• 22 تشرين الثاني 2017
  • 7,601

سلسلة من نحب – صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم – (52) سيدنا صُهَيب الروميّ رضي الله عنه :

(ربح البيع يا أبا يحيى ... ربح البيع ...) [سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم]

صُهَيب الروميّ ...

ومَن منا - معشر المسلمين - لا يعرف صهيباً الروميّ ، ولا يُلِمّ بطرف من أخباره ونُتَف من سيرته ؟!

ولكن الذي لا يعرفه الكثير منا هو أن صهيباً لم يكن رومياً ، وإنما كان عربياً خالصاً ، نُمَيريّ(1) الأب تَميميّ(2) الأم.

ولانتساب صهيب إلى الروم قصة ما تزال تعيها ذاكرة التايخ ، وترويها أسفاره .

فقبل البعثة بحوالي عِقدين من الزمان كان يتولى "الأبلَّة"(3) سِنان بن مالك النميريّ ، من قِبَل كِسرى ملك الفرس .

وكان أحبّ أولاده إليه طفل لم يجاوز الخامسة من عمره ، دعاه صهيباً.

كان صهيب أزهر الوجه ، أحمر الشعر متدفق النشاط ذا عينين تتقدان فطنة ونجابة .

وكان إلى ذلك ممراحاً ، عذب الروح ، يُدخِل السرور على قلب أبيه ، وينتزع منه هموم المُلك انتزاعاً.

مضت أم صُهَيب مع ابنها الصغير وطائفة من حَشَمها وخدمها إلى قرية "الثَّنيّ" من أرض العراق طلباً للرّاحة والاستجمام ، فأغارت على القرية سَرِيَّة من سرايا جيش الروم ، فقتلت حُرَّاسها ، ونهبت أموالها ، وأسرت ذراريها .

فكان في جملة مَن أَسَرَتهم صُهَيب .

بِيعَ صُهَيب في أسواق الرقيق ببلاد الروم ، وجعلت تتداوله الأيدي فينتقل مِن خدمة سيد إلى خدمة آخر ، شأنه في ذلك كشأن الآلاف المؤلَّفَة من الأرِقَّاء الذي كانوا يملأون قصور بلاد الروم .

وقد أتاح ذلك لصُهَيب أن يَنفُذ إلى أعماق المجتمع الرومي ، وأن يقف عليه من داخله ، فرأى بيعنيه ما يُعَشِّش في قصوره من الرذائل والموبقات(4) ، وسمع بأذنيه ما يُرتَكَب فيها من المظالم والمآثم ، فَكَرِه ذلك المجتمع وازدراه(5).

وكان يقول في نفسه ، إن مجتمعاً كهذا لا يُطهِّره إلاَّ الطوفان .

وعلى الرغم من أن صهيباً قد نشأ في بلاد الروم ، وشَبَّ على أرضها وبين أهلها .

وعلى الرغم من أنه نَسِيَ العربية أو كاد ينساها ، فإنه لم يَغِب عن باله قط أنه عربي من أبناء الصحراء ...

ولم تَفتُر أشواقه لحظة إلى اليوم الذي يتحرر فيه من عبوديته ، ويلحق ببني قومه .

وقد زاده حنيناً إلى بلاد العرب فوق حنينه ، أنه سمع كاهناً(6) من كَهنة النصارى يقول لسيد من أسياده :

لقد أَطَلَّ(7) زمان يخرج فيه من مكة في جزيرة العرب نبي يُصَدِّق رسالة عيسى بن مريم ، ويُخرِج الناس من الظلمات إلى النور .

ثم أُتيحَت الفرصة لصُهَيب فَوَلَّى هارباً من رِقّ أسياده ، وَيَمَّم(8) وجهه شطر مكة أم القرى ومَوئل العرب ، ومبعث النبي المرتقب .

ولما ألقى عصاه(9) فيها أطلق الناس عليها اسم صهيب الرومي لِلُكنَة(10) لسانه وحُمرة شعره.

وقد حالف صهيب سيداً من سادات مكة هو عبد الله بن جُدعان وطفق يعمل في التجارة ، فدرَّت عليه الخير الوفير والمال الكثير.

غير أن صُهَيباً لم تُنسِه تجارته ومكاسبه حديث الكاهن النصرانيّ ، فكان كلما مرَّ كلامه بخاطره يُسائل نفسه في لهفة :

متى يكون ذلك ؟!

وما هو إلا قليل حتى جاءه الجواب.

ففي ذات يوم عاد صُهَيب إلى مكة من إحدى رحلاته ، فقيل له إن محمد بن عبد الله قد بُعِث وقام يدعو الناس إلى الإيمان بالله وحده ، ويحُضُّهُم على العدل والإحسان ، وينهاهم عن الفحشاء والمنكر .

فقال : أليس هو الذي يلقِّبونه بالأمين ؟!

فقيل له : بلى.

فقال : وأين مكانه؟

فقيل له : في دار الأرقم بن أبي الأرقم عند الصفا...

ولكن حذار من أن يراك أحد من قريش ؛ فإن رَأَوك فعلوا بك ... وفعلوا وأنت رجل غريب لا عصبية لك تحميك ، ولا عشيرة عندك تنصرك.

مضى صُهيب إلى دار الأرقم حَذِراً يتلفَّت ، فلما بلغها وجد عند الباب عمَّار بن ياسر ، وكان يعرفه من قبل ، فتردَّد لحظة ثم دنا منه وقال : ما تريد يا عمار ؟

فقال عمار : بل ما تريد أنت ؟

فقال صهيب : أردت أن أدخُل على هذا الرجل ، فأسمع منه ما يقول .

فقال عمار : وأنا أريد ذلك أيضاً .

فقال صهيب : إذَن ندخل معاً على بركة الله.

دخل صهيب بن سنان الرومي وعمار بن ياسر على رسول الله ﷺ واستمعا إلى ما يقول ، فأشرق نور الإيمان في صَدرَيهما ، وتسابقا في مدِّ أيديهما إليه ، وشهدا أن لا إلله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأمضيا سحابة(11) يومهما عنده ينهلان من هَديِه ويَنعُمان بصُحبته.

ولما أقبل الليل ، وهدأت الحركة ، خرجا من عنده تحت جُنح الظلام ، وقد حمل كل منهما من النور في صدره ما يكفي لإضاءة الدنيا بأسرها.

تحمل صهيب نصيبه من أذى قريش مع بلال وعمار وسمية وخباب وغيرهم من عشرات المؤمنين ، وقاسى من نكال قريش ما لو نزل بجبل لَهَدَّه ، فتلقى ذلك كله بنفس مطمئنة صابرة ، لأنه كان يعلم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره .

ولما أذن الرسول لأصحابه بالهجرة إلى المدينة ، عزم صهيب على أن يمضي في صحبة الرسول وأبي بكر ؛ لكن قريشاً شعرت بعزمه على الهجرة فصدَّته(12) عن غايته ، وأقامت عليه الرُّقَباء حتى لا يفلت من أيديهم ، ويحمل معه ما دَرَّته عليه التجارة من فضة وذهب.

ظل صهيب بعد هجرة الرسول وصاحبه يتحين(13) الفرص للحاق بهما فلم يُفلح ، إذ كانت أعين الرُّقباء ساهرة عليه متيقظة له ؛ فلم يجد سبيلاً غير اللجوء إلى الحيلة.

في ذات ليلة باردة أكثر صهيب من الخروج إلى الخلاء كأنه يقضي الحاجة ، فكان لا يرجع من قضاء حاجته حتى يعود إليها .

فقال بعض رقبائه لبعض : طيبوا نفساً فإن اللاَّت والعزَّى شغلاه ببطنه ...

ثم أوَوا إلى مضاجعهم وأسلموا عيونهم إلى الكرى(14).

فتسلل صهيب من بينهم ، ويمَّم وجهه شطر المدينة .

لم يمضِ غير قليل على رحيل صُهَيب حتى فَطِن له رقباؤه ، فَهَبُّوا من نومهم مذعورين ، وامتطوا خيولهم السوابق ، وأطلقوا أَعِنَّتها(15) خلفه حتى أدركوه.

فلما أحس بهم ، وقف على مكان عالٍ وأخرج سهامه من كنانته(16) وَوَتَر(17) قوسه وقال :

يا معشر قريش ، لقد علمتم - والله - أني مِن أرمى الناس وأحكمهم إصابة ..

ووالله لا تصلون إليَّ حتى أقتُل بكل سهم معي رجلاً منكم.

ثم أضربكم بسيفي ما بَقِيَ في يدي شيءٌ منه . فقال قائل منهم :

والله لا ندعك تفوز منا بنفسك وبمالك ...

لقد أتيت مكة صُعلوكاً(18) فقيراً فاغتنيت وبلغت ما بلغت.

فقال : أرأيتم إن تركت لكم مالي ، أتُخَلُّون سبيلي ؟

قالوا : نعم .

فدلَّهم على موضع ماله في بيته في مكة ، فمضوا إليه وأخذوه منه ، ثم أطلقوا سراحه .

أخذ صُهَيب يُغِذُّ السير نحو المدينة فاراً بدينه إلى الله ، غير آسف على المال الذي أنفق في جَنيِه زهرة العمر .

وكان كلما أدركه الوَنَى(19) وأصابه التعب ، استفزه الشوق إلى رسول الله ﷺ فيعود إليه نشاطه ، ويواصل سيره.

فلما بلغ قباء(20) رآه الرسول صلوات الله وسلامه عليه مقبلاً ، فَهَشَّ له وبشَّ وقال :

( ربح البيع يا أبا يحيى ربح البيع ) وكرَّرَها ثلاثاً .

فَعَلَت الفرحة وجه صُهَيب وقال :

والله ما سبقني إليك أحد يا رسول الله .

وما أخبرك به إلاَّ جبريل .

حقاً لقد ربح البيع ...

وصدَّق ذلك وحي السماء ...

وشهد عليه جبريل ... حيث نزل في صُهَيب قول الله جلَّ وعزَّ:

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}(20).

فطوبى لصُهَيب بن سنان الرومي ، وحُسُنُ مآب (*).

 

 

(*) للاستزادة من أخبار صهيب الرومي انظر :

1- الإصابة : الترجمة : 4104.

2- طبقات ابن سعد : 3/226.

3- أسد الغابة : 3/30.

4- الاستيعاب (على هامش الإصابة) : 2/174.

5- صفة الصفوة : 1/169.

6- البداية والنهاية : 7/318-319.

7- حياة الصحابة : (انظر القهارس في الجزء الرابع).

8- الأعلام ومراجعه.

صُهَيب الروميّ

 

(1) نميري الأب : أي إن أباه من بني نمير .

(2) تميمي الأم : أي إن أمه من بني تميم.

(3) الأبلة : مدينة قديمة دخلت في البصرة وأصبحت جزءاً منها .

(4) الموبقات : الفواحش.

(5) ازدراه : احتقره .

(6) الكاهن : رجل الدين عند النصارى .

(7) أطل : اقترب .

(8) يمم وجهه شطر مكة : توجه نحو مكة .

(9) ألقى عصاه فيها : نزل فيها واستقر.

(10) للكنة لسانه : لثقل لسانه .

(11) سحابة يومهما : طول يومهما .

(12) صدته : منعته .

(13) يتحين الفرص : يترقب الفرص.

(14) الكرى : النوم.

(15) العنان : الرسن ، وجمعهُ أعنَّة .

(16) الكنانة : الجعبة التي توضع فيها السهام.

(17) وتر قوسه : شد وتره : استعداداً للرمي.

(18) الصعلوك : الضعيف الفقير .

(19) الونى : التعب.

(20) قباء : قرية على بعد ميلين من المدينة.

(21) سورة البقرة ، الآية 207.

 

مقالات ذات صلة :