• 10 نيسان 2017
  • 5,785

سلسلة من نحب - صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم - (21) - سيدنا عمير بن سعد رضي الله عنه :

 (( عمير بن سعيدٍ نسيج وحده )) { عمر بن الخطاب }

تجرّع الغلام عمير بن سعيدٍ الأنصاري كأس اليتم والفاقة(1) منذ نعومة أظافره .

فقد مضى أبوه إلى ربّه دون أن يترك له مالا ً أو معيلا ً .

لكنّ أمّه ما لبثت أن تزوّجت من ثري ٍ من أثرياء الأوس(2) , يدعى الجلاس بن سويد ٍ , فكفل ابنها عميرا ً , وضمه إليه .

وقد لقي عميرٌ من برّ الجلاس وحسن رعايته وجميل عطفه ما جعله ينسى أنّه يتيمٌ .

فأحبّ عميرٌ الجلاس حبّ الابن لأبيه , كما أولع الجلاس بعميرٍ ولع الوالد بولده .

وكان كلما نما عميرٌ وشبّ , يزداد الجلاس له حبا ً وبه اعجاباً , لما كان يرى فيه من إمارات(3) الفطنة والنجابة التي تبدو في كلّ عملٍ من أعماله , وشمائل(4) الأمانة والصّدق التي تظهر في كلّ تصرف من تصرفاته .

وقد أسلم الفتى عمير بن سعيدٍ , وهو صغير لم يتجاوز العاشرة من عمره إلّا قليلا ً , فوجد الإيمان في قلبه الغضّ مكانا ً خاليا ً فتمكّن منه , وألفى(5) الإسلام في نفسه الصّافية الشّفافة تربة خصبة فتغلغل في ثناياها , فكان على حداثة سنّه لا يتأخر عن الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكانت أمّه تغمرها الفرحة كلما رأته ذاهبا ً إلى المسجد أو آبيا ً منه , تارة ً مع زوجها وتارة ً وحده .

***

وسارت حياة الغلام عمير بن سعدٍ على هذا النحو : هانئة ً وادعة ً لا يعكّر صفوها معكّر , ولا يكدر هناءتها مكدّر , حتى شاء الله أن يعرّض الغلام اليافع(1) لتجربة ٍ من أشدّ التجارب عنفا ً و أقساها قسوة ً , وأن يمتحنه امتحانا ً قلّما مرّ بمثله فتى ً في سنّه .

ففي السنة التاسعة للهجرة أعلن الرسول صلوات الله وسلامه عليه عزمه على غزو الرّوم في تبوك(2) وأمر المسلمين بأن يستعدوا ويتجهّزوا لذلك .

وكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يغزو غزوة لم يصرّح بها , وأوهم أنّه يريد جهة غير الجهة التي يقصد إليها ,إلّا في غزوة تبوك , فإنّه بيّنها للناس لبعد الشّقة(3) , وعظم المشقّة , وقوّة العدو , ليكون الناس على بينة من أمرهم , فيأخذوا للأمر أهبته(4) ويعدّوا له عدته . وعلى الرغم من أن الصيف كان قد دخل , والحر قد اشتدّ , والثمار قد أينعت , والظلال قد طابت , والنفوس قد ركنت إلى التّراخي والتّكاسل , على الرغم من ذلك كلّه فقد لبّى المسلمون دعوة نبيّهم عليه الصلاة والسلام وأخذوا يتجهّزون ويستعدّون .

غير أن طائفة ً من المنافقين(5) أخذوا يثبّطون(6)  العزائم , ويوهنون الهمم(7) , ويُثيرون الشّكوك , ويغمزون(8) الرسول صلوات الله وسلامه عليه , ويطلقون في مجالسهم الخاصّة من الكلمات ما يدمغهم بالكفر دمغا ً(9) .

وفي يوم من هذه الأيام التي سبقت رحيل الجيش , عاد الغلام عمير بن سعد ٍ إلى بيته بعد أداء الصلاة في المسجد وقد امتلأت نفسه بطائفة مشرقة ٍ من صور بذل المسلمين وتضحيتهم رآها بعينيه , وسمعها بأذنيه .

فقد رأى نساء المهاجرين والأنصار يقبلن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينزعن حليّهنّ ويلقينه بين يديه ليجهّز بثمنه الجيش الغازي في سبيل الله .

وأبصر بعيني رأسه عثمان بن عفّان يأتي بجرابٍ فيه ألف دينار ٍ ذهبا ً , ويقدّمه للنبيّ عليه الصلاة والسلام .

وشهد عبد الرحمن بن عوف يحمل على عاتقه مائتي أوقيّة من الذهب ويلقيها بين يدي النبي الكريم .

فأخذ عمير يستعيد هذه الصور الفذة(1) الرائعة , ويعجب من تباطؤ الجلاس عن الاستعداد للرّحيل مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه , والتأخّر عن البذل على الرغم من قدرته ويساره(2) .

وكأنما أراد عمير أن يستثير همة الجلاس ويبعث الحميّة(3) في نفسه , فأخذ يقصّ عليه أخبار ما سمع ورأى وخاصّة ً خبر أولئك النّفر من المؤمنين الذين قدّموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم , وسألوه في لوعةٍ أن يضمّهم إلى الجيش الغازي في سبيل الله فردّهم النبيّ لأنه لم يجد عنده من الركائب ما يحملهم عليه , فتولوا(4) وأعينهم تفيض من الدّمع حزنا ً ألا يجدوا ما يبلّغهم أمنيّتهم في الجهاد , ويحقق لهم أشواقهم إلى الاستشهاد .

لكنّ الجلاس ما كاد يسمع من عمير ٍ ما سمع حتى انطلقت من فمه كلمة ٌ أطارت صواب(5) الفتى المؤمن .

إذ سمعه يقول : (( إن كان محمد ٌ صادقا ً فيما يدّعيه من النّبوة فنحن شرٌ من الحمير )) .

لقد شده(6) عمير ٌ مما سمع , فما كان يظنّ أنّ رجلا ً له عقل الجلاس ويخرج من فمه مثل هذه الكلمة التي تخرج صاحبها من الإيمان دفعة ً واحدة ًوتدخله في الكفر من أوسع أبوابه .

وكما تنطلق الآلات الحاسبة الدقيقة في حساب ما يلقى إليها من المسائل , انطلق عقل الفتى عمير بن سعد ٍ يفكّر فيما يجب عليه أن يصنعه .

لقد رأى أنّ في السكوت عن الجلاس والتستر عليه خيانة ً لله ورسوله , وإضرار بالإسلام الذي يكيد له المنافقون ويأتمرون به(7) .

وأنّ في إذاعة ما سمعه عقوقا ً بالرّجل الذي ينزل من نفسه منزلة الوالد , ومجازاة ً لإحسانه إليه بالإساءة , فهو الذي آواه من يتم ٍ وأغناه من فقر وعوّضه عن فقد أبيه .

وكان على الفتى أن يختار بين أمرين أحلاهما مرّ . وسرعان ما اختار ....

فالتفت إلى الجلاس وقال : والله يا جلاس ما كان على ظهر الأرض أحدٌ بعد محمد بن عبد الله أحب  إلي منك .

فأنت آثر(1) الناس عندي , وأجلهم يدا ً(2) علي , ولقد قلت مقالة ً إن ذكرتها فضحتك , وإن أخفيتها خنت أمانتي وأهلكت نفسي وديني , وقد عزمت على أن أمضي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأخبره بما قلت , فكن على بيّنة ٍ من أمرك .

مضى الفتى عمير بن سعد ٍ إلى المسجد , وأخبر النبي ّ عليه الصلاة والسلام بما سمع من الجلاس بن سويد ٍ .

فاستبقاه الرسول صلوات الله عليه عنده , وأرسل أحد أصحابه ليدعو له الجلاس .

وما هو إلّا قليل ٌ حتّى جاء الجلاس فحيّا رسول الله صلى الله عليه وسلم , وجلس بين يديه , فقال له النبيّ عليه الصلاة والسلام :

( ما مقالة ٌ سمعها منك عمير بن سعد ٍ ؟! ) وذكر له ما قاله .

فقال : كذب علي ّ يا رسول الله وافترى , فما تفوّهت بشيءٍ من ذلك .

وأخذ الصّحابة ينقّلون أبصارهم بين الجلاس وفتاه عمير بن سعد ٍ كأنهم يريدون أن يقرؤوا على صفحتي وجهيهما(3) ما يكنه(4) صدراهما .

وجعلوا يتهامسون : فقال واحد من الذين في قلوبهم مرضٌ(5) : فتى ً عاقٌ أبى إلّا أن يسيء لمن أحسن إليه .

وقال آخرون : بل إنّه غلامٌ نشأ في طاعة الله , وإنّ قسمات(6) وجهه لتنطق بصدقه .

والتفت الرسول صلوات الله عليه إلى عمير فرأى وجهه قد احتقن(7) بالدّم , والدّموع تتحدّر مدرارا ً من عينيه , فتتساقط على خدّيه وصدره وهو يقول :

اللّهمّ أنزل على نبيّك بيان ما تكلّمت به ....

اللّهمّ أنزل على نبيّك بيان ما تكلّمت به ....

فانبرى(1) الجلاس وقال : إنّ ما ذكرته لك يا رسول الله هو الحق , وإن شئت تحالفنا(2) بين يديك .

وإني أحلف بالله أني ما قلت شيئا ً ممّا نقله لك عمير .

فما إن انتهى من حلفه وأخذت عيون الناس تنتقل عنه إلى عمير بن سعد ٍ حتى غشيت(3) رسول الله صلوات الله وسلامه عليه السّكينة , فعرف الصّحابة أنّه الوحي , فلزموا أماكنهم وسكنت جوارحهم ولاذوا بالصمت(4) وتعلّقت أبصارهم بالنبيّ عليه الصلاة والسلام .

وهنا ظهر الخوف والوجل على الجلاس , وبدا التلهف والتّشوق(5) على عمير . وظلّ الجميع كذلك حتّى سرّي(6) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , فتلا قوله جلّ وعزّ : [ يحلفون بالله ما قالوا , ولقد قالوا كلمة الكفر , وكفروا بعد إسلامهم ] إلى قوله تعالى [ فإن يتوبوا يك(7) خيرا ً لهم , وإن يتولّوا يعذّبهم الله عذابا ً أليماً ](8) .

فارتعد الجلاس من هول ما سمع , وكاد ينعقد لسانه من الجزع , ثم التفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : بل أتوب يا رسول الله ..... بل أتوب .....

صدق عمير – يا رسول الله – وكنت من الكاذبين .

اسأل الله أن يقبل توبتي , وجُعلت فداك يا رسول الله .

وهنا توجّه الرسول صلوات الله عليه إلى الفتى عمير بن سعد ٍ , فإذا دموع الفرح تبلّل وجهه المشرق بنور الإيمان .

فمدّ الرسول يده الشريفة إلى أذنه وأمسكها برفق وقال: ( وفّت أذنك – يا غلام – ما سمعت , وصدّقك ربّك ) .

عاد الجلاس إلى حظيرة الإسلام وحسن إسلامه .

وقد عرف الصحابة صلاح حاله ممّا كان يغدقه(9) على عمير من برّ . وقد كان كلّما ذُكر عميرٌ : جزاه الله عني خيرا ً فقد أنقذني من الكفر , وأعتق رقبتي من النّار .

 

 

صورٌ مشرقة في شبابه :

(( لكم وددت أن لي رجالا ً مثل عمير بن سعد ٍ لأستعين بهم في أعمال المسلمين )) { عمر بن الخطاب }

وقفنا آنفا ً(1) على صورة فذّة(2) وضيئة ٍ من حياة الصحابي الجليل عمير بن سعد ٍ في صغره , فتعالوا نقف الآن على صورة رائعة مشرقة ٍ من حياته في كبره , وستجدون أن الصورة الثانية لن تقل عن الأولى جلالا ً وبهاء ً .

كان أهل (( حمص ))(3) شديدي التذمّر من ولاتهم , كثيري الّشكوى منهم , فما جاءهم من وال ٍ إلا وجدوا فيه عيوبا ً , وأحصوا له ذنوبا ً , ورفعوا أمره إلى خليفة المسلمين , وتمنّوا عليه أن يبدلهم به من هو خير ٌ منه .

فعزم الفاروق رضوان الله عليه أن يبعث إليهم بوالٍ لا يجدون فيه مطعنا ً ولا يرون في سيرته مغمزا ً(4) .

فنثر كنانة(5) رجاله بين يديه , وعجم(6) عيدانها عودا ً عودا ً , فلم يجد خيرا ً من عمير بن سعد .

وعلى الرغم من أنّ عميرا ً كان إذ ذاك يضرب(7) في أرض الجزيرة من بلاد الشام على رأس جيشه الغازي في سبيل الله , فيحرر المدن ويدك المعاقل(8) , ويخضع القبائل , ويقيم المساجد في كل أرض وطئتها قدماه .

على الرغم من ذلك فقد دعاه أمير المؤمنين وعهد إليه بولاية (( حمص )) , وأمره بالتّوجه إليها , فأذعن للأمر على كره ٍ منه لأنه كان لا يؤثر(1) شيئا ً على الجهاد في سبيل الله .

بلغ عمير (( حمص )) فدعا الناس إلى صلاة الجمعة .

ولما قُضيت الصلاة خطب النّاس , فحمد الله وأثنى عليه , وصلى على نبيّه محمد ثم قال :

(( أيّها النّاس  , إنّ الإسلام حصن ٌ منيع وباب وثيق(2) , وحصن الإسلام العدل وبابه الحق ، فإذا دكّ الحصن وحُطّم الباب استبيح حمى هذا الدّين ، وإنّ الإسلام ما يزال منيعا ً ما اشتدّ السّلطان ، وليست شدّة السلطان ضربا ً بالسّوط(3) ولا قتلا ً بالسيف ولكن قضاء ً بالعدل وأخذا ً بالحقّ )) .

ثم انصرف إلى عمله لينفّذ ما اختطه لهم من دستور في خطبته القصيرة .

قضى عمير بن سعد ٍ حولا ً(4) كاملا ً في (( حمص )) لم يكتب خلاله لأمير المؤمنين كتابا ً , ولم يبعث إلى بيت المسلمين من الفيء(5) درهما ً ولا دينارا ً , فأخذت الشّكوك تساور(6) عمر إذ كان شديد الخشية على ولاته من فتنة الإمارة , فلا معصوم عنده غير رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فقال لكاتبه : اكتب إلى عمير بن سعد ٍ وقل له : إذا جاءك كتاب أمير المؤمنين فدع حمص وأقبل عليه , واحمل معك ما جبيت من فيء المسلمين .

تلقّى عمير بن سعد ٍ عمر رضي الله عنه وعم عمير , فأخذ جراب زاده(7) وحمل على عاتقه(8) قصعته(9) ووعاء وضوئه , وأمسك بيده حربته , وخلّف حمص وإمارتها وراءه , وانطلق يحث الخطا – مشيا ً على قدميه – إلى المدينة .

فما كاد يبلغ عمير المدينة حتى كان قد شحب لونه , وهزل جسمه وطال شعره , وظهرت عليه وعثاء(1)  السفر .

دخل عمير على  أمير المؤمنين عمر بن الخطاب , فدهش الفاروق من حالته وقال:

ما بك يا عمير ؟!

فقال : ما بي من شيء – يا أمير المؤمنين – فأنا صحيح معافى – بحمد الله – أحمل معي الدنيا كلّها وأجرّها من قرنيها .

فقال : وما معك من الدنيا ؟ [ وهو يظنّ أنّه يحمل مالا ً لبيت مال المسلمين ] .

فقال : معي جرابي وقد وضعت فيه زادي .

ومعي قصعتي آكل فيها وأغسل رأسي وثيابي .

ومعي قربة لوضوئي وشرابي .

ثم إنّ الدنيا كلّها – يا أمير المؤمنين – تبع لمتاعي هذا , وفضلةٌ لا حاجة لي لأحد غيري فيها .

فقال عمر : وهل جئت ماشيا ً ؟!

قال : نعم يا أمير المؤمنين .

فقال: أما أُعطيت من الإمارة دابة ً تركبها ؟

فقال: هم لم يعطوني , وأنا لم أطلب منهم .

فقال : وأين ما أتيت به لبيت المال ؟

فقال : لم آت بشيءٍ .

فقال : ولم ؟!

فقال : لما وصلت إلى حمص , جمعت صلحاء أهلها , ووليتهم جمع فيئهم , فكانوا كلما جمعوا شيئا ً منه , استشرتهم في أمره ووضعته في موضعه , وأنفقته على المستحقّين منهم .

فقال عمر لكاتبه : جدّد عهدا ً لعميرٍ على ولاية حمص .

فقال عمير : هيهات(2) .... فإنّ ذلك شيءٌ لا أريده , ولن أعمل لك ولا لأحد بعدك يا أمير المؤمنين .

ثم استأذنه بالذّهاب إلى قريةٍ في ضواحي المدينة يقيم بها أهله , فإذن له .

لم يمض على ذهاب عمير إلى قريته وقت طويل حتى أراد عمر أن يختبر صاحبه , وأن يستوثق من امره , فقال لواحد ٍ من ثقاته يدعى الحارث :

انطلق يا حارث إلى عمير بن سعدٍ , وانزل كأنك ضيفٌ , فإن رأيت عليه آثار نعمةٍ , فعد كما أتيت .

وإن وجدت حالاً شديدة ً فأعطه هذه الدنانير . وناوله صرّة فيها مائة دينارٍ .

انطلق الحارث حتى بلغ قرية عمير بن سعدٍ , فسأل عنه فدُلّ عليه .

فلمّا لقيه قال: السلام عليك ورحمة الله .

فقال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته , من أين قدمت ؟

فقال : من المدينة .

فقال : كيف تركت المسلمين .

فقال : بخير .

فقال : كيف أمير المؤمنين ؟

فقال : صحيحٌ صالح .

فقال : أليس يقيم الحدود ؟!

قال : بلى .

فقال : اللهمّ أعن عمر , فإنّي لا أعلمه إلّا شديد الحب ّ لك .

أقام الحارث في ضيافة عمير بن سعدٍ ثلاث ليالٍ , فكان يخرج له في كلّ ليلةٍ قرصا ً من الشعير .

فلمّا كان اليوم الثالث , قال للحارث رجلٌ من القوم : لقد أجهدت(1) عميرا ً وأهله , فليس لهم إلّا هذا

القرص الذي يؤثرونك به(1) على أنفسهم , وقد أضرّ بهم الجوع والجهد , فإن رأيت أن تتحوّل عنهم إليّ فافعل .

عند ذلك أخرج الحارث الدّنانير , ودفعها إلى عمير .

فقال عمير : ما هذه ؟!

فقال الحارث : بعث بها أمير المؤمنين .

فقال : ردّها إليه , واقرأ عليه السلام , وقل له : لا حاجة لعميرٍ بها .

فصاحت امرأته – وكانت تسمع ما يدور بين زوجها وضيفه – وقالت : خذها – يا عمير – فإن احتجت إليها أنفقتها , وإلّا وضعتها في مواضعها(2) , فالمحتاجون هنا كثيرٌ .

فلما سمع الحارث قولها , ألقى  الدنانير بين يدي عمير وانصرف , فأخذها عميرٌ وجعلها صررٍ صغيرةٍ ولم يبت ليلته تلك إلّا بعد ان وزّعها بين ذوي الحاجات , وخص منهم أبناء الشهداء .

عاد الحارث إلى المدينة فقال له عمر : ما رأيت يا حارث ؟

فقال : حالا ً شديدةً يا أمير المؤمنين .

فقال : أدفعت إليه الدنانير .

فقال: نعم , يا أمير المؤمنين .

فقال : وما صنع بها ؟!

فقال: لا أدري , وما أظنّه يبقي لنفسه منها ً درهما ً واحدا ً .

فكتب الفاروق إلى عميرٍ يقول : إذا جاءك كتابي هذا فلا تضعه من يدك حتّى تقبل عليّ .

توجّه عميرٌ بن سعدٍ إلى المدينة , ودخل على أمير المؤمنين , فحيّاه عمر ورحّب به وأدنى مجلسه(3) ثم قال له :

ما صنعت بالدّنانير يا عمير ؟!

فقال : وما عليك منها يا عمر بعد أن خرجت لي عنها ؟!!!

فقال: عزمت عليك أن تخبرني بما صنعت بها .

فقال : أدّخرتها لنفسي لأنتفع بها في يومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون ...

فدمعت عينا عمر , وقال : أشهد أنّك من الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة(1) ثم أمر له بوسقٍ(2) من الطعام وثوبين .

فقال : أمّا الطعام فلا حاجة لنا به يا أمير المؤمنين , فقد تركت عند أهلي صاعين من شعيرٍ , وإلى أن نأكلهما يكون الله – عز وجل – قد جاءنا بالرّزق .

وأمّا الثّوبان فآخذهما لامّ فلانٍ [ يعني زوجته ] , فقد بلي ثوبها وكادت تعرى .

لم يمض طويل وقتٍ على ذلك الّقاء بين الفاروق وصاحبه حتّى أذن الله لعمير بن سعدٍ بأن يلحق بنبيّه وقرّة عينه محمد بن عبد الله بعد أن طالت أشواقه إلى لقائه .

فمضى عميرٌ في طريق الآخرة وادع النّفس , واثق الخطو , لا يثقل كاهله شيءٌ من أحمال الدنيا , ولا يؤود(3) ظهره عبءٌ من أثقالها .

مضى ليس معه إلّا نوره , وورعه وتقاه ....

فلما بلغ الفاروق نعيه وشّح الحزن وجهه , واعتصر الأسى فؤاده وقال :

((وددت أنّ لي رجلا ً مثل عمير بن سعدٍ أستعين بهم في أعمال المسلمين )) .

رضي الله عن عمير بن سعد ٍ وأرضاه ....

فقد كان نمطا ً فريدا ً بين الرّجال .....

وتلميذا ً متفوّقا ً في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم  .....

 

(1) الفاقة : الفقر .

(2) الأوس : قبيلة عظيمة من الأزد كانت تسكن المدينة وقد عاهدت الرسول صلوات الله عليه على حمايته .

(3) أمارات الفطنة : علامات الذكاء .

(4) الشمائل : الخصال والصفات .

(5) ألفى : وجد .

(1) اليافع :الغلام الذي قارب البلوغ .                                          (6) يثبطون العزائم : يضعفون الهمم

(2) تبوك : موضع على حدود الشام وقعت فيه المعركة المعروفة بين المسمين والروم .

(3) لبعد الشقّة :لبعد المسافة .                                                   (7) يوهنون الهمم :يضعفون الهمم .

(4) يأخذوا للأمر أهبته : يستعدوا للأمر .                                    (8) يغمزون الرسول : يذكرونه بسوء .

(5) المنافقون : الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام .                  (9) يدمغهم بالكفر دمغا ً : يسمهم بالكفر وسماً

(1) الصور الفذة : الصور الرائعة الفريدة .                         (5) أطارت صواب الفتى : أذهلته وأطارت عقله.

(2) اليسار : الغنى .                                                     (6) شدّه : دهش وتحيّر.

(3) الحميّة :النخوة والمروءة .                                        (7) يأتمرون به :يحدّث بعضهم بعضا ً بإيذائه .

(4) فتولوا : فراجعوا.

(1) آثر الناس عندي : أحب ّ الناس وأقربهم إليّ .                   (5) في قلوبهم مرض : في قلوبهم شبهة نفاق .

(2) أجلهم يدا ً : أعظمهم نعمة ً علي .                                 (6) قسمات وجهه : ملامح وجهه .

(3) صفحة الوجه : ما يبدو منه للناظر .                              (7) احتقن بالدم : تجمع الدم فيه .

(4) يكنه صدراهما : يخفيه صدراهما .

(1) ابرى : برز واندفع .                                               (6) سرّي عن الرسول : زال عنه أثر الوحي .

(2) تحالفنا : حلف كل منا على صحة كلامه .                      (7) يك : أصلها يكن حذفت نونها تخفيفا ً .

(3) غشية السكينة : نزلت عليه وغطته .                            (8) سورة التوبة الآية 74 .

(4) لاذوا بالصمت :التزموا الصمت وانقطعوا عن الكلام .      (9) يغدقه : يعطيه بسخاء .

(5) التّشوّق : التّطلع .

(1) أوضأ : أكثر وضاءة وإشراقا ً .

(1) آنفا ً : قريبا ً .

(2) فذا ً : فريدا ً .

(3) حمص مدينة في أواسط سورة بين دمشق وحلب وفيها قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه .

(4) مغمزا ً : عيبا ً .

(5) الكنانة : الجعبة التي توضع فيها السهام .

(6) عجم عيدانها : اختبرها وفي الكلام تشبيه للرجال بالسهام .

(7) يضرب : يسير غازيا ً .

(8) المعاقل : الحصون .

(1) لا يؤثر : لا يفضل .                                 (6) تساور عمر : تدور في نفس عمر .

(2) وثيق : متين .                                         (7) جراب زاده : كيس طعامه .

(3) السوط : جلد مضفور يُضرب به .                (8) العاتق : الكتف .

(4) حولا ً : عاما ً.                                       (9) القصعة : وعاء يؤكل فيه .

(5) الفيء : الخراج .

(1) وعثاء السفر : آثار مشقة السفر .               (2) هيهات : كلمة تقال عند استبعاد أمرٍ ما .

(1) أجهدت عميرا ً : عنيته وألحقت به الضرر .

(1) يؤثرونك : يفضلونك .                               (3) أدنى مجلسه : قرّبه إليه دلالة على الإكرام .

(2) وضعتها في مواضعها : أنفقتها في طريقها .

(1)  الخصاصة : الحاجة .                                 (3) يؤود ظهره : يثقل ظهره ويتعبه .

(2) الوسق : ستون صاعا ً وهي تقدر بحمل بعير .

 

(*) للاستزادة من أخبار عمير بن سعد انظر :

1- الإصابة : ( الترجمة ) 6036 .

2- الاستيعاب ( على هامش الإصابة ) : 2/487 .

3- أسد الغابة :1/293 .

4-   سير أعلام النبلاء :1/86 وما بعدها .

5- حياة الصحابة ( انظر الفهارس في الجزء الرابع ) .

6- قادة فتح العراق والجزيرة :513 وما بعدها .

7- الأعلام : 5/264 .

 

مقالات ذات صلة :