المقدمة :
هو يونس بن مَتَّى كما جاء في الحديث عن النبي محمد ﷺ (1)، وقال بعضهم: إن "مَتَّى" اسم أمه، وأكثر أهل العلم على أن مَتَّى اسم أبيه، وهذا هو الصحيح، فهو يونس بن مَتَّى نسبة إلى أبيه لا نسبة إلى أمه.
(1) أخرجه البخاري (3415)، ومسلم (2373).
فصل - نسب يونس عليه السلام:
ويونس صلوات الله وسلامه عليه مِنْ نسل يعقوب صلوات الله وسلامه عليه فهو مِنْ أنبياء بني إسرائيل، وقيل: إنه من أولاد بنيامين بن يعقوب أخي يوسف من أمه وأبيه.
فصل - ذكر يونس عليه السلام:
ذكره الله - تبارك وتعالى - في كتابه العزيز باسمه أربع مرات، وذكره مرتين بوصفه بنسبته إلى الحوت كما قال جلّ وعلا: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء: 87] فنسبه إلى النون، وقال: {وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48] فنسبه إلى الحوت، والحوت هو: النون.
فصل - دعوة يونس عليه السلام لقومه وغضبه عليهم:
يونس صلوات الله وسلامه عليه كغيره من إخوانه الأنبياء الذين أرسلهم الله - تبارك وتعالى - يدعون الناس إلى عبادة الله وحده، وألا يشركوا به شيئاً، فكان أن واجهه قومه كما واجه سائر الأقوام أنبياء الله - جلّ وعلا -، فكفروا به، وكذّبوه، وامتنعوا عن متابعته صلوات الله وسلامه عليه.
ذكر أهل العلم أن يونس عليه السلام أُرسل إلى قرية في الموصل يقال لها: نينوى في العراق، واستمر في دعوته ما شاء الله له، ثم بعد ذلك خرج مغاضباً، وذلك لما استعصى عليه قومه وامتنعوا عن متابعته صلوات الله وسلامه عليه، فخرج من بين أظهرهم، وتوعدهم بعذاب ينزل عليهم من الله عزّ وجلّ حالهم في ذلك حال سائر الأقوام الذين كذبوا أنبياء الله جلّ وعلا.
فصل - توبة قوم يونس عليه السلام بعد انصرافه عنهم:
لما خرج صلوات الله وسلامه عليه مِنْ بين أظهرهم قذف الله - جلّ وعلا - في قلوبهم التوبة والإنابة والخوف، وذلك لما شاهدوا مقدمات هذا العذاب الذي توعدهم به يونس صلوات الله وسلامه عليه، وعند ذلك تابوا إلى الله - جلّ وعلا - وأنابوا ولجؤوا إليه، وخرج النساء والرجال يبكون خوفاً من الله سبحانه وتعالى أن يُلْحق بهم العذاب، فلما رأى الله - جلّ وعلا - منهم ذلك كشف عنهم العذاب، ولم يعذبهم، وذلك رحمة منه، قال جلّ ذكره: {فَلَولا كانَت قَريَةٌ آمَنَت فَنَفَعَها إيمانُها إِلّا قَومَ يونُسَ لَمّا آمَنوا كَشَفنا عَنهُم عَذابَ الخِزيِ فِي الحَياةِ الدُّنيا} [يونس: 98]، وقوله: {إِلّا قَومَ يونُسَ} [يونس: 98].
قال أكثر أهل العلم: إنها استثناء منقطع أي: لكن قوم يونس مع أنهم رأوا العذاب، ومع هذا كشف الله عنهم العذاب لما تابوا إليه، وقيل: إنها بمعنى "غير"، فيكون متصلاً، وهم مستثنون مِنْ عامة الناس.
فصل - عدد قوم يونس عليه السلام:
أرسله الله سبحانه وتعالى إلى مائة ألف، قال جلّ وعلا: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] يزيدون كم؟ قيل: يزيدون بعشرين ألفاً أو ثلاثين أو أربعين.
قال أهل العلم: معنى "أو" هنا أي: في نظر الرائين، يعني إذا رآهم الرائي قال: هؤلاء مائة ألف أو يزيدون قليلاً، كما قال النبي ﷺ في بدر لمن سأل عن قريش: كم هم؟ قال: لا أدري هم كثير، قال: كم يذبحون - يعني من الإبل -؟ قال: تسعة أو عشرة، فقال النبي ﷺ : "هم ما بين التسعمائة إلى الألف"، أي: في نظر الرائي.
القول الثاني: هو أن "أو" هنا للإضراب، بمعنى "بل" أي: وأرسلناه إلى مائة ألف بل يزيدون، أي: يزيدون عن المائة ألف، وهذا مثل قول الله جلّ وعلا في وصف الكفار من بني إسرائيل {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] ف"أو" هنا بمعنى: "بل"؛ أي: هي كالحجارة، بل أشد قسوة، بدليل أن الله - جلّ وعلا - أثنى على الحجارة في مقابل قلوبهم، فقال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّـهِ} [البقرة: 74] ويكون المعنى: وأرسلناه إلى مائة ألف بل يزيدون على المائة ألف، وهذا ظاهر واضح.
فصل - التقام الحوت هل كان قبل النبوة أم بعدها؟
واختلف أهل العلم في يونس صلوات الله عليه هل التقمه الحوت قبل أن يرسله الله إلى قومه أم أرسله قبل ذلك ثم ذهب مغاضباً فابتلعه الحوت؟ يقول الله جلّ وعلا: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٣٩﴾ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴿١٤٠﴾ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ﴿١٤١﴾ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴿١٤٢﴾ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ﴿١٤٣﴾ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿١٤٤﴾ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴿١٤٥﴾ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ﴿١٤٦﴾ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴿١٤٧﴾ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 148:139]، وهذه الآيات العشر هي خلاصة قصة يونس صلوات الله وسلامه عليه.
يخبر الله جلّ وعلا أن يونس عليه السلام كان من المرسلين: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٣٩﴾ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات: 140:139]، وذلك لما دعا قومه إلى عبادة الله تبارك وتعالى وأبوا عليه غضب الله جلّ وعلا، غضب عليهم لأنهم لم يؤمنوا، ولكن قبل أن يأذن الله له، كما هو الحال في قصة لوط عليه السلام لما أمره الله عزّ وجلّ أن يخرج، وقصة نوح عليه السلام عندما أمره الله أن يركب السفينة وغيرهما من الأنبياء، فالله جلّ وعلا يأمرهم بالخروج لأنه سيُنزل على قومهم العذاب، ويونس عليه السلام هنا خرج قبل أن يأذن الله له بالخروج، فركب سفينة في البحر وكادوا يغرقون، عند ذلك دار الأمر إما أن يبقوا جميعاً في السفينة ثم تنكفأ ويغرقون جميعاً، وإما أن يُلقوا بعضهم في البحر فتخف السفينة فتبقى ولا يغرق أحد، وقيل: إنهم أُلقي في روعهم أن فيكم من عصى الله جلّ وعلا فألقوه حتى تنجوا مِنْ هذا العذاب، وعند ذلك لم يروا بُداً من القرعة، وذلك أن هذا هو الاختيار الثاني أن يلقوا بعضهم بدلاً مِنْ أن يلقى الجميع حتفه، فعملوا قرعةً فوقعت القرعةُ على يونس صلوات الله وسلامه عليه كما قال الله جلّ وعلا: {فَسَاهَمَ} [الصافات: 141] أي: مع من ساهم {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] أي: من المغلوبين في هذه القرعة، كل واحد يضع سهمه ثم يخرج سهم الذي سَيُلقي بنفسه.
وذكر بعض أهل العلم أنه لما وقعت القرعة على يونس صلوات الله وسلامه عليه وكانوا يعرفون له قدره، وقيل أنه كان غريباً عنهم، فاستحيوا منه فقالوا: نعيد القرعة، فأعادوا القرعة مرة ثانية فوقعت عليه، وعند دلك قال لهم: هذا أمر الله عزّ وجلّ فألقى نفسه في البحر صلوات الله وسلامه عليه لأمر يريده الله جلّ وعلا، ولما ألقى يونس عليه السلام نفسه في البحر التقمه الحوت مباشرة أمام أعين الناس قال الله جلّ وعلا: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142] ابتلعه الحوت وأمره الله جلّ وعلا كما قال أهل العلم ألا يكسر له عظماً وألا يأكل له لحماً(1) فبقي بجسده كما هو في بطن الحوت.
(1) ورد حديث مرفوع بهذا المعنى، ولكنه لا يصح مرفوعاً.
فصل - يونس عليه السلام في بطن الحوت:
ولما استقر في بطن الحوت حسب أنه قد مات فحرك جوارحه فإذا هي تتحرك، فخر لله ساجداً وقال: رب اتخذت لك مسجداً لم يعبدك أحدٌ في مثله.
فصل - مدة بقائه عليه السلام في بطن الحوت:
كم لبث يونس في بطن الحوت؟ هذا غير معلوم وإنما الذي ذكره الله جلّ وعلا فيه العبرة هو أنه التقمه الحوت وهو مليم، وهو أنه لبث في بطنه فترة ثم خرج صلوات الله وسلامه عليه كما قال جلّ وعلا: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ﴿١٤٣﴾ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 144:143] إذاً لبث وقتاً معيناً وهو غير معلوم، وكل من ادعى وقتاً فلا دليل عنده، ولكن المشهور عند أهل العلم أنه التقمه الحوت ضحى وألقاه عشياً يعني: فترة قصيرة في يوم واحد، وقيل: التقمه الحوت ثلاثة أيام، وهذان أشهر قولين في هذه المسألة، والعلم عند الله جلّ وعلا، وهذه مِنْ أخبار بني إسرائيل وأخبارهم كما مر بنا كثيراً لا نقبلها ولا نرفضها، ونقول: علمها عند ربي جلّ وعلا.
فصل - معنى قوله تعالى: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}
يقول الله تبارك وتعالى: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَـهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] ذو النون: صاحب النون، والنون هو الحوت إذاً هو يونس صلوات الله وسلامه عليه {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء: 87] أي: ذهب مغاضباً قومه {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } [الأنبياء: 87] تحتمل ثلاثة معانٍ:
الأول: ظن ألن نستطيع أن نهلكه، وهذا باطل بالإجماع لأن هذا لا يليق بآحاد المسلمين بل لا يكون مسلماً مَنْ ظن أن الله لا يقدر على ذلك، فكيف يمكن أن نظن هذا في نبي من الأنبياء أنه دار في خُلده أن الله عزّ وجلّ لا يقدر؟!
الثاني: ألا نضيق عليه كما قال جلّ وعلا: {اللَّـهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الروم: 37] أي: يبسط لبعض الناس ويُضيق على آخرين، {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي: من ضُيق عليه رزقه، وقال جلّ وعلا: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّـهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، فيكون هنا مِنْ التقدير وهو التضييق، وهذا ممكن، أي: ظن يونس عليه السلام أنه لن نُضيق عليه؛ لأنه فعل ما بوسعه أن يفعله، فقد أدى رسالته وهم كفروا به فتوعدهم بالعذاب وخرج وما ظن أن الله سيضيق عليه، وظن أن الله عزّ وجلّ سيرسله إلى قوم آخرين يؤمنون به ويتبعونه ويعبدون الله جلّ وعلا، وهذا معنى مقبول.
الثالث: أن نقضي عليه، مِن القضاء والقدر ومنها قوله جلّ وعلا: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 12] أي: حُكم وقُضي فيه، ومنه سُميت ليلة القدر أي: التي تقدر فيها الأقدار وتُحسم كما قال جلّ وعلا: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] وهذا المعنى أيضاً مقبول.
فصل - نداء يونس عليه السلام في بطن الحوت:
يقول الله جلّ وعلا: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنبياء: 87] نص أهل العلم أنها ثلاثة ظلمات:
1- ظلمة بطن الحوت.
2- وظلمة البحر فالحوت في البحر.
3- وظلمة الليل وهذا يقوي أن يونس عليه السلام مكث في بطن الحوت إلى الليل.
فاجتمعت هذه الظلمات على يونس صلوات الله وسلامه عليه في مكان واحد كما قال يونس عليه السلام: اتخذت لك مسجداً في مكان لم يتخذه أحد قبلي، بُعْدٌ تام عن الرياء والسمعة في بطن الحوت في لجة البحر وفي الليل الذي لا يراه أحد ثم نادى يونس صلوات الله وسلامه عليه ربه قال: {لَّا إِلَـهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] وقد قال الله جلّ وعلا: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٣٩﴾ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات: 140:139]، والإباق هو خروج العبد عن طاعة سيده، عبدٌ آبق: إذا خرج عن طاعة سيده وهرب وتركه وقد جاء في الحديث عن النبي ﷺ : "ثلاثة لا يقبل الله لهم صرفاً ولا عدلاً" منهم: "عبد آبق من سيده"(1) وسماه الله عبداً آبقاً هنا لأنه خرج دون أن يأذن الله له سبحانه وتعالى، ولذلك قال جلّ وعلا: {وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142] أي: مستحق للملامة مِنْ الله جلّ وعلا والعتاب لأنه لم يصبر الصبر الذي كان يجب عليه أن يصبره، ولذلك قال الله جلّ وعلا لنبيه ﷺ : {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] أي: لا تفعل فعلة صاحب الحوت، حيث إنه لم يصبر الصبر اللائق بالأنبياء عليهم السلام.
(1) بنحوه أخرجه الترمذي (360)، وحسنه الشيخ الألباني في "صحيح الترغيب" (487) وأخرج مسلم (70): "إذا أَبَقَ العبدُ لمْ تُقْبَل له صلاة".
فصل - فضل التسبيح:
قال جلّ وعلا: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ﴿١٤٣﴾ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 144:143] قال أهل العلم: أي: لولا أنه قال تلك الكلمة الطيبة: {لَّا إِلَـهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] وقبل أن يدخل بطن الحوت {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143]، في ماضيه {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 144]، ولذلك قال أهل العلم: اذكروا الله تعالى في الرخاء يذكركم في الشدة سبحانه وتعالى، فإن يونس كان من الذاكرين الله كثيراً والحافظين لحدود الله جلّ وعلا فكان مسبحاً ذاكراً لله قبل أن يدخل بطن الحوت {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ﴿١٤٣﴾ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 144:143]، وعلى العكس فإن فرعون كان عبداً طاغياً ناسياً لله جلّ وعلا فلما أدركه الغرق قال: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلـهَ إِلَّا الَّذي آمَنَت بِهِ بَنو إِسرائيلَ وَأَنا مِنَ المُسلِمينَ} [يونس: 90]، فماذا فعل الله به؟ أهلكه، بينما نجى الله عزّ وجلّ يونس عليه السلام {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴿١٤٥﴾ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} [الصافات: 146:145] وماذا قال لفرعون: {الآن وَقَد عَصَيتَ قَبلُ } [يونس: 91] فلم يقبل الله من فرعون مع أنه قَبِلَ سبحانه من يونس عليه السلام لما مضي من فرعون وما مضي من يونسَ عليه السلام.
فصل - دعوة مستجابة:
وعن سعد بن أبي وقاص ( قال: مررت بعثمان في المسجد فسلمت عليه فملأ عينه مني ثم لم يرد عليَّ السلام، فأتيت عمر فقلت له: يا أمير المؤمنين هل حدث في السلام شيء؟ قال: لا ولماذا ذاك؟ قال: إني مررت على عثمان فسلمت عليه فلم يرد عليَّ السلام، فأرسل عمر إلى عثمان فجاء عثمان، فقال له عمر: ما منعك ألا تكون رددت على أخيك السلام؟ فقال عثمان: ما فعلت ولا سلم عليّ، فقال سعد: بلى مررت عليك فسلمت عليك فملأت عينك مني وما رددت عليَّ السلام، قال: والله إني ما رأيتك، فحلف عثمان وحلف سعد، ثم بعد ذلك تذكر عثمان فقال: بلى واستغفر الله وأتوب إليه، إنك مررت بي آنفاً وأنا أحدث نفسي بكلمة قالها رسول الله ﷺ لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشى قلبي وبصري غشاوة، قال سعد: فأنا أنبئك بها، إن رسول الله ﷺ ذكر لنا أول دعوة، فجاء أعرابي فشغله، حتى قام رسول الله ﷺ ، فاتبعته فلما أشفقت أن يسبقني إلى البيت قبل أن أصل إليه ضربت بقدمي الأرض، [فهو لا يستطيع أن ينادي النبي ﷺ أدباً]، حتى ينتبه لي النبي ﷺ ، فالتفت إلىَّ رسول الله ﷺ فقال: مَنْ هذا أبو إسحاق؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: فمه؟ قال: قلت: لا والله إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك وما سمعنا هذه الدعوة فقال النبي ﷺ : "نعم، دعوة أخي ذي النون إذ هو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له"(1).
ومع أن دعوة يونس صلوات الله وسلامه عليه ذكر {لَّا إِلَـهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، وسماها الله دعاءً لأنها متضمنة للدعاء، ولذلك قال النبي ﷺ لما سأله الصحابة عن شيء يدعون به ربهم جلّ وعلا في عرفة قال: "خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"(1) ولم يذكر دعاءً وإنما ذِكْرٌ متضمن للدعاء كدعوة يونس صلوات الله وسلامه عليه، وكما قال أيوب صلوات الله وسلامه عليه {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] فإنه ذكر فيه تضرع لله جلّ وعلا يتضمن كذلك الدعاء لله جلّ وعلا.
(1) أخرجه الترمذي (3505)، والنسائي في "السنن الكبرى" (10492) مختصراً، وبتمامه أخرجه أحمد (1/170)، وهو صحيح كما في "صحيح الترغيب" (1644).
(1) أخرجه الترمذي (3585) وحسنه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1503).
فصل - يونس عليه السلام يخرج من بطن الحوت:
قال يونس عليه السلام هذه الكلمات وهو في بطن الحوت وعندها قال الله تبارك وتعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات: 145] أي: ألقيناه في مكان مقفرٍ ليس فيه أحد {وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات: 145] أي: مريض قد نَحَل جسمه وضعف بعدما كان في بطن الحوت، وهذا يؤيد قول من قال أنه جلس أياماً في بطن الحوت والعلم عند الله جلّ وعلا، المهم أنه ألقاه الحوت وهو سقيم ضعيف الجسم صلوات الله وسلامه عليه {وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} [الصافات: 146]، قال المُبَرِّد والزجاج: كل شجر لا يقوم على ساق، وإنما يمتد على وجه الأرض فهو يقطين قال: ومنه الدُباء والقرع والبطيخ والحنظل وجميع هذه النباتات تمشى في الأرض كلها تُسمى يقطيناَ وسُميت يقطيناً لأنها تقطن الأرض أي: اتخذت الأرض مكاناً لها، فلا، ترتفع ويقال: فلان قطن هذا المكان أي: استقر فيه والتزمه.
فصل - يونس عليه السلام يرجع إلى قومه:
لما ألقاه الحوت أمره الله جلّ وعلا أن يرجع إلى قومه، وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول: {وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ﴿١٤٦﴾ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147:146] أي: كان الإرسال بعد أن ألقاه الحوت، وقيل: وهو المشهور عند أهل العلم أنه أرسله الله مرة ثانية إلى قومه بعد أن تابوا وتضرعوا إلى الله جلّ وعلا {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴿١٤٧﴾ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات: 148:147] وجاء في آية أخرى قول الله جلّ وعلا: {إِلّا قَومَ يونُسَ لَمّا آمَنوا كَشَفنا عَنهُم عَذابَ الخِزيِ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَمَتَّعناهُم إِلى حينٍ} [يونس: 98] يعني: هل سيعذبون في الآخرة؟ هذا أمر وارد ولكن يقطع على هذا قول الله جلّ وعلا: {كَشَفنا عَنهُم عَذابَ الخِزيِ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَمَتَّعناهُم إِلى حينٍ} [يونس: 98] وطالما أنهم آمنوا فهم ناجون يوم القيامة، وهذا هو الصحيح أن قوم يونس عليه السلام آمنوا فنجاهم الله من عذاب الدنيا ونجاهم كذلك مِنْ عذاب الآخرة.
فصل - لا يجوز لأحد أن يتهم يونس عليه السلام بالتقصير:
عندما يقرأ الإنسان المسلم هذه الآيات في يونس عليه السلام: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات: 140] فشبهه بالعبد الهارب مِنْ سيده، وقال جلّ وعلا: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142] أي: ملام على ما فعله وهو تركه قومه قبل أن يأمره الله جلّ وعلا، وقول الله لنبيه ﷺ {وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] فقد يلقي الشيطان في روع الناس أن يونس عليه السلام قصر في دعوته، وهذا من الباطل، فليس لأحد أن يتنقص نبي الله يونس لمثل هذه الأمور، ولذلك نبه النبي ﷺ على هذا فقال: "ما ينبغي لعبد أن يقول إنه خير من يونس بن مَتَّى"(1)؛ أي: ليس لأحد أن يفضل نفسه على يونس؛ لأنه نبي كريم صلوات الله وسلامه عليه.
وجاء في حديث "لا تفضلوني على يونس"(2) وهو غير صحيح بل محمد ﷺ خير من يونس عليه السلام، بل خير من جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين.
قال ﷺ : "أنا سيد ولد آدم"(3)، ويقول الله جلّ وعلا: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [البقرة: 253] فالله فَضَّل بين الرسل سبحانه وتعالى ، ولكن لا يجوز التفضيل بين الرسل إذا كان على سبيل التنقيص لهم والطعن فيهم، فهذا لا يجوز، أخرج الإمام البخاري أن رجلاً من اليهود عرض سلعته ليبيعها فجاءه رجل فعرض عليه سعراً فغضب اليهودي فقال: لا والله لا أبيعها والذي اصطفى موسى على البشر، فسمعه رجل من الأنصار قال: أتقول هذا حتى على محمد؟! فلطم اليهوديَّ فذهب اليهودي إلى النبي ﷺ يشكو إليه هذا الأنصاري فقال: يا أبا القاسم أليس لنا ذمة وعهداً؟ فقال النبي ﷺ : "بلى لكم الذمة والعهد"، فقال اليهودي: فسل هذا لِمَ لطمني؟ فناداه النبي ﷺ فقال له: "لِمَ لطمته"؟
قال: إنه قال: والذي اصطفى موسى على البشر وذكرك من سائر البشر، فرؤي الغضب في وجه النبي ﷺ وقال: "لا تفضلوا بين الأنبياء"(1) ، فإذا كان هذا التفضيل على سبيل التنقص فلا يجوز، وأما إن أراد الإخبار عن ذلك وهو أن محمداً ﷺ أفضل من موسى صلوات الله وسلامه عليه عند ربه فهذا حق لا شيء فيه.
(1) أخرجه البخاري (3396)، ومسلم (2377) من حديث ابن عباس رضى الله عنهما، وهو أيضاً في الصحيحين من حديث أبي هريرة (.
(2) هذا الحديث لا أصل له كما في "شرح الطحاوية" ص162.
(3) أخرجه مسلم (2278).
(1) أخرجه البخاري (3415)، ومسلم (2373).
فصل - العبر والدروس:
أولاً: إن عتاب الله تبارك وتعالى ليونس صلوات الله وسلامه عليه كان عتاباً لطيفاً، ومنه أن الله جلّ وعلا جعله في بطن الحوت، وأمره الا يكسر له عظماً وألا يأكل له لحماً، ثم أخرجه من بطن الحوت، وفيه آية عظيمة تدل على كرامته عند الله جلّ وعلا ولذلك آمن به قومه عليه السلام.
ثانياً: إن العبد إذا تعرف على الله عزّ وجلّ في الرخاء عرفه الله في الشدة.
ثالثاً: فضل دعوة يونس {لَّا إِلَـهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].
رابعاً: الإيمان ينجي العبد من المهالك.
خامساً: جواز القرعة وهذا في شريعة يونس صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك في شريعة النبي محمد ﷺ ، فقد كان النبي ﷺ إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه(2). وكذلك من المشهور أيضاً من قول النبي ﷺ : "لو يعلمون ما في الأذان والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا"(3) ؛ أي: عملوا قرعة.
(2) أخرجه البخاري (2594)، ومسلم (2445).
(3) أخرجه البخاري (615)، ومسلم (437).