( أعلم أمتي بالحلال و الحرام معاذ بن جبل ) [سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم]
لما أشرقت جزيرة العرب بنو الهدى و الحق ، كان الغلام اليثربي(1) معاذ ابن جبل فتى يافعاً
وكان يمتاز بحدّة الذكاء ، و قوة العارضة(2) ، و روعة البيان و علوً الهمّة .
و كان إلى ذلك قسيماً وسيماً (3) أكحل العين جعد الشعر براق الثنايا ، يملأ عين مجتليه(4) و يملك عليه فؤاده .
أسلم الفتى معاذ بن جبل على يدي الداعية المكي مصعب بن عمير .
و في ليلة العقبة امتدت يده الفتية فصافحت يد النبي الكريم و بايعته . . .
فقد كان معاذ مع الرهط الاثنين و السبعين الذين قصدوا مكة ، ليسعدوا بلقاء رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و يشرفوا ببيعته ، و ليخطوا في سفر التاريخ أروع صفحةٍ و أزهاها . . . .
وما أن عاد الفتى من مكة إلى المدينة حتى كوّن هو ونفر صغير من لداته جماعة لكسر الأوثان ، و انتزاعها من بيوت المشركين في يثرب في السر أو في العلن . و كان من أثر حركة هؤلاء الفتيان الصغار أن أسلم رجل كبير من جالات يثرب ، هو عمرو بن الجموح (5) .
كان عمرو بن الجموح سيداً من سادات بني سلمة و شريفاً من أشرافهم .
وقد كان اتخذ لنفسه صنماً من نفيس الخشب كما كان يصنع الأشراف و كان شيخ بني سلمة يعنى بصنمه هذا أشدّ العناية فيجلله بالحرير و يضمخه(6) كل صباح بالطيب .
فقام الفتيان الصغار إلى صنمه تحت جنح الظلام و حملوه من مكانه ، و خرجوا به إلى خلف منازل بني سلمة ، و ألقوه في حفرةٍ كانت تجمع فيها الأقذار . . .
فلما أصبح الشيخ افتقد صنمه فلم يجده ، و بحث عنه في كل مكان حتى ألفاه مكبّا على وجهةٍ في الحفرة غارقاً في الأقذار فقال : ويلكم من عدا على إلهنا في هذه الليلة ؟! .
ثم أخرجه و غسله ، وطهره و طيبه و أعاده إلى مكانه ، و قال له :
أي (مناة)(7) ، والله لو أني أعلم من صنع بك هذا لأخزيته . . .
فلما أمسى الشيخ و نام تسلل الفتية إلى صنمه و فعلوا به ما فعلوه في الليلة السابقة . .
فما زال يبحث عنه حتى وجده في حفرة أخرى من تلك الحفر . . .
فأخرجه و غسله و طهره و عطره و توعد(8) من عدوا عليه أشد الوعيد . . .
فلما تكرر ذلك منهم استخرجه من حيث ألقوه و غسله . .
ثم جاء بسيفه فعلقه عليه و قال يخاطبه :
والله إني ما أعلم من يفعل بك هذا الذي تراه . . .
فإن كان فيك خير فادفع عن نفسك . .
وهذا السيف معك . . .
فلما أمسى الشيخ و نام ، عدا الفتية على الصنم ، و أخذوا السيف المعلق في رقبته . . .
و ربطوه بعنق كلب ميت و ألقوهما في حفرة من تلك الحفر ، فلما أصبح الشيخ جد في طلب صنمه حتى وجده ملقى بين الأقذار مقروناً بكلب ميت منكساً على وجهه .
عند ذلك نظر إليه و قال :
تالله لو كنت إلهاً لما تكن أنت و كلب وسط بشر في قرن(9)
ثم أسلم شيخ بني سلمة وحسن إسلامه
ولما قدم الرسول الكريم على المدينة مهاجراً ، لزمه الفتى معاذ بن جبل ملازمة الظل لصاحبه ، فأخذ عنه القرآن ، و تلقى عليه الشرائع الإسلامية حتى غدا من أقرئ الصحابة لكتاب الله و أعلمهم بشرعه . . .
حدث يزيد بن قطيب قال : دخلت مسجد حمص فإذا أنا بفتى جعد الشعر(10) قد اجتمع حوله الناس .
فإذا تكلم كأنما يخرج من فيه نور و لؤلؤ .
فقلت : من هذا ؟!
فقال : معاذ بن جبل .
و روى أبو مسلم الخولاني (11) قال : أتيت مسجد دمشق ، فإذا حلقة (12) فيها كهول من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم .
و إذا شاب فيهم أكحل العين براق الثنايا ، كلما اختلفوا في شيء ردوه إلى الفتى ، فقلت لجليس لي :
من هذا ؟!
فقال : معاذ بن جبل
ولا غرو(13) فمعاذ ربي في مدرسة الرسول صلوات الله و سلامه عليه منذ نعوم الأظفار(14) و تخرج على يديه فنهل العلم من ينابيعه الغزيرة .
و أخذ المعرفة من معينها الأصيب ، فكان خير تلميذ لخير معلمٍ.
_________________________________________________________
و حسبُ (15) معاذَ شهادةُ أن يقول عنه الرسول صلوات الله عليه :
(أعلم أمّتي بالحلال و الحرام معاذ بن جبل) ، و حسبه فضلاً على أمة محمد أنه كان أحد النفر الستة الذين جمعوا القرآن على عهده رسول الله صلوات الله و سلامه عليه .
و لذا كان أصحاب الرسول إذا تحدثوا و فيهم معاذ بن جبل نظروا إليه هيبة له و تعظيماً لعلمه .
و قد وضع الرسول الكريم وصاحباه من بعده هذه الطاقة العلمية الفريدة في خدمة الإسلام و المسلمين .
فهذا هو النبي عليه الصلاة و السلام يرى جموع قريش تدخل في دين الله أفواجاً ، بعد فتح مكة.
و يشعر بحاجة المسلمين الجدد إلى معلم كبير يعلمهم الإسلام و يفقههم بشرائعه فيعهد بخلافته على مكة لعتاب بني أسيد ، ويستبقي معه معاذ ابن جبل ليعلم الناس القرآن و يفقهم في دين الله .
ولما جاءت رسل ملوك اليمن إلى رسول الله صلوات الله عليه ، تعلن إسلامها و إسلام من ورائها ، و تسأله أن يبعث معها من يعلم الناس دينهم انتدب لهذه المهمة نفراً من الدعاة الهداة من أصحابه و أمَّر عليهم معاذ بن جبل رضي الله عنه .
و قد خرج النبي الكريم صلوات الله و سلامه عليه يودع بعثة الهدى و النور هذه . . .
و طفق يمشي تحت راحلة معاذ و معاذ راكب . . .
و أطال الرسول الكريم مشيه معه ، حتى كأنه كان يريد أن يتملّى من معاذ . . .
ثم أوصاه و قال له : (يا معاذ إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا. . . و لعلك أن تمر بمسجدي و قبري . . .)
فبكى معاذ جزعاً لفراق نبيه و حبيبه محمد صوات الله عليه ، و بكى معه المسلمون .
و صدقت نبوءة الرسول الكريم فما اكتحلت عينا معاذ رضي الله عنه برؤية النبي عليه الصلاة و السلام بعد تلك الساعة . . .
فقد فارق الرسول الكريم الحياة قبل أن يعود معاذ من اليمن .
_________________________________________________________
و لا ريب في أن معاذاً بكى لما عاد إلى يثرب فألفاها(16) قد أقفرت من أُنس حبيبه رسول الله .
ولما ولي الخلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أرسل معاذاً إلى بني كلاب ليقسم فيهم أعطياتهم و يوزع على فقرائهم صدقات أغنيائهم ، فقام بما عهد إليه من أمرٍ ، وعاد إلى زوجه بحلسه (17) الذي خرج به يلفه على رقبته
فقالت له امرأته : أين ما جئت به مما يأتي به الولاة من هدية لأهليهم ؟! .
فقال : لقد كان معي رقيب يقظ يحصي علي (18) ، فقالت :
قد كنت أميناً عند رسول الله ، و أبي بكرٍ ، ثم جاء عمر فبعث معك رقيباً يحصي عليك ؟ ! ! .
و أشاعت ذلك في نسوة عمر ، واشتكته لهنّ . . .
فبلغ ذلك عمر ، فدعا معاذاً وقال : أأنا بعثت معك رقيباً يحصي عليك ؟! .
فقال : لا يا أمير المؤمنين ، ولكنني لم أجد شيئاً اعتذر به إليها إلا ذلك . . .
فضحك عمر رضوان الله عليه ، و أعطاه شيئاً وقال له :
أرضها به . . .
وفي أيام الفاروق أرسل إليه واليه على الشام يزيد بن أبي سفيان يقول :
يا أمير المؤمنين ، إن أهل الشام قد كثروا و ملؤوا المدائن ، و احتاجوا إلى من يعلمهم القرآن و يفقههم بالدين فأعني يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم ، فدعا عمر النفر الخمسة الذين جمعوا القرآن في زمن النبي عليه الصلاة و السلام .
و هم : معاذ بن جبل و عبادة بن الصامت و أبو أيوب الأنصاري (19) و أُبيّ بن كعب و أبو الدرداء (20) وقال لهم :
_________________________________________________________
إن أخوانكم من أهل الشام قد استعانوني بمن يعلمهم القرآن و يفقههم في الدين فأعينوني بثلاثة منكم ، فإن أحببتم فاقترعوا و إلا انتدبت ثلاثة منكم .
فقالوا : و لم نقترع ؟
فأبو أيوب شيخ كبير ، و أُبيّ رجل مريض ، و بقينا نحن الثلاثة ، فقال عمر :
ابدؤوا بحمص فإذا رضيتم حال أهلها ، فخلفوا أحدكم فيها و ليخرج واحد منكم إلى دمشق و الآخر إلى فلسطين .
وهناك أصيب معاذ بالوباء .
فلما حضرته الوفاة استقبل القبلة و جعل يردد هذا النشيد :
مرحباً بالموت مرحباً . . .
زائر جاء بعد غياب . . .
و حبيب وفد على الشوق . . .
ثم جعل ينظر إلى السماء و يقول :
اللهم إنك كنت تعلم أني لم أكن أحب الدنيا و طول البقاء فيها لغرس الأشجار و جري الأنهار .
ولكن لظمأ الهواجر ، ومكابدة الساعات ، و مزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر . . .
اللهم فتقبل نفسي بخير ما تتقبل به نفساً مؤمنةً .
ثم فاضت روحه الطاهرة بعيداً عن الأهل و العشير داعياً إلى الله ، مهاجراً في سبيله .
_________________________________________________________
(*) للاستزادة من أخبار معاذ بن جبل انظر :
1- الإصابة : 3 ، 406
2- الاستيعاب : تحقيق البجاوي : 3 ، 1403
3- أسد الغابة : 4 ، 374
4- سير أعلام النبلاء : 1 ، 318
5- الطبقات الكبرى : 3 ، 583
6- حلية الأولياء : 1 ، 228
7- صفة الصفوة : 1، 195
8- تهذيب الأسماء و اللغات : 2 ، 98
9 – تاريخ الإسلام الذهبي : 2 ، 24
10- الجمع بين رجال الصحيحين : 2 ، 487
11- سير أعلام النبلاء : 1، 318
12- البداية و النهاية : 7، 94 .
13- دول الإسلام : 1،5
14- تهذيب التهذيب : 10، 186
15- وفيات الأعيان
16- جمهرة الأولياء : 2 ، 48
17- طبقات فقهاء اليمن : 44
18- البدء و التاريخ : 5 ، 117
19- الزهد لأحمد بن حنبل : 180
20- تذكرة الحفاظ : 1 ، 19
21- المعارف لابن قتيبة : 1 ، 111
22- أصحاب بدر (منظومة للشيخ حسين الغلامي) : 204
23- حياة الصحابة (انظر الفهارس في الرابع)
معاذ بن جبل
(1) اليثربي : نسبة إلى يثرب ، و هي المدينة المنورة
(2) قوة العارضة : قوة البديهة و روعة البيان
(3) قسيماً وسيماً : بهي الطلعة جميل الملامح
(4) مجتليه : الناظر أليه
(5) انظر سيرة عمرو بن الجموح في ص73
(6) يضمخه : يدهنه و يطيبه .
(7) أي مناة : يا مناة، وهو اسم صنمه
(8) توعده : أنذره بالشر
(9) في قرن : أي مربوطاً معه في حبل واحد
(10) جعد الشعر : ذو شعر أجعد وضده : سط الشعر
(11) أبو مسلم الولاني : أحد كبار التابعين من اليمن
(12) الحلقة : مجلس العلم ، كانوا يتحلقون في هذه المجالس حول الشيخ
(13) لا غرو : لا عجب
(14) نعومة الاظفار : كناية عن صغر السن لأن الصغير تكون أظفاره ناعمة
(15) حسب معاذ شهادة : يكفيه شهادة
(16) فألفاها : فوجدها
(17) الحلس : ما يوضع على ظهر الدابة تحت السرج
(18) يريد بالرقيب الله جل و عز على سبيل التورية
(19) انظر سيرته في ص 64
(20) انظر سيرته في ص203