وهو اسم عظيم ورد في كتاب الله في موضعين: قوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ۚ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} [هود: 73]، وقوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 14-15]؛ برفع "المجيد"، وقد قرئ "المجيد" بالرفع نعتاً لله عزَّ وجل، وبالجرِّ نعتاً للعرش.
وهو من الأسماء الحسنى الدالة على أوصاف عديدة لا على معنى مفردٍ.
ومعناه: واسع الصفات عظيمها، كثير النّعوت كريمها، فالمجيد يرجع إلى عظمة أوصافه وكثرتها وسَعَتِها، وإلى عظمة ملكه وسلطانه، وإلى تفرده بالكمال المطلق والجلال المطلق والجمال المطلق، الذي لا يمكن العباد أن يحيطوا بشيء من ذلك، الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجلّ وأعلى، وله التعظيم والإجلال في قلوب أوليائه وأصفيائه، قد ملئت قلوبهم من تعظيمه وإجلاله والخضوع له والتذلل لكبريائه، لا مجدَ إلَّا مجدُه، ولا عظمة إلا عظمته، ولا جلال ولا جمال ولا كبرياء إلا جلاله وجماله وكبرياؤه، أسماؤه كلها مجدٌ، وصفاته مجدٌ، وأفعاله وأقواله مجدٌ، الممجَّد في ذاته وصفاته.
والله عز وجلّ مَجَّد نفسَه في كتابه في آيات عديدة، بل إنَّ القرآن الكريم كلَّه كتابُ تمجيد وتعظيم لله عزّ وجلّ، لا تخلو آيةٌ من القرآن من ذكر شيء من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحكيمة، وأعظم آي القرآن هي التي اشتملت على ذلك، فآية الكرسي التي هي أعظم آية في القرآن الكريم فيها من أسماء الله الحسنى خمسة أسماء، وفيها من صفات الله ما يزيد على العشرين صفة، وسورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن أخلصت لبيان أسماء الله الحسنى وصفاته العظيمة، وسورة الفاتحة التي هي أعظم سورة في القرآن الكريم نصفها ثناء على الله وتمجيد.
روى مسلم في "صحيحه"(1) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "قال الله تعالى: قسمتُ الصّلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل؛ فإذا قال العبد: الحمد لله ربّ العالمين؛ قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرّحمن الرّحيم؛ قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين؛ قال الله تعالى: مجّدني عبدي، فإذا قال: إيّاك نعبد وإياك نستعين؛ قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين؛ قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل".
والصّلاة كلّها قائمة على الثّناء والتّعظيم والتّمجيد للحميد المجيد سبحانه أهل الثناء كله والمجد، وقد كان رسول الله ﷺ إذا رفع رأسه من الرّكوع قال: "ربَّنا لك الحمد، ملء السموات والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثّناء والمجد، أحقّ ما قال العبد، وكلُّنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" رواه مسلم(1)، وفي ركوعه وسجوده يعظِّم الله ويمجِّده، وإذا قعد للتّشهد يثني على الله ويمجّده ويختم ذلك بقوله: "إنّك حميد مجيد"، فأوّل الصّلاة حمد وتمجيد، وآخرها حمد وتمجيد، بل كلها قائمة على الحمد والتمجيد.
قال ابن القيِّم رحمه الله: "وأحسن ما قرن اسم المجيد إلى الحميد، كما قالت الملائكة لبيت الخليل عليه السّلام: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۖ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ۚ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} [هود: 73]، كما شرع لنا في آخر الصّلاة أن نثني على الرّبّ تعالى أنه حميد مجيد، وشرع في آخر الرّكعة عند الاعتدال أن نقول: "ربنا ولك الحمد أهل الثّناء والمجد"، فالحمد والمجد على الإطلاق لله الحميد المجيد، فالحميد: الحبيب المستحق لجميع صفات الكمال، والمجيد: العظيم الواسع القادر الغني ذو الجلال والإكرام"(2).
وفي ختم التشهد باسم الله المجيد معنى لطيفٌ نبَّه عليه ابن القيم رحمه الله قال: "وتأمَّل كيف جاء هذا الاسم مقترناً بطلب الصّلاة من الله على رسوله كما علمناه ﷺ ؛ لأنه في مقام طلب المزيد، والتعرض لسعة العطاء وكثرته ودوامه، فأتى في هذا المطلوب باسم يقتضيه"(3).
لأنَّ المجد يدل على كثرة أوصاف الكمال وكثرة أفعال البر والخير وتعدد العطاء والنوال.
وأشرف أحوال العبد وأرفع مقاماته أن يكون مُثنياً على ربِّه معظِّما لجنابه ممجِّداً له، ومن أعظم ذلك تلاوة كلامه المجيد، وقد وصفه تبارك وتعالى بذلك في موضعين من القرآن، قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 21-22]، وقال تعالى: {ق ۚ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1].
فالقرآن مجيد أي: عليٌّ قدرُه، رفيعٌ شأنُه، عظيمةٌ مكانتُه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
ومما يمجَّد به الربُّ سبحانه حسنُ الثناء عليه تحميداً وتكبيراً وتسبيحاً وتهليلاً، ومَن لازَمَ ذلك سَعِد سعادةً لا شقاء معها، وفاز بخيري الدُّنيا والآخرة.
روى البخاري في "صحيحه"(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "إنَّ لله ملائكةً يطوفون في الطرق يلتمسون أهلَ الذِّكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلمُّوا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدّنيا، قال: فيسألهم ربُّهم عزّ وجل - وهو أعلم منهم -: ما يقول عبادي؟ قال: تقول: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجّدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشدَّ لك عبادة وأشدَّ لك تمجيداً، وأكثرَ لك تسبيحاً، قال: يقول: فما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنّة، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا ربّ ما رأوها، قال: فيقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشدَّ عليها حرصاً، وأشدّ لها طلباً، وأعظمَ فيها رغبة، قال: فمم يتعوَّذون؟ قال: يقولون: من النار، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: فيقولون: لا والله يا ربّ ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشدّ منها فراراً، وأشدّ منها مخافة، قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة، قال: هم الجلساء لا يشقى جليسُهم".
وإذا كان جليسُهم لا يشقى فكيف الشّأن بهم، نسأل الله الكريم من فضله.
****
(1) (رقم: 395).
(2) "التبيان في أقسام القرآن" (ص/ 125).
(1) (رقم: 477) من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه.
(3) "بدائع الفوائد" (1/ 144).
(1) (رقم: 6045).