المقدمة : ذُكِر نبي الله سليمان في القرآن سبع عشرة مرة، وقصصه كثيرة وتحتاج إلى وقفات:
أولاً: قصته مع ملكة سبأ.
ثانياً: حاله مع خيله الصافنات.
ثالثاً: فتنته.
رابعاً: بيان ما وهبه الله تبارك وتعالى من المُلْك.
خامساً: ما اتُهِمَ به من الكفر.
سادساً: بعض أحكامه.
سابعاً: وفاته.
قال الله تبارك وتعالى عن نبيه سليمان: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16]، الوارث هو نبي الله سليمان، والموروث هو أبوه نبي الله داود، وهذا الميراث ليس ميراث مال، وإنما هو ميراث الحكمة، ميراث النبوة، ميراث العلم، بدليل أنه قد عُلم من كتب السير أن داود عليه الصلاة والسلام كان له من الأولاد كثير، حتى إنه قيل: له تسعة عشر ولداً، فكيف يكون الوارث سليمان وحده، ثم كذلك قد نص النبي الكريم - صلوات الله وسلامه عليه - على أن الأنبياء لا يورثون فقال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث"(1)، وقال: "إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً"(2)، ثم لو كان الميراث المذكور في السورة من القرآن هو ميراث المال لكان ذكره دون فائدة؛ لأنه معلوم من الضرورة أن الولد يرث أباه، وإنما أراد ميراثاً آخر، ألا وهو ميراث النبوة، والعلم، والحكمة.
(1) أخرجه البخاري (3093)، ومسلم (1759) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) أخرجه أبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه في (223) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وهو في "صحيح الجامع" (6297).
فصل - من فضائل سليمان عليه السلام:
وامتاز نبي الله سليمان بالفطنة والحكمة في معالجة الأمور، وكذلك بالعدل بين الرعية، وقد ذكر الله تبارك وتعالى قصته لما مَرَّ على وادي النمل {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]، وهذا كلام بين النمل تفهمه النمل، ووهب الله تبارك وتعالى نبي الله سليمان موهبة ألا وهي أنه يفهم منطق الطير، كما قال: {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16].
قالت نملة تخاطب النمل: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ} [النمل: 18] أي: خشية أن يحطمكم {سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل: 18]، ثم اعتذرت له، وقالت: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 16]، لا يقصدون إيذاءكم؛ لأنه ليس من هدي الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - أن يتعرضوا إلى إيذاء أحدٍ، بل جاؤوا مشاعل نور، وجاؤوا بالخير العميم، فكيف يكون منهم هذا الإيذاء، فاعتذرت له تلك النملة، فسمع وفهم صلوات الله وسلامه عليه كلامها، فتبسم ضاحكاً من قولها، ثم شكر الله - جلّ وعلا - على ما وهبه من هذه النعمة، وقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل: 19]، ولم ينس كذلك ما أنعم الله به على والده بالنبوة، فقال: {وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل: 19].
وعن رسول الله ﷺ أنه قال: "خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون، فإذا هم بنملة رافعة إحدى قوائمها" - على ظهرها ورافعة إحدى قوائمها - وفي رواية: "تستسقي، تدعو الله أن يسقي الأرض، فقال: ارجعوا، فقد كُفيتم بدعاء هذه النملة"، وفي رواية: "ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم"(1)، وجاء عن الزهري مرسلاً أن هذا النبي هو سليمان صلوات الله وسلامه عليه، وهذا أخرجه ابن عساكر في "تاريخه"(2).
(1) أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" (732)، وضعفه الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (3/137).
(2) "تاريخ دمشق" (22/288).
فصل - قصة سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ:
قال سبحانه وتعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴿٢٠﴾ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل: 21:20] وهذا يدل على أنه ذا رعاية وعناية بجيشه عليه السلام، ومن حَزْمِهِ وحسنِ نظامِهِ، تفقد جنده، ومن هؤلاء الجند: الطير، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ} [النمل: 17]، كل هؤلاء من جنود سليمان صلوات الله وسلامه عليه، كيف يغيب الهدهد دون أن يستأذن، ولذلك رتب عليه العقوبة، فقال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل: 21]، وهذا من عدله صلوات الله وسلامه عليه، وهو أنه إن كان له عذر؛ فإنه يعذر بهذا العذر الذي يقدمه.
قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل: 22] مَنْ الذي مكث غير بعيد؟ يحتمل معنيين:
المعنى الأول: أن الذي مكث غير بعيد هو سليمان عليه السلام، حتى جاءه الهدهد بالخبر.
المعنى الثاني: أن الذي مكث غير بعيد هو الهدهد، فقال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22].
وهذا يبين أن هذه الطيور تعلم علم اليقين أن الذي لا يغيب عنه شيء هو الله سبحانه وتعالى، وأما غير الله - جلّ وعلا - من مخلوقاته فإنه لا يعلم الغيب، ولو كان نبياً كريماً كسليمان الذي ملك الأرض(1)، ولم ينكر عليه نبي الله سليمان هذه المقالة؛ لأنه يعلم علم اليقين أنه لم يحطْ بكل شيء، {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّـهُ} [النمل: 65].
قال: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] سبأ مدينة معروفة في اليمن، وسليمان كان في بيت المقدس، هذا هو السبب الذي تغيب لأجله، فأراد - أولاً - أن يبين أنهم ليسوا أناساً عاديين، وليست مملكة صغيرة حتى يظهر لنبي الله سليمان عظم الجرم، فقال: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴿٢٣﴾ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّـهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴿٢٤﴾ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّـهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25:23]، هدهد وأنكر عليهم غاية الإنكار أنهم عبدوا غير الله، فدل هذا على أن هذه الطيور وهذه الحيوانات مُوَحّدة لله تبارك وتعالى، بل ومسبحة لله - جلّ وعلا -: {وَإِن مِن شَيءٍ إِلّا يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ} [الإسراء: 44].
وهذه الحيوانات تحبّ المؤمنين، وتبغض الكافرين المكذبين للمرسلين.
جاء هذا الهدهد بهذا الخبر، وهو يحتمل الصدق والكذب، ولذلك لم يقل له: كذبت، ولم يقل له: صدقت؛ لأنه غيب بالنسبة لنبي الله سليمان، {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27]، أصدقت فيما تقول، أم تكذب لتنجو من العذاب والذبح: { اذْهَب بِّكِتَابِي هَـذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28]، لم يبين لنا ماذا كتب، ولكن سيتبين لنا عندما تقرأه ملكة سبأ، ذهب الهدهد بالكتاب، ألقاه إليهم، تعجبوا!! طير يأتي بكتاب!! أخذتِ الكتابَ الملكةُ، فقرأته ثم جمعت كبار القوم وهم الملأ، {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29]، وقالت عن الكتاب: إنه كريم؛ لأنها تعرف أن سليمان كان من أكبر ملوك الأرض {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ} [النمل: 30]، فكأن سليمان كان معروفاً عندهم {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] دل على أنه يستحب للإنسان إذا قدم أو أراد أن يكتب كتاباً أن يقدم بين يديه هذه البسملة.
وذكر فيه: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31] عبارة مختصرة وجيزة كاملة البيان، وخير الكلام: ما قلَّ ودلَّ { قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل: 32]، وهذا يدل على كمال عقلها ورجحانه، ماذا ترون، {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33]، إن شئت حرباً فنحن أولوا قوة، وأولوا بأس شديد، وإن شئت سِلْماً، فالأمر إليك، فانظري ماذا تأمرين، قالت: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل: 34] سبي، وقتل، وسجن، {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34]، أي: هذا هو ديدن الملوك وهذه عادتهم؛ لأنها لا تعرف إلا الملوك الذين من هذا الصنف، فأرادت أن تجرب هذا الملك، وما كانت تسمع عنه من عدله - صلوات الله وسلامه عليه -، ولذلك وصفتْ كتابه بأنه: {كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29]، فدعوا الحرب، {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35]. قال أهل العلم: أرادت بهذه الهدية أن تعرف أهو من ملوك الدنيا الذين يريدون جمع المال، والخدم، والحشم، وما شابه ذلك، أو أن الأمر غير ذلك؛ لأنه إنما قال لهم: ائتوني مسلمين، فهو دعاهم إلى الله تبارك وتعالى.
جاءت الرسل إلى سليمان بالهدية، فلما جاء سليمانَ - أي: الرسولُ الذي أرسلته ملكة سبأ - غضب سليمان، أنا ما طلبت هدايا، أنا طلبت ألا تعلوا علي، وأن تأتوني مسلمين، ولذلك قال: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّـهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم } [النمل: 36]، ولم يقل: ما عندي خير مما عندكم، وإنما قال ما أتاني الله خير مما آتاكم، فالذي عندكم من الله، والذي عندي من الله، والله أعطاني خيراً مما أعطاكم، فقال للرسول: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 37]، ارجع إليهم أي: بالهدية، وارجع بهديتهم، فأبلغهم ما كان من سليمان، وما قال، فعرفت ملكة سبأ أنه نبي، وأنه ليس ممن يريد الهدايا.
والتفتَ سليمان بعد أن أرجع الرسول بهديته، قال للذين حوله: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38] من يستطيع أن يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين. قال أهل العلم: وسليمان إنما عرف أنهم سيأتونه مسلمين، لما رأى من رجحان عقلها أنها أرسلت الهدية، ولم تعلن حرباً عليه صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك رأى من رجحان عقل هذا الرسول الذي جاءه، وسمع منه فظن أنه سيأتونه مسلمين، وهذا مما غلب على ظنه صلوات الله وسلامه عليه، فقال لمن حوله: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38] إذ إنه قد بلغني أنهم سيخرجون وسيأتون مسلمين، أو أنهم خرجوا، {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39] قالوا: العفريت هو شديد القوى، يقال له: عفريت، والجن فيهم المسلمون، وفيهم الكافرون، وكلهم مُسَخَّرون لسليمان، مؤمنهم وكافرهم، كما قال الله تبارك وتعالى: وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير. وأما كفار الجن فقال فيهم: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [ص: 38].
قال هذا العفريت - والأكثر على أنه كافر ولكنه خادم، رغماً عنه -: {أَنَا آتِيكَ بِهِ} [النمل: 39] أي: العرش {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} [النمل: 39] قالوا: مقامه من بعد الشروق إلى الزوال، وقت الضحى، يجلس ويسمع من الناس مشاكلهم، ويقضي بينهم، وينظر في حاجاتهم، خلال هذه الساعات القصيرة القليلة، وهم في اليمن وأنت في الشام، ثم حتى لا يظن أحد أن هذا مجرد كلام قال: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ﴿٣٩﴾ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40:39] قالوا: هو أبعد ما يصل إليه النظر، إذا بلغه يكون العرش عنده، أو عندما يرمش، ولا شك أن هذا شيء عجيب، ولذلك ما قال: اذهب وائت به، وإنما رتب عليه الحصول: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَـذَا مِن فَضْلِ رَبِّي} [النمل: 40] ولكن من هذا الذي قال: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40]؟
لأهل العلم أربعة أقوال في هذا القائل:
القول الأول: إن القائل رجل صالح من بني آدم، يقال له: آصف، وكان من المقربين لنبي الله سليمان، وأنه سأل الله - جلّ وعلا - باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أجاب.
القول الثاني: إن القائل هو جني مؤمن، لما قال العفريت من الجن: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} [النمل: 39]، قام جني مؤمن فقال: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40].
القول الثالث: إن القائل جبريل عليه السلام أو ملك من الملائكة آخر، وذلك أنه لما قام هذا العفريت، وقال أمام الناس: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك، كأنه يفتخر بقوته، وقدرته نزل جبريل من عند الله تبارك وتعالى: فقال له: يا سليمان لا يغرنك هذا، أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك.
القول الرابع: إن القائل سليمان، وأراد أن يختبر قوتهم وقدرتهم، حتى يظهر لهم فضل الله عليه، فقال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴿٣٨﴾ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ﴿٣٩﴾ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} [النمل: 40:38] وهو سليمان، {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ} [النمل: 40] فسليمان يخاطب عفريت الجن، فيقول له: إن كنت تأتيني به قبل أن أقوم من مقامي أنا آتيك به بهذه السرعة.
وكل هذا الأقوال محتملة، وليس هناك نص قاطع من عند الله - جلّ وعلا - أو من عند الرسول ﷺ يحسم هذه المسألة، ولا يهم، المهم أنه رآه مستقراً عنده خلال لحظات صلوات الله وسلامه عليه.
(1) ملوك الأرض أربعة، اثنان مسلمان، واثنان كافران: فالمسلمان: ذو القرنين وسليمان عليه السلام، والكافران: النمرود و بختَنصر.
فصل - سليمان عليه السلام يُري آية:
قال سليمان عليه السلام: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 41] نكروا لها عرشها، زادوا ونقصوا، {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَـكَذَا عَرْشُكِ} [النمل: 42]؟ نظرت إليه وإذا هو عرشها ثم توقفت لأن فيه تغييرات ولذلك أتت بعبارة محتملة، وهذا أيضاً دليل على فطنتها {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل: 42]، لم تقل ليس هو من شدة الشبه، ولم تقل هو للتغير الذي حدث فيه ثم للبعد، فالمسافة بعيدة هي في سبأ والآن جاءت إلى الشام.
سكت سليمان عليه السلام ثم قال لها: ادخلي الصرح، {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} [النمل: 44]، الصرح: المجلس الكبير العظيم لسليمان عليه الصلاة والسلام، من القائل؟ إما أن يكون القائل سليمان عليه السلام، وإما أن يكون القائل من وُكِّل بها لأن هؤلاء الملوك يوكل بهم من يقوم بشؤونهم، {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} [النمل: 44] حسبته ماءً، {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ} [النمل: 44] ليس ماءً، ولكنه ممرد بالقوارير، قيل إنه جاء إلى البحيرة وعمل فوق البحيرة قوارير، يعني الأرضية شفاشة، يُرى ما تحتها، {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44].
فصل - براءة سليمان من فرية باطلة:
هنا قول الله تبارك وتعالى {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} [النمل: 44] ولماذا كشفت عن ساقيها؟ تظنه ماء فرفعت الثوب، قال بعضهم: تعمد سليمان أن يدخلها هذا المكان يريد أن ترفع ثوبها حتى يرى ساقها؛ لأنهم قالوا له: إن ساقها فيه شعر كثير كأنها رجل، فأراد أن يرى ذلك بأم عينيه وهذا كذب وزور، فليس هذا من خلق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بل هذه من الإسرائيليات المكذوبة على نبي الله سليمان عليه السلام.
قال: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل: 44]، وما رأت من عرشها والكتاب الكريم الذي جاءها من سليمان وأنه لا يريد منها دنيا وما أكرمها به وما رأته من حاله وكيف يخدمه الإنس والجن والطير، عند ذلك علمت علم اليقين أنه نبي ولذلك قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] وهذا دليل على أن جميع الأنبياء إنما جاؤوا بالإسلام، من لدن نوح عليه الصلاة والسلام إلى محمد ﷺ ، وإنما اختلفوا في الشرائع أما الإسلام فدين الله الذي لا يتغير كما قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] وقال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85].
وهل تزوجها سليمان صلوات الله وسلامه عليه، وهل كان اسمها بلقيس؟ العلم عند الله، كل ما قيل فهو رجم بالغيب، ويحتمل أن سليمان عليه الصلاة والسلام تزوجها، ويحتمل أن اسمها بلقيس.
فصل - سليمان عليه السلام والصافنات الجياد:
قال الله تبارك وتعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴿٣٠﴾ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ﴿٣١﴾ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ﴿٣٢﴾ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33:30] يخبر الله تبارك وتعالى، عن قصة حدثت لنبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام، قال: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ} [ص: 31] عرض على سليمان وهو الملك، والعشي من زوال الشمس إلى غروبها، يقال عن صلاة الظهر وصلاة العصر: صلاتا العشي. {الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 31] الصافن من الجياد هي التي تقف على ثلاثة أرجل والرجل الرابعة تقف على طرف حافرها، وقفة يحبها أهل الخيل، وقفة فيها نوع من التكبر، فيُخبر الله تبارك وتعالى عن خيل سليمان أنها كانت صافنات جياد، فقال: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} [ص: 32] الخير اسم من أسماء الخيل، ولذلك قال النبي ﷺ : "في نواصيها الخير"(1) ولما جاء زيد الخيل للنبي ﷺ قال: "أنت زيد الخير"(2) وقيل: لها الخير لأنها تأتي به. سماها بما تأتي به، فقال: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ﴿٣٢﴾ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33:32] أربعة أقوال لأهل العلم في تفسير هذه الآية:
الأول: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ} [ص: 32] أي: الخيل {بِالْحِجَابِ} يعني: تمشي أمامه حتى بعدت عنه، {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص: 33]: ردوا الخيل علي مرة ثانية، {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ}، يمسح عنها الغبار، وهذا لشدة عنايته بالخيل.
فيكون معنى "عن" هنا أي "مِنْ" وأحرف الجر تتناوب، فيكون قوله: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ } [ص: 32] يعني: الخيل، (مِنْ ذكر ربي)؛ أي: أن هذا مِنْ ذكر ربي؛ لأنها كانت تُعَد للجهاد، {حَتَّى تَوَارَتْ} [ص: 32] أي: الخيل بعدما عرضت عليه تمشي وتجري {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ﴿٣٢﴾ رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص: 33:32] ولفرحه وحبه لها صار يمسح بسوقها وأعناقها، وهذا اختاره ابن جرير(1)، والرازي(2).
الثاني: عُرضت عليَّ الخيل حتى شغلتني هذه الخيل عن ذكر ربي، {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] أي: الشمس، {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص: 33] ردوا الشمس عليّ حتى أصلي الصلاة في وقتها، {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33] أي: بعد ذلك قتل الخيل.
الثالث: نفس الثاني تماماً، {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ﴿٣٢﴾ رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص: 33:32] الخيل وليس الشمس، {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33] أي: قتل الخيل(3).
الرابع: لما عرضت عليه بالعشي الصافنات الجياد قال: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} [ص: 32] الخيل {عَن ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] أي: مِنْ ذكر ربي {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] أي: الخيل {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص: 33] أي: الشمس، وهذا بعيد جداً.
وكذلك القول بأنها حتى توارت الشمس بالحجاب {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص:33] أي: ردوا الشمس عليّ وهذا أيضاً بعيد.
بقي قولان، وهما أشهر قولين عند أهل العلم.
القول الأول: قلنا اختاره ابن جرير والرازي وغيرهما وهو أنه: ما فاتته صلاة ولا شيء أبداً، وإنما عُرضت عليه الخيل صلوات الله وسلامه عليه، وتوارت أي: الخيل، وتبقى إشكالية في {عَن ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] قالوا: (عن) هنا بمعنى (مِنْ)، فهي مِنْ ذكر ربي، واستدلوا على هذا بأدلة منها:
أولاً: قالوا: الخيل مذكورة {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 31] والصافنات الجياد هي الخيل، {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} [ص: 32] أي: الخيل {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] أيضاً الخيل، {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص: 33] أيضاً الخيل، فأين ذُكرت الشمس؟ لا ذكر للشمس في الآيات أبداً فمن أين أتيتم بقضية الشمس؟
ثانياً: لا يليق بالأنبياء أن يؤخروا الصلاة وتشغلهم الدنيا أو النظر في الخيل عن أداء الواجبات.
ثالثاً: الأصل أن يعود الضمير إلى أقرب مذكور، {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 31] الخيل {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} [ص: 32] الخيل {عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ} [ص: 32] المفروض: الخيل {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص: 33] الخيل.
رابعاً: إذا فاتته الصلاة فلماذا يعاقب الخيل ويقتلها؟ وما ذنب الخيل؟ لأنه هو الذي فاتته الصلاة، بل كان عليه أن يتوب إلى الله تبارك وتعالى.
خامساً: وأما مسحه عليها تشريفاً لها وتكريماً، أو أنه مسح صلوات الله وسلامه عليه لتواضعه مع أنه الملك أو أنه كان عليماً بأحوال الخيل فكان ينظر إليها هل هي مريضة، حتى يطمئن عليها.
القول الثاني: اختاره الحافظ ابن كثير(1) وغيره من أهل العلم قالوا: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 31] الخيل {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ } [ص: 32] الخيل {حَتَّى تَوَارَتْ} [ص: 32] أي: الشمس {بِالْحِجَابِ ﴿٣٢﴾ رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص: 33:32] أي: الخيل {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33] عرقبها وقتلها، وما الدليل على هذا القول؟ قالوا:
أولاً: قوله - جلّ وعلا - {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 31] ذكر العشي له معنى، والعشي هو وقت الزوال إلى الغروب، فلما ذكر العشي ثم توارت بالحجاب إذاً هي الشمس لارتباط الشمس بالعشي، ثم كذلك قوله: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32]، "عن" على ظاهرها، والأصل أنها عن ذكر ربي وليس مِنْ ذكر ربي، فهي شغلته عن ذكر ربه تبارك وتعالى، قالوا: ويحتمل أنها صلاة العصر ويحتمل أنه ورد كان يصليه، وليس شرطاً أن يكون ترك واجباً، لكن ممكن أن يكون ترك أمراً مستحباً، والأصل أن تؤخذ الآية على ظاهرها {عَن ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] ولماذا قتلها إذاً؟ قالوا: قتلها، وأمر الناس أن يأكلوها، ولماذا فعل ذلك؟ قالوا لئلا تشغله مرة ثانية، ولذلك جاء عن عمر رضي الله عنه أنه لما تأخر عن الصلاة تبرع ببستانه لئلا يشغله مرة ثانية عن الصلاة، فقالوا: فعل ذلك سليمان حتى لا تشغله مرة ثانية عن الصلاة، قالوا: وقد يكون هذا سائغاً في شريعتهم لأن الشرائع تختلف.
بل قد جاء في شريعتنا ما يؤيد ذلك، وذلك لما ذهب النبي ﷺ إلى تبوك ومروا بمدائن صالح طبخوا في القدور، فأمر بكسر القدور وإراقة الطعام صلوات الله وسلامه عليه حتى قالوا له: أو نغسلها ولا نكسرها، فقال: اغسلوها. لكن أمر بإراقة الطعام؛ لأنهم لا يجوز لهم أكله، ومع هذا أمر بكسر تلك القدور(1)، ودليل ذلك أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ولذلك جاءت الآية التي بعدها أن الله عوضه بالريح، {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص: 36] فلما ترك الخيل لله - جلّ وعلا - عوضه الله بالريح، والريح أقوى من الخيل وأسرع ولا تحاج مؤونة ولا كلفة ولا عناية ولا شيء، فعوضه الله خيراً من الخيل لما تركها لله - جلّ وعلا -.
فالقصد أن كلا الأمرين محتمل، يحتمل أنه أراد حتى توارت بالحجاب: الشمس، ويحتمل حتى توارت بالحجاب الخيل والعلم عند الله - جلّ وعلا -.
(1) أخرجه البخاري: (2849)، ومسلم (1871) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
(2) أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (415)، وضعفه الشيخ الألباني.
(1) "تفسير الطبري" (21/196). (2) "مفاتيح الغيب" (13/189).
(3) الرد هنا للخيل، وفي الثاني الرد للشمس.
(1) "تفسير ابن كثير" (7/66).
(1) أخرجه الإمام أحمد (5948)، وليس فيه الأمر بكسر القدور، ومسلم (2981).
(2) أخرجه البخاري (3424)، ومسلم (1654) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فصل - الكلام على فتنة سليمان عليه السلام:
قال الله - جلّ وعلا-: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34] وهذا على سنة الله - جلّ وعلا - كما قال: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴿٢﴾ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3:2] إذاً الفتنة سنة جارية.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34] ما الجسد الذي ألقي على كرسيه؟
القصة الأولى: وهي قصة مكذوبة باطلة، زور وبهتان، قالوا: إن سليمان عليه السلام كانت قوته وملكه في خاتمه، ولذلك اشتهر عند الناس: "خاتم سليمان"، وأنه بدون هذا الخاتم لا يستطيع أن يفعل شيئاً، وكان لا يدخل به إلى الحمام، فأراد يوماً أن يدخل الحمام فأعطاه زوجته جرادة، فجاءها الشيطان وتصور بصورة سليمان، فقال لها: أين الخاتم، فأعطته الخاتم، فلبسه الشيطان ثم صار هو الملك، الكلُّ يخدمه وسُخِّر له الريح وسُخِّر له كل شيء، فلما خرج سليمان قال: أين الخاتم؟ قالت: ألست أخذته، فذهب يهيم على وجهه وحكم الشيطان مدة طويلة مكان سليمان عليه الصلاة والسلام حتى ذهب يوماً إلى البحر، فاصطاد سمكة وفتحها فوجد الخاتم فيها وكان الشيطان ألقاه في البحر، فلبسه وعاد له ملكه، قالوا هذه فتنة سليمان، وهذه قصة باطلة وزور؛ لأن الشيطان لا يمكن أن يتمثل بصورة سليمان عليه السلام.
ولذلك قال النبي ﷺ : "إن الشيطان لا يتمثل بي"(1) أي: لا يمكن أن يتمثل بصورة الأنبياء وإلا كان الأمر في غاية الفوضى يتشكل الشيطان بصورة نبي ويأتي يأمر الناس بالكفر، ويأمرهم بمعصية الله تبارك وتعالى ولا يعرف الناس هل هذا نبي أو شيطان.
(1) أخرجه البخاري (110)، ومسلم (2266) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فصل - الكلام الصحيح في فتنة سليمان عليه السلام:
قال سليمان عليه السلام: " لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تأتي كل واحدة منهن بفارس يقاتل في سبيل الله" يعني: من زوجاته.
قال رسول الله ﷺ : "ولم يقل إن شاء الله" نسي أن يقول إن شاء الله "فولدت واحدة منهن نصف إنسان"(2)، وهو الصحيح، وأن الذي ألقي على كرسي سليمان هو هذا الصبي الذي هو نصف آدمي، ثم أناب: أي رجع إلى الله عزّ وجلّ؛ لأنه نسي أن يقول إن شاء الله.
فصل - سليمان عليه السلام يريد الدنيا لتعينه على آخرته:
قال سليمان بعد ذلك صلوات الله وسلامه عليه: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35] طلب ملكاً لا يكون لأحد من بعده.
وقد يسأل سائلٌ كيف يطلب نبي الله الدنيا، والمعلوم أن أنبياء الله عليه السلام أزهدُ الناس في الدنيا.
فالجواب: أنه ما أراد الدنيا لأجل الدنيا وإنما أراد الدنيا ليتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى، وهذا حق، ولذلك كان سعد بن عبادة عليه السلام وهو المعروف بسيد الخزرج الذي منذ أن هاجر النبي ﷺ إلى المدينة إلى أن توفاه الله - جلّ وعلا - قريباً من عشر سنين، ما مر يوم كما ذكر أهل السير إلا وسعد بن عبادة يهدي للنبي ﷺ في كل يوم، وذكروا أنه من دعائه رضي الله عنه: "اللهم إني لا أصلح للفقر ولا يصلح لي الفقر، فاللهم أغنني من فضلك" وذلك أنه كان كريماً رضي الله عنه ، وسليمان صلوات الله وسلامه عليه ما أراد الدنيا للتكثر منها.
ولكن كما مر بنا في الحديث السابق أنه قال: "لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل واحدة منهن مجاهداً يقاتل في سبيل الله تبارك وتعالى"، إذاً إنما طلب مُلْكَ الدنيا صلوات الله وسلامه عليه ليقيم الحق، ليقيم الدين، لينشر العدل، كما قال أخوه عليه السلام: {اجعَلني عَلى خَزائِنِ الأَرضِ إِنّي حَفيظٌ عَليمٌ} [يوسف: 55] فهذا جائز لا شبهة فيه.
واستجاب الله تبارك وتعالى دعاء نبيه سليمان، وما أنكر عليه هذا الدعاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى عرف لماذا طلب سليمان الملك فقال - جلّ وعلا -: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص: 36] وقال في آية أخرى: {وَلِسُلَيمانَ الرّيحَ عاصِفَةً تَجري بِأَمرِهِ إِلَى الأَرضِ الَّتي بارَكنا فيها} [الأنبياء: 81] وقال: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [سبأ: 12]، كانت الريح تتجه حيث أراد نبي الله سليمان صلوات الله وسلامه عليه من بلاد الشام المباركة، قال قتادة: "تغدو مسيرة شهر وتروح مسيرة شهر في يوم واحد"، تغدو: أي فترة الغدو في الفجر مسيرة شهر، تقضيها في هذه الفترة القصيرة، كذلك مسيرة شهر في الرواح وهو عودة الطيور إلى أوكارها بعد غدوها كما قال النبي ﷺ : "تغدو خماصاً وتروح بطاناً"(1).
وذكر الله تبارك وتعالى أنه مما أعطى سليمان صلوات الله وسلامه عليه {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ: 12] وهي عين من نحاس أسالها الله له وذُكر أنها كانت في اليمن، أسيلت له ثلاثة أيام، ثم قال: {وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [سبأ: 12]، الجن خدم بين يدي سليمان صلوات الله وسلامه عليه، على مختلف أشكالهم مؤمن الجن وكافر الجن، كلهم يعملون تحت يديه، إما أن يعمل باختياره وإما أن يُرغم على العمل وإما أن يسجن، كما قال الله تبارك وتعالى {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ﴿١٢﴾ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ: 13:12]. الجفان هي: الصحون الكبيرة، {كَالْجَوَابِ} [سبأ: 13]: كالحياض، والحياض هي أماكن شرب الإبل، {وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] القدر الذي يعمل فيه الطعام، {رَّاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] أي ثابتات، قدور كبيرة ثابتة، وقال الله - جلّ وعلا - عن الجن بل عن شياطين الجن وهم الكفرة من الجن: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص: 37] بعض الجن من الشياطين بناؤون يبنون لسليمان وآخرون غواصون يغوصون في البحر يخرجون له درر البحر، قال: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [ص: 38] وهم الذين يعصون أمره يكبلهم ويقيدهم في الأصفاد.
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله ﷺ فصلى إحدى الصلوات، فسمعناه يقول: "أعوذ بالله منك، ألعنك بلعنة الله" وكرر هذا ثلاث مرات، ثم بسط يده كأنه يُمسك بشيء فلما فرغ من الصلاة؛ قلنا: يا رسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك فقال صلوات الله وسلامه عليه: "إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله ثلاث مرات، فلم يستأخر" يعني: ما ابتعد الشيطان يقول: "ثم أردت أخذه" يعني: لما بسط يده صلوات الله وسلامه عليه "والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً"، يعني: لأمسكته وأوثقته، "يلعب به ولدان أهل المدينة"، تذكر دعوة أخيه سليمان {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي} [ص: 35](1)، وتركه تأدباً مع أخيه سليمان صلوات الله وسلامه عليهما.
(1) أخرجه الترمذي (2344)، وابن ماجه (4164) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو في "صحيح الجامع" (5254).
(1) أخرجه مسلم (542) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه ، وبنحوه البخاري (461)، ومسلم (541) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فصل - ما اتهم به سليمان من الكفر:
ذكر أهل التفسير أن نبي الله سليمان كان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر، وذكروا أنه كان يدفنه تحت كرسيه صلوات الله وسلامه عليه، وكانت الشياطين تعجز عن أن تصل إلى هذا السحر، فلما مات صلوات الله وسلامه عليه قالت الشياطين: إن سليمان كان يسخر الريح والشياطين بالسحر الذي يدفنه تحت كرسيه، يعني: هو الذي كان يعمل السحر، وكان الناس على قولين، بين متهم لنبي الله سليمان وبين مبرء له، أيصدقون ما تقوله الشياطين عن نبي الله سليمان أنه فعلاً كان يستخدم السحر الذي وجدوه تحت كرسيه أو أنهم يكذبون عليه.
واتُهِم كذلك بتهمة ثانية ﷺ ، وهي أنه عبد الأصنام، وهذا ما اتهمه به اليهود جاء في العهد القديم وهذا في سفر الملوك الإصحاح الحادي عشر: "وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه، فذهب سليمان وراء عشتروش إلهة الصدونيين وملكوم رجس العمونين وعمل سليمان الشر في عيني الرب ولم يتبع الرب تماماً كداود أبيه، حينئذ بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس المُآبيّين على الجبل الذي تجاه أورشليم، ولملوك رجس بني عمول، وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن ويذبحن لآلهتهن، فغضب الرب على سليمان؛ لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين"، إلى آخر هذا الهذيان وهذا الكفر الذي طفح به هذا الكتاب، وهو ما يسمونه التوراة وهم كذبوا على الله تبارك وتعالى وكذبوا على سليمان وحرفوا وزوروا في هذه التوراة.
استمر هذا الاتهام لسليمان عليه الصلاة والسلام هل كفر صلوات الله وسلامه عليه أم أنه بريء؟ استمر هذا الأمر حتى برأه الله - جلّ وعلا - على لسان محمد ﷺ حينما أنزل الله قوله - جلّ وعلا -: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ و لَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] هذا الذي يسمى بالتولة.
وقال النبي ﷺ : "التولة شرك"(1)، والتولة هو السحر الذي يصنع للزوجين إما لتقريب القلوب وإما لتفريقها، يقول الله - جلّ وعلا -: {وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ} [البقرة: 102] أي: في دينهم {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] فبرَّأَ الله عزّ وجلّ سليمان عليه السلام مما اتهم به من السحر، فقال: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ} [البقرة: 102] الذين اتهموه وكذبوا على الناس هم الذين كفروا، لأنهم هم الذين كانوا يعلمون الناس السحر.
(1) تقدم تخريجه ص256
فصل - بصيرة سليمان عليه السلام في الحكم:
الحكم الأول: في قول الله - جلّ وعلا -: {وَداوودَ وَسُلَيمانَ إِذ يَحكُمانِ فِي الحَرثِ إِذ نَفَشَت فيهِ غَنَمُ القَومِ وَكُنّا لِحُكمِهِم شاهِدينَ ﴿٧٨﴾ فَفَهَّمناها سُلَيمانَ وَكُلًّا آتَينا حُكمًا وَعِلمًا} [الأنبياء: 79:78] قضية طرحت على نبي الله داود عليه السلام أن رجلين جاءا لنبي الله داود عليه السلام، فقال أحدهما له: إن غنم هذا دخلت إلى حقلي، وأفسدت زرعي، قال: {نَفَشَت} [الأنبياء: 78] ولم يقل عاثت فساداً، ولم يقل دخلت، وإنما قال: {نَفَشَت} [الأنبياء: 78]، هذا معناه أنها دخلت ليلاً، والإنسان مسؤول عن إبله وغنمه ودوابه ليلاً، وغير مسؤول عنها نهاراً، ففي النهار يجب على صاحب المزرعة أن يحمي مزرعته؛ لأن هذه دواب وبهائم يتركها صاحبها ترعى، وعلى صاحب الدواب أن يمنعها من الخروج ليلاً، فهذا تركها تخرج ليلاً، فأفسدت حقل صاحبه، فقال له نبي الله داود: ما تقول؟ قال: هو كما قال، فسأل نبي الله داود عن قيمة هذا الزرع، فذكر له مبلغ، ولنفرض أنه أربعون ألفاً، فنظر في الغنم كم قيمتها؟ فإذا قيمة الغنم كقيمة ما أفسدت، يعني كانت قيمتها أربعين ألفاً، فقال: خذ غنمه مكان ما أفسد من الزرع، هذا حكم داود عليه السلام، وهو صواب، فلما حكم داود عليه السلام سكت الرجلان وقبلا، وكان مَلِكاً قاضياً.
وهنا تدخل سليمان، وقال: يا أبي تسمح لي أن أحكم؟ قال: نعم احكم، قال: يأخذ صاحب المزرعة غنم هذا الرجل فيستفيد منها في الفترة التي يقوم صاحب الغنم بإصلاح المزرعة كما كانت، يعني: صاحب الغنم يصلح المزرعة، وخلال فترة إصلاحه المزرعة حتى لا يتباطأ في إصلاحها ولا يتماهل يأخذ صاحب المزرعة الغنم فيستفيد من لبنها خلال هذه الفترة، ثم بعد ذلك يعيد له المزرعة كما كانت ويعيد له الغنم كما كانت، فيتحمل هذا ما أفسدت الغنم في العمل على إصلاح هذه المزرعة، ويستفيد صاحب المزرعة الفترة التي أفسدت فيه مزرعته يستفيد من لبن الأغنام، ففرح داود بهذا الحكم، فحكم داود صحيح وحكم سليمان أصح، لذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَداوودَ وَسُلَيمانَ إِذ يَحكُمانِ فِي الحَرثِ إِذ نَفَشَت فيهِ غَنَمُ القَومِ وَكُنّا لِحُكمِهِم شاهِدينَ ﴿٧٨﴾ فَفَهَّمناها سُلَيمانَ} [الأنبياء: 79:78] أي: فهمنا سليمان الحكم الأصح في هذه المسألة، ثم حتى لا يعيب أحد على داود عليه السلام حكمه؛ قال - جلّ وعلا -: {وَكُلًّا آتَينا حُكمًا وَعِلمًا} [الأنبياء: 79].
الحكم الثاني: أخبر النبي ﷺ أنهما كانتا امرأتان معهما ابناهما، هذه لها ابن وهذه لها ابن، فجاء الذئب فأكل أحدهما، فاختصمتا كل واحدة تقول: الذئب أكل ابن الأخرى، فاختصمتا عند داود صلوات الله وسلامه عليه، فصار يسألهما، سأل هذه وسأل هذه، ثم بعد ذلك تبين له من خلال ما سمع صلوات الله وسلامه عليه أن الابن الذي أخذه الذئب هو ابن الصغرى وقضى بالابن للكبرى، وكان سليمان حاضراً فقال: يا أبي أحكم بينهما؟ قال: نعم احكم بينهما، وكان يرى فيه النجابة والعلم والفهم، فأمر بالسكين فأُوتي بها فقال: سأقطع الولد نصفين لأنه يحتمل أن الذئب أخذ ابن الكبرى، ويحتمل أنه أخذ ابن الصغرى، فإن أعطيناه الكبرى أو أعطيناه الصغرى ظلمنا الأخرى إذا كان خطأ وليس هناك دليل قاطع يحكم من خلاله أهو للكبرى أو للصغرى، فقال: فقالت الكبيرة: نعم لا مانع اقطع، أما الصغرى فقالت: لا تفعل هو ابنها، فعرف سليمان صلوات الله وسلامه عليه أن الابن للصغرى وذلك أن شفقة الأم ظهرت ولو كان ابن الكبرى لم تقل اقطعه(1).
القضية الثالثة: التي قضى بها سليمان وهي من مرويات بني إسرائيل، ليست في القرآن ولا في السنة، ومرويات بنى إسرائيل نقول فيها: لا نُصَدِّق ولا نُكَذِّب، ونقول: الله أعلم.
وهذه القصة مفادها أن امرأة من بني إسرائيل حسناء راودها أربعة من رؤسائهم عن نفسها، فأبت عليهم، فذهب هؤلاء الرؤساء إلى داود عليه الصلاة والسلام قالوا: إن هذه المرأة عندها كلب دربته تدريباً، بحيث أنه يفعل معها الفاحشة، ورأيناها تفعل الفاحشة مع الكلب، فأمر برجمها.
وقد يقول قائل: أين حكم داود عليه الصلاة والسلام؟ وفي الغنم فهمها سليمان وفي الولد أيضاً فهمهم سليمان، والآن هنا أمر بقتلها وهي بريئة، نقول: لا ننسى أن الأحكام التي حكم فيها داود وأصاب صلوات الله وسلامه عليه كثيرة، حيث حكم أربعين سنة وهذا إن صحت هذه القصة، وبالنسبة للغنم قلنا: إن حكم داود صحيح وحكم سليمان أصح، وأما في الغلام، فهو كما قال النبي ﷺ : "إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحكم له، فإذا قضيت له فإنما هي جمرة من النار فليأخذها أو ليدعها" فالنبي صلوات الله وسلامه عليه سواء كان محمداً أو داود أو سليمان أو غيرهم من الأنبياء لا يعلمون الغيب، الذي يعلم الغيب هو الله - جلّ وعلا-.
لما شهد هؤلاء الأربعة عنده على هذه المرأة أنها زنت مع هذا الكلب، أمر برجمها، وشك سليمان عليه الصلاة والسلام ووقع في قلبه أنها بريئة، وهذه قصة ذكروا أنها كانت في صغره، أول قضية تَدَخَّل فيها، فشك بأن هؤلاء الرجال كَذَبَة فيما ادعوا على هذه المرأة، فجمع مجموعة من أصحابه، صبية معه ونادى والده وقال: أنه عمل مثل التمثيلية، فقال لهم: تعالوا اشهدوا عندي وأنا القاضي أن فلاناً فعل كذا مع الكلب فقالوا: نعم، فجاؤوا وشهدوا عنده فقال لهم: اخرجوا، فأمر بإخراجهم فأدخلهم واحداً واحداً فلما دخل الأول قال له: ما لون الكلب؟ قال: أحمر، فنادى الثاني قال: ما لون الكلب؟ قال: أسود، قال: اخرج، قال: ما لون الكلب، وقال الثالث: أصفر، وقال الرابع: أحمر، فاختلفوا في لون الكلب ففطن داود عليه الصلاة والسلام فاستدعى الرؤساء بعدما رجمت المرأة، فسألهم عن لون الكلب، وقد تكون هناك أسئلة أخرى، ما لون الكلب، متى كان هذا؟ بأي مكان؟ في أي ساعة؟ كيف رأيت؟ وهكذا لكن المهم أنه سألهم، كل واحد منهم على انفراد، فاختلفوا، فعرف أنهم كَذَبَة فقتلهم بها، هذه هي بعض القضايا التي حكم فيها سليمان صلوات الله وسلامه عليه.
(1) تقدم تخريجه ص155.
فصل - هل بنى سليمان عليه السلام بيت المقدس:
المشهور عند الناس أن نبي الله سليمان هو الذي بنى بيت المقدس وهذا صحيح وغير صحيح، صحيح هو بنى بيت المقدس، لكن غير صحيح أنه أول من بنى بيت المقدس، وإنما هو جدد بناءه، والذي بنى بيت المقدس هو نبي الله يعقوب صلوات الله وسلامه عليه، كما جاء في حديث أبي ذر أنه سأل النبي ﷺ ، أي مسجد في هذه الأرض أول؟ فقال: "المسجد الحرام" قال: ثم أي؟ قال: "المسجد الاقصى"! قال: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة"(1) أربعون سنة هي الفترة التي بين إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي بنى المسجد الحرام وبين حفيده يعقوب الذي بنى بيت المقدس، وإلا فإن سليمان بينه وبين إبراهيم أكثر من ألف سنة، فالصحيح أن الذي بنى بيت المقدس هو يعقوب صلوات الله وسلامه عليه، وإنما سليمان جدد بناءه وثبت أركانه.
(1) الأرَضَة: دودة أو دُوَيْبَة تأكل الخشب ونحوه، ويقال: خشبة مأروضة. "المعجم الوجيز" (ص13).
فصل - وفاة سليمان عليه السلام:
قال الله - جلّ وعلا -: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14] قدر الله تبارك وتعالى أنه مات وهو مستند على عصاه، ولا يعلم أحد أنه ميت فاستمروا في العمل حتى جاءت دابة الأرض اي: الأرضة(1) فصارت تأكل العصا من أسفل سقط نبي الله سليمان وعرفوا أنه كان قد مات، وهذا فيه أن الله أراد أن يبين للناس أن دعوى الجن أنهم يعلمون الغيب كذب وزور، {لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14] إذ لو كانوا علموا أن سليمان قد مات كانوا خرجوا وتركوا العمل، كم المدة التي بقي فيها سليمان على كرسيه مستنداً على عصاه؟ لا تعلم هذه المدة، قيل سنة وقيل غير ذلك، ولكنه بعيد جداً أن تكون سنة فهو عنده زوجات وعنده أولاد ويأكل ويشرب وينام، فصعب جداً أن يكون لمدة سنة مستنداً على عصاه، فلا يصح في هذا شيء، المهم أنها فترة زمنية كان فيها سليمان صلوات الله وسلامه عليه ميتاً والجن تعمل تظنه حياً، هذا الذي يهمنا في هذا الأمر وهو أن الله فضحهم في دعواهم أنهم يعلمون الغيب.
أولاً: : كمال اعتناء الله بأنبيائه ورسله، من التربية والرعاية.
ثانياً: ما مَنَّ الله به على سليمان صلوات الله وسلامه عليه من كمال الدين وكمال الخلق والفطنة والفهم.
ثالثاً: أن سليمان صلوات الله وسلامه عليه قدم محبة الله على كل شيء، وهذا على القول بأنه قتل الصافنات الجياد، ذبحها تقرباً لله - جلّ وعلا - لأنها ألهته عن طاعته.
رابعاً: أن كل ما شغل عن الطاعة فعلى الإنسان أن يفارقه، كما فعل نبي الله سليمان صلوات الله وسلامه عليه.
خامساً: من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فلما ترك نبي الله سليمان الخيل عوضه الله الريح.
سادساً: أن تسخير الشياطين لا يكون لأحد بعد سليمان، وكل من ادعى أنه يسخر الشياطين وأنها تخدمه رغماً عنها كذاب؛ لأن سليمان صلوات الله وسلامه عليه قال: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي} [ص: 35]، فأي إنسان يأتيك ويدعي أنه تخدمه الشياطين؛ فاعلم أنه كذاب فهي إن خدمته فباختيارها لا بتسخيره لها، وإنما تخدمه لأنه يخدمها فيكون هناك تبادل منافع أو مضار؛ لأنها لا تخدمه إلا إذا كفر بالله - جلّ وعلا - أما أن تسخر له الشياطين وأنها ترغم على خدمته فهذا باطل.
سابعاً: أن الله تبارك وتعالى أعطى سليمان مُلْكاً عظيماً ومع ذلك ما غره ذلك المُلْك بل كان عبداً تقياً لله - جلّ وعلا -.
ثامناً: أن الإنسان لا يستعجل في الأمور ويستشير من معه كما فعلت ملكة سبأ لما استشارت قومها وقالت لهم: أشيروا عليّ.