، وكان سفيان يُشَبَّه بإبراهيم، وكان منصور يُشَبَّه بسفيان، منصور بن المعتمر، وكان وكيع يُشَبَّه بمنصور، وكان أحمد يُشَبَّه بوكيع، وكان أبو داود يُشَبَّه بأحمد. فهذا ما ذُكِرَ عن أبي داود - رحمه الله تبارك وتعالى -.

وعاش أبو داود حياة حافلة بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى وكان من الزهاد، حيث ذكروا من القصص التي تدل على زهده، أنه كان يلبس قميصاً له كُمَّان، كمّ كبير واسع، وكمّ ضيق، فقالوا له: لماذا تلبس بهذه الطريقة يعني؟ كم واسع كبير، وكم صغير ضيق، لماذا؟ قال: "أما الكمّ الواسع فأضع فيه كتبي وحاجياتي"، قالوا: طيب واضح والثاني؟ قال: "ما لي حاجة"، ما في داعى لكم واسع، بس، هذا للحاجة، وذاك ما فيه حاجة إذاً يبقى كما هو.

وتوفي أبو داود - رحمه الله تبارك وتعالى - سنة خمس وسبعين ومئتين عن ثلاثة وسبعين سنة اشتغل بها في الذب عن سنة النبي ﷺ وحفظها ونشرها بين الناس.

 

فصل – سنن أبي داود :

أما سنن أبي داود فيقول أبو داود عن سننه وسبب تأليفه قال: "كتبت عن رسول الله ﷺ خمسمئة ألف حديث انتخبت منها هذا الكتاب"، طبعاً عندما يقول أهل العلم خمسمائة ألف حديث ما يقصدون المتون، وإنما يقصدون بهذه الأعداد كقول البخاري مثلاً: "أحفظ مئتي ألف حديث صحيح، وستمائة ألف حديث غير صحيح"، لا يقصدون المتون، ولكن يقصدون بالطرق، بطرقها و أسانديها، أحياناً يكون الحديث الواحد له عشرة طرق، عشرين طريقاً، فيقولون: هذا عشرين حديث، يعدونه هكذا، ولذلك الدارقطني - رحمه الله تبارك وتعالى -، وإن يسّر الله جلّ وعلا قد تكون هناك محاضرات أيضاً ننتقى بعض أئمة الحديث نتكلم عنهم فالإمام الدارقطني مثلاً جاءه رجل بهدية، ففرح بها الدارقطني، جزاك الله خير أخي، قال: أنا أهديك هدية، فحدثه بحديث النبي ﷺ: "تهادوا تحابوا" من سبعة عشر طريقاً، هذا لحفظه طبعاً واتقانه، قال طيب، وهذا طبعا، ما قال تعالي غداً أجمع لك طرق الحديث وكذا، لا حفظ سرداً، قال أحدثك بحديث "تهادوا تحابوا" من سبعة عشر طريقاً فحدث بها كلها، فهنا يعدون عنها سبعة عشر حديث، مع أنه في الحقيقة إيش؟ حديث واحد من أحاديث المتون، فكذلك كلام أبي داود هنا، عندما يقول: "أحفظ خمسمائة ألف حديث" يعني بطرقها، ثم انتقى منها هذه السنن وهذه الأحاديث الموجودة في السنن، ولذلك هذه الأحاديث إلى أربعة آلاف وثمانمائة حديث أيضاً فيها مكرر، وتختلف باختلاف الرواة عن أبي داود، تختلف باختلاف الرواة، تزيد قليلاً عن أربعة آلاف وثمانمائة، تصل إلى خمسة آلاف أحياناً.

 

شرطه في هذه السنن:

ما هي الشروط التي وضعها أبو داود؟ قال: "قد ذكرت" أي في السنن، "قد ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه"، (ذكرتُ الصحيح وما يشبهه وما يقاربه): الصحيح واضح، والذي يشبه الصحيح قال أهل العلم هو الحسن، أو الصحيح لغيره. وقالوا والذي يقاربه كذلك يحتمل الحسن ويحتمل صحيح لغيره ويحتمل حسن لغيره، قال: "ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه وما كان فيه وهن شديد بينته"، ما قال لم أذكره، معنى هذا أنه يذكر في كتابه ما كان فيه ضعف شديد، يذكر ما كان فيه ضعف شديد فيقول: "وما كان فيه وهن شديد بينته"، إذن يذكر الضعيف جداُ ولكنه لا يغفله بل يبينه .

شُرح هذا الكتاب واعتنى العلماء به ومن أفضل هذه الشروح: "معالم السنن" للخطابي - رحمه الله تعالى -، وكذلك "اختصار" للمنذري، ثم "حاشية" لابن القيم، وهذه  من التهذيب للسنن كلها مطبوعة مع بعض في كتاب واحد من ثمان مجلدات: "المعالم" للخطابي، ثم "الاختصار" للمنذر، ثم "الحاشية" لابن القيم، وهو كتاب قيم جداً ولكن الآن حسب ما أعلم أنه لا يُطبع إلا مفصولاً لا يطبع مع بعض يعني بهذه الطريقة.

وهناك شرح لابن حجر، وهناك شرح للنووي لكن لم يتمان في سنن أبي داود وهناك كذلك "عون المعبود في شرح سنن أبي داود" لعظيم أبادي، وهذه الكتب يعني موجودة ومطبوعة في متناول الجميع.

قال الخطابي عن سنن أبي داود: "كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنف في علم الدين كتاب مثله وقد رزق القبول من كافة الناس فصار حَكَماً بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم"، لأن أبا داود من أهل الحديث، وأهل الحديث لا يتبنون مذهباً، يعني ما تجد واحد من علماء الحديث حنبلي، أو مالكي، أو شافعي، أو حنفي، وإنما يتبنى الحديث وهذا في الجملة، في الغالب، كالبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وإسحاق وابن المنذر وغيرهم من أهل العلم، هؤلاء لا يتبنون مذهب من المذاهب وإنما مذهبهم الكتاب والسنة، الحديث، ما صح من الحديث، علماء مجتهدون.

وقد يكون بعضهم ممن يتبنى يعني مذهب من مذاهب كابن حبان مثلاً نقلوا عنه أنه كان شافعي أو الحاكم كذلك، أو الطحاوي أنه كان حنفياً، لكن في الجملة تجد أنهم يتبعون الحديث.

أبو داود لما صنع هذا الكتاب لم يتعصب لمذهب مع أن شيخه أحمد بن حنبل، مع هذا لم يتعصب لرأي أحمد، وإنما يذكر الأحاديث التي وصلته في هذه المسألة ويضعها في مكان في ترتيب معين وتنسيق وفِقْه من هذا الإمام.

لذلك جميع المذاهب تُقبل على هذا الكتاب بالذات لماذا؟ لأنه يجمع لهم كل الأحاديث التي وردت في هذه المسألة فهذا يستفيد من هذا الحديث، وهذا يستفيد من هذا الحديث، وهذا يستفيد من هذا الحديث.

كذلك قال ابن القيم عن سنن أبي داود وله عناية به قال: "كتاب السنن من الإسلام بالموضع الذي خصه الله به بحيث صار حكما بين أهل الإسلام وفصلا في موارد النزاع والخصام فإليه يتحاكم المنصفون فإنه  جمع شمل أحاديث الأحكام ورتبها أحسن ترتيب ونظمها أحسن نظام مع انتقاءها أحسن الانتقاء وطرحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء".

وقال النووي - رحمه الله تعالى -: "ينبغي للمشتغل بالفقه وغيره الاعتناء بسنن أبي داود وبمعرفته التامة فإن معظم أحاديثه يحتجّ بها مع سهولة تناوله وتلخيص أحاديثه وبراعة مصنفه واعتنائه بتهذيبه".

فهذا بالنسبة لسنن أبي داود - رحمه الله تبارك وتعالى - وهذا ما يخص الإمام أبي داود - رحمه الله جلّ وعلا -، والله أعلى وأعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

مقالات ذات صلة :