(ربح البيع يا أبا يحيى ... ربح البيع ...) [سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم]
صُهَيب الروميّ ...
ومَن منا - معشر المسلمين - لا يعرف صهيباً الروميّ ، ولا يُلِمّ بطرف من أخباره ونُتَف من سيرته ؟!
ولكن الذي لا يعرفه الكثير منا هو أن صهيباً لم يكن رومياً ، وإنما كان عربياً خالصاً ، نُمَيريّ(1) الأب تَميميّ(2) الأم.
ولانتساب صهيب إلى الروم قصة ما تزال تعيها ذاكرة التايخ ، وترويها أسفاره .
فقبل البعثة بحوالي عِقدين من الزمان كان يتولى "الأبلَّة"(3) سِنان بن مالك النميريّ ، من قِبَل كِسرى ملك الفرس .
وكان أحبّ أولاده إليه طفل لم يجاوز الخامسة من عمره ، دعاه صهيباً.
كان صهيب أزهر الوجه ، أحمر الشعر متدفق النشاط ذا عينين تتقدان فطنة ونجابة .
وكان إلى ذلك ممراحاً ، عذب الروح ، يُدخِل السرور على قلب أبيه ، وينتزع منه هموم المُلك انتزاعاً.
مضت أم صُهَيب مع ابنها الصغير وطائفة من حَشَمها وخدمها إلى قرية "الثَّنيّ" من أرض العراق طلباً للرّاحة والاستجمام ، فأغارت على القرية سَرِيَّة من سرايا جيش الروم ، فقتلت حُرَّاسها ، ونهبت أموالها ، وأسرت ذراريها .
فكان في جملة مَن أَسَرَتهم صُهَيب .
بِيعَ صُهَيب في أسواق الرقيق ببلاد الروم ، وجعلت تتداوله الأيدي فينتقل مِن خدمة سيد إلى خدمة آخر ، شأنه في ذلك كشأن الآلاف المؤلَّفَة من الأرِقَّاء الذي كانوا يملأون قصور بلاد الروم .
وقد أتاح ذلك لصُهَيب أن يَنفُذ إلى أعماق المجتمع الرومي ، وأن يقف عليه من داخله ، فرأى بيعنيه ما يُعَشِّش في قصوره من الرذائل والموبقات(4) ، وسمع بأذنيه ما يُرتَكَب فيها من المظالم والمآثم ، فَكَرِه ذلك المجتمع وازدراه(5).
وكان يقول في نفسه ، إن مجتمعاً كهذا لا يُطهِّره إلاَّ الطوفان .
وعلى الرغم من أن صهيباً قد نشأ في بلاد الروم ، وشَبَّ على أرضها وبين أهلها .
وعلى الرغم من أنه نَسِيَ العربية أو كاد ينساها ، فإنه لم يَغِب عن باله قط أنه عربي من أبناء الصحراء ...
ولم تَفتُر أشواقه لحظة إلى اليوم الذي يتحرر فيه من عبوديته ، ويلحق ببني قومه .
وقد زاده حنيناً إلى بلاد العرب فوق حنينه ، أنه سمع كاهناً(6) من كَهنة النصارى يقول لسيد من أسياده :
لقد أَطَلَّ(7) زمان يخرج فيه من مكة في جزيرة العرب نبي يُصَدِّق رسالة عيسى بن مريم ، ويُخرِج الناس من الظلمات إلى النور .
ثم أُتيحَت الفرصة لصُهَيب فَوَلَّى هارباً من رِقّ أسياده ، وَيَمَّم(8) وجهه شطر مكة أم القرى ومَوئل العرب ، ومبعث النبي المرتقب .
ولما ألقى عصاه(9) فيها أطلق الناس عليها اسم صهيب الرومي لِلُكنَة(10) لسانه وحُمرة شعره.
وقد حالف صهيب سيداً من سادات مكة هو عبد الله بن جُدعان وطفق يعمل في التجارة ، فدرَّت عليه الخير الوفير والمال الكثير.
غير أن صُهَيباً لم تُنسِه تجارته ومكاسبه حديث الكاهن النصرانيّ ، فكان كلما مرَّ كلامه بخاطره يُسائل نفسه في لهفة :
متى يكون ذلك ؟!
وما هو إلا قليل حتى جاءه الجواب.
ففي ذات يوم عاد صُهَيب إلى مكة من إحدى رحلاته ، فقيل له إن محمد بن عبد الله قد بُعِث وقام يدعو الناس إلى الإيمان بالله وحده ، ويحُضُّهُم على العدل والإحسان ، وينهاهم عن الفحشاء والمنكر .
فقال : أليس هو الذي يلقِّبونه بالأمين ؟!
فقيل له : بلى.
فقال : وأين مكانه؟
فقيل له : في دار الأرقم بن أبي الأرقم عند الصفا...
ولكن حذار من أن يراك أحد من قريش ؛ فإن رَأَوك فعلوا بك ... وفعلوا وأنت رجل غريب لا عصبية لك تحميك ، ولا عشيرة عندك تنصرك.
مضى صُهيب إلى دار الأرقم حَذِراً يتلفَّت ، فلما بلغها وجد عند الباب عمَّار بن ياسر ، وكان يعرفه من قبل ، فتردَّد لحظة ثم دنا منه وقال : ما تريد يا عمار ؟
فقال عمار : بل ما تريد أنت ؟
فقال صهيب : أردت أن أدخُل على هذا الرجل ، فأسمع منه ما يقول .
فقال عمار : وأنا أريد ذلك أيضاً .
فقال صهيب : إذَن ندخل معاً على بركة الله.
دخل صهيب بن سنان الرومي وعمار بن ياسر على رسول الله ﷺ واستمعا إلى ما يقول ، فأشرق نور الإيمان في صَدرَيهما ، وتسابقا في مدِّ أيديهما إليه ، وشهدا أن لا إلله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأمضيا سحابة(11) يومهما عنده ينهلان من هَديِه ويَنعُمان بصُحبته.
ولما أقبل الليل ، وهدأت الحركة ، خرجا من عنده تحت جُنح الظلام ، وقد حمل كل منهما من النور في صدره ما يكفي لإضاءة الدنيا بأسرها.
تحمل صهيب نصيبه من أذى قريش مع بلال وعمار وسمية وخباب وغيرهم من عشرات المؤمنين ، وقاسى من نكال قريش ما لو نزل بجبل لَهَدَّه ، فتلقى ذلك كله بنفس مطمئنة صابرة ، لأنه كان يعلم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره .
ولما أذن الرسول لأصحابه بالهجرة إلى المدينة ، عزم صهيب على أن يمضي في صحبة الرسول وأبي بكر ؛ لكن قريشاً شعرت بعزمه على الهجرة فصدَّته(12) عن غايته ، وأقامت عليه الرُّقَباء حتى لا يفلت من أيديهم ، ويحمل معه ما دَرَّته عليه التجارة من فضة وذهب.
ظل صهيب بعد هجرة الرسول وصاحبه يتحين(13) الفرص للحاق بهما فلم يُفلح ، إذ كانت أعين الرُّقباء ساهرة عليه متيقظة له ؛ فلم يجد سبيلاً غير اللجوء إلى الحيلة.
في ذات ليلة باردة أكثر صهيب من الخروج إلى الخلاء كأنه يقضي الحاجة ، فكان لا يرجع من قضاء حاجته حتى يعود إليها .
فقال بعض رقبائه لبعض : طيبوا نفساً فإن اللاَّت والعزَّى شغلاه ببطنه ...
ثم أوَوا إلى مضاجعهم وأسلموا عيونهم إلى الكرى(14).
فتسلل صهيب من بينهم ، ويمَّم وجهه شطر المدينة .
لم يمضِ غير قليل على رحيل صُهَيب حتى فَطِن له رقباؤه ، فَهَبُّوا من نومهم مذعورين ، وامتطوا خيولهم السوابق ، وأطلقوا أَعِنَّتها(15) خلفه حتى أدركوه.
فلما أحس بهم ، وقف على مكان عالٍ وأخرج سهامه من كنانته(16) وَوَتَر(17) قوسه وقال :
يا معشر قريش ، لقد علمتم - والله - أني مِن أرمى الناس وأحكمهم إصابة ..
ووالله لا تصلون إليَّ حتى أقتُل بكل سهم معي رجلاً منكم.
ثم أضربكم بسيفي ما بَقِيَ في يدي شيءٌ منه . فقال قائل منهم :
والله لا ندعك تفوز منا بنفسك وبمالك ...
لقد أتيت مكة صُعلوكاً(18) فقيراً فاغتنيت وبلغت ما بلغت.
فقال : أرأيتم إن تركت لكم مالي ، أتُخَلُّون سبيلي ؟
قالوا : نعم .
فدلَّهم على موضع ماله في بيته في مكة ، فمضوا إليه وأخذوه منه ، ثم أطلقوا سراحه .
أخذ صُهَيب يُغِذُّ السير نحو المدينة فاراً بدينه إلى الله ، غير آسف على المال الذي أنفق في جَنيِه زهرة العمر .
وكان كلما أدركه الوَنَى(19) وأصابه التعب ، استفزه الشوق إلى رسول الله ﷺ فيعود إليه نشاطه ، ويواصل سيره.
فلما بلغ قباء(20) رآه الرسول صلوات الله وسلامه عليه مقبلاً ، فَهَشَّ له وبشَّ وقال :
( ربح البيع يا أبا يحيى ربح البيع ) وكرَّرَها ثلاثاً .
فَعَلَت الفرحة وجه صُهَيب وقال :
والله ما سبقني إليك أحد يا رسول الله .
وما أخبرك به إلاَّ جبريل .
حقاً لقد ربح البيع ...
وصدَّق ذلك وحي السماء ...
وشهد عليه جبريل ... حيث نزل في صُهَيب قول الله جلَّ وعزَّ:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}(20).
فطوبى لصُهَيب بن سنان الرومي ، وحُسُنُ مآب (*).
(*) للاستزادة من أخبار صهيب الرومي انظر :
1- الإصابة : الترجمة : 4104.
2- طبقات ابن سعد : 3/226.
3- أسد الغابة : 3/30.
4- الاستيعاب (على هامش الإصابة) : 2/174.
5- صفة الصفوة : 1/169.
6- البداية والنهاية : 7/318-319.
7- حياة الصحابة : (انظر القهارس في الجزء الرابع).
8- الأعلام ومراجعه.
صُهَيب الروميّ
(1) نميري الأب : أي إن أباه من بني نمير .
(2) تميمي الأم : أي إن أمه من بني تميم.
(3) الأبلة : مدينة قديمة دخلت في البصرة وأصبحت جزءاً منها .
(4) الموبقات : الفواحش.
(5) ازدراه : احتقره .
(6) الكاهن : رجل الدين عند النصارى .
(7) أطل : اقترب .
(8) يمم وجهه شطر مكة : توجه نحو مكة .
(9) ألقى عصاه فيها : نزل فيها واستقر.
(10) للكنة لسانه : لثقل لسانه .
(11) سحابة يومهما : طول يومهما .
(12) صدته : منعته .
(13) يتحين الفرص : يترقب الفرص.
(14) الكرى : النوم.
(15) العنان : الرسن ، وجمعهُ أعنَّة .
(16) الكنانة : الجعبة التي توضع فيها السهام.
(17) وتر قوسه : شد وتره : استعداداً للرمي.
(18) الصعلوك : الضعيف الفقير .
(19) الونى : التعب.
(20) قباء : قرية على بعد ميلين من المدينة.
(21) سورة البقرة ، الآية 207.