• 4 كانون الأول 2017
  • 8,004

سلسلة من نحب – صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم – (57) سيدنا طلحة بن عبيد الله التيمّي رضي الله عنه :

(من سره أن ينظر ألي رجل يمشي على الأرض و قد قضى نحبه ، فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله) [سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم]

كان طلحة بن عبيد الله التيمي يمضي مع قافلة من قوافل قريش في تجارة له إلى بلاد الشام ، فلما بلغت القافلة مدينة بصرى (1) ، هب الشيوخ من تجار قريش إلى سوقها العامرة يبيعون ويشترون .

و على الرغم من أن طلحة كان شاباً حدثاً (2) ليس له مثل خبرتهم في التجارة ، إلّا أنّه كان يملك من حدة الذكاء و نفاذه البصيرة ما يتيح له منافستهم ، و الفوز من دونهم بأفضل الصفقات .

و فيما كان طلحة يروح و يغدو في السوق التي تموج بالوافدين عليها من كل مكان ، حدث له أمر لم يكن سبباً في تغيير مجرى حياته كلها فحسب . . .

و إنما كان بشيراً بتغيير سير التاريخ كله . . .

فلنترك الكلام لطلحة بن عبيد الله ليروي لنا قصّته المثيرة .

قال طلحة : بينما نحن في سوق بصرى ، إذا راهبٌ(3) ينادي في الناس :

يا معشر التجار ، سلوا أهل هذا الموسم (4) ، أفيهم أحد من أهل الحرم ؟

و كنت قريباً منه فبادرت إليه و قلت : نعم أنا من أهل الحرم(5)

فقال : هل ظهر فيكم أحمد ؟

فقلت : و من أحمد ؟!

فقال : ابن عبد الله ابن عبد المطلب . . .

هذا شهره الذي يظهر فيه . . .

و هو أخر الأنبياء . . .

يخرج من أرضكم من الحرم ، و يهاجر إلى أرضٍ ذات حجار سود ، و نيل و سباخ (6) ينز (7) منها الماء . . .

فإيّاك أن تسبق إليه يا فتى .

قال طلحة : فوقعت مقالته في قلبي ، فبادرت إلى مطاياي(8)

فرحلتها(9) ، و خلفت القافلة ورائي ، ومضيت أهوي هوياً(10) إلى مكة .

فلمّا بلغتها قلت لأهلي : أكان من حدث بعدنا في مكة ؟

قالوا : نعم ، قام محمد بن عبد الله ، يزعم أنه نبي ، و قد تبعه إبن أبي قحافة ( يريدون أبا بكر ) .

قال طلحة : و كنت أعرف أبا بكرٍ ، فقد كان رجلاً سهلاً محبباً موطّأ الأكتاف(11) . . .

و كان تاجراً ذا خلق و استقامةٍ ، و كنا نألفه ، و نحب مجالسه ، لعلمه بأخبار قريش ، وحفظه لأنسابها .

فمضيت إليه وقلت له : أحقاً ما يقال من أن محمد بن عبد الله أظهر النبوة ، و أنك اتبعته ؟ !

قال : نعم . . . و جعل يقص علي من خبره ، و يرغبني في الدخول معه ، فأخبرته خبر الرّاهب ، فدهش له و قال :

هلمّ(12) معي إلى محمد لتقص عليه خبرك ، و لتسمع ما يقول . . . و لتدخل في دين الله . . .

قال طلحة : فمضيت معه إلى محمد فعرض علي الإسلام ، و قرأ علي شيئاً من القرآن ، و بشّرني بخيري الدنيا و الآخرة .

فشرح الله صدري إلى الإسلام ، و قصصت عليه قصة راعي بصرى فسر بها سروراً  بدا على وجهه.

ثم أعلنت بين يديه شهادة أن لا أله إلّا الله و أن محمداً رسول الله . . .

فكنت رابع ثلاثةٍ أسلموا على يدي أبي بكر .

وقع إسلام الفتى القرشي على أهله و ذويه وقوع الصاعقة .

و كان أشدهم جزعاً(13) لإسلامه أمه ، فقد كانت ترجو أن يسود قومه لما يتمتع به من كريم الشمائل و جليل الخصائل . . .

و قد بادر إليه قومه ليثنوه عن دينه  فوجدوه كالطود(14) الراسخ الذي لا يتزعزع .

فلما يئسوا من إقناعه بالحسنى لجؤوا إلى  تعذيبه و التنكيل به . . .

حدّث مسعود بن خراش قال : بينما كنت أسعى بين الصفا و المروة(15) ، إذا أناس كثير يتبعون فتى أوثق يداه (16) إلى عنقه . . . و هم يهرولون وراءه ، و يدفعونه في ظهره ، و يضربونه على رأسه .

و خلفه امرأة عجوز تسبّه و تصيح به . . .

فقلت : ما شأن(17) هذا الفتى ؟!

فقالوا : هذا طلحة بن عبيد الله ، صبأ(18) عن دينه ، و تبع غلام بني هاشم . . .

فقلت : ومن هذه العجوز التي وراءه ؟

فقال : هي الصعبة بنت الحضرمي أم الفتى . . .

ثم أن نوفل بن خويلد الملقب بأسد قريش ، قام إلى طلحة بن عبيد الله فأوثقه في حبل ، و أوثق معه أبا بكرٍ الصديق ، وقرنهما معاً و أسلمهما إلى سفهاء مكة ليذيقوهما أشدّ العذاب . . .

لذلك دعي طلحة بن عبيد الله و أبو بكرٍ الصدّيق بالقرينين .

ثم جعلت الأيام تدور ، و الأحداث تتلاحق ، و طلحة بن عبيد الله يزداد مع الأيام اكتمالاً ، و بلاؤه في سبيل الله و رسوله يكبر ويتعاظم ، و بره بالإسلام و المسلمين ينمو و يتسع ، حتى أطلق عليه المسلمون لقب الشهيد الحي و دعاه الرسول عليه الصلاة و السلام بطلحة الخير ، و طلحة الجود ، و طلحة الفياض و لكل من هذه الألقاب قصة لا تقل روعة عن أخواتها .

أما قصّة تلقيبه بالشهيد الحي فكانت يوم أحد حين انهزم المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ولم يبقى معه غير أحد عشر رجلاً من الأنصار و طلحة بن عبيد الله من المهاجرين .

وكان النبي عليه الصلاة و السلام  يصعد هو ومن معه في الجبل فلحقت به عصبة من المشركين تريد قتله .

فقال عليه الصلاة و السلام : (من يرد عنا هؤلاء و هو رفيقي في الجنة؟)

فقال طلحة : أنا يا رسول الله .

فقال عليه الصلاة و السلام : ( لا ، مكانك(19) ) .

فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله .

فقال : ( نعم ، أنت ) .

فقاتل الأنصاري حتى قتل ، ثم صعد الرسول عليه الصلاة و السّلام بمن معه فلحقه المشركون ، فقال :

(ألا رجل لهؤلاء ؟!)

فقال طلحة : أنا يا رسول الله .

فقال عليه الصلاة و السلام  : (لا ، مكانك) .

فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله .

فقال : (نعم ، أنت) ثم قاتل الأنصاري حتى قتل أيضاً .

و تابع الرسول صعوده ، فلحق به المشركون فلم يزل يقول مثل قوله ، و يقول طلحة : أنا يا رسول الله ، فيمنعه النبي ، و يأذن لرجل من الأنصار حتى استشهدو جميعاً ، و لم يبقى معه إلا طلحة فلحق به المشركون فقال لطلحة :

(الآن ، نعم . . . ) .

وكان الرسول عليه الصلاة و السلام قد كسرت رباعيّته(20) وشجّ جبينه ، و جرحت شفته و سال الدم على وجهه ، وأصابه الإعياء (21) فجعل طلحة يكر(22) على المشركين حتى يدفعهم عن رسول الله ثم ينقلب إلى النبي فيرقى به قليلاً في الجبل، ثم يسنده إلى الأرض ، و يكر على المشركين من جديدٍ . . .

وما زال كذلك حتى صدهم عنه . . .

قال أبو بكر : وكنت آنئذ أنا و أبو عبيدة بن الجراح بعيدين عن رسول الله ، فلما أقبلنا عليه نريد إسعافه قال :

(اتركاني و انصرفا إلى صاحبكما) ،< يريد طلحة> .

فإذا طلحة تنزف دماؤه ، وفيه بضع و سبعون ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم . . .

و إذا هو قد قطعت كفه ، وسقط في حفرة مغشيّاً عليه . . .

فكان الرسول عليه الصلاة و السلام يقول بعد ذلك :

(من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض ، قد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله) .

و كان الصديق رضوان الله عليه إذا ذكر أحد يقول : ذلك اليوم كله لطلحة . . .

هذه هي قصّة نعت طلحة بين عبيد الله بالشهيد الحي ، أما تلقيبه بطلحة الخير و طلحة الجود فله مائة قصّة و قصّة . . .

من ذلك أن طلحة كان تاجراً واسع التجارة عظيم الثراء ، فجاءه ذات يوم مال من حضرموت مقدراه سبعمائة ألف درهم ، فبات ليلته وجلاً(23) جزعاً محزوناً .

فدخلت عليه زوجته أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق و قالت :

ما بك يا أبا محمد  ؟!!

لعله رابك(24) منا شيء  !!

فقال : لا ، ولنعم حليلة (25) الرجل المسلم أنت . . .

و لكن تفكرت منذ الليلة و قلت :

ما ظن رجل بربه إذا كان ينام و هذا المال في بيته ؟!

قالت : وما يغمك(26) منه ؟!

أين أنت من المحتاجين من قومك و أخلاّئك ؟!

فإذا أصبحت فقسمه بينهم .

فقال : رحمك الله ، إنّك موفّقة بنت موفّق . . .

فلما أصبح جعل المال في صرر و جفان(27) و قسمه بين فقراء المهاجرين و الأنصار

وروي أيضا أن رجلاً جاء إلى طلحة بن عبيد الله يطلب رفده(28) و ذكر له رحماً تربطه به ، فقال طلحة :

هذه رحم ما ذكرها لي أحد من قبل .

و إن لي أرضاً دفع لي فيها عثمان بن عفان ثلاثمائة ألفٍ . . .

فإن شئت خذها و إن شئت بعتها لك منه بثلاثمائة ألفٍ ، و أعطيتك الثمن ، فقال الرجل :

بل آخذ ثمنها . . .

فأعطاه إيّاه . . .

هنيئاً لطلحة الخير و الجود هذا اللقب الذي خلعه عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و رضي الله عنه و نور له في قبره .

_________________________________________________________

(*) للاستزادة من أخبار طلحة بن عبيد الله التيمّي انظر :

1- الطبقات الكبرى : 3 – 152

2- تهذيب التهذيب : 5 – 20

3- البدء و التاريخ : 5 – 12

4- الجمع بين الرجال الصحيحين : 230

5- غاية النهاية : 1- 342

6- الرياض النضرة : 2- 249

7- صفة الصفوة : 1- 130

8- حلية الأولياء : 1-7

9- ذيل المذيل : 11

10- تهذيب ابن عساكر : 7-71

11- المحبّر : 355

12- رغبة الأمل 4-16 ، 89

طلحة بن عبيد الله التيمّي

 

(1) بصرى : مدينة في بلاد الشام و هي الآن محافظة حوران في سوريا .

(2)حدثاً : صغير السن .

(3) الراهب : رجل الدين عند النصارى .

(4) الموسم : مجتمع الناس للحج  أو للبيع و الشراء .

(5) أهل الحرم : أهل مكة .

(6) أرض ذات سباخ : أرض فيها نز و ملح .

(7) ينز : يتحلب .

(8) مطاياي : جمالي .

(9) رحلتها : وضعت عليها رحالها استعداداً للسفر .

(10) أهوي هوياً : اندفع مسرعاً .

(11) موطأ الأكتاف : لين الجانب .

(12) هلم معي :  امض معي .

(13) جزعاً : حزناً وهلعاً .

(14) الطود : الجبل العظيم .

(15) الصفا و المروة : مشعران من مشاعر الحج يسعى الحجاج و المعتمرون بينهما.

(16) أوثقت يداه : كتفت يداه و ربطتا .

(17) ما شأن هذا الفتى : ما أمره و خبره ؟

(18) صبأ عن دينه : رجع عن دينه .

(19) مكانك : ألزم مكانك .

(20) رباعيته : سنّه التي بين الناب  و الثنية .

(21) الإعياء : التعب .

(22) يكر : يهجم .

(23) وجلاً : خائفاً .

(24) رابك : أصابك : أصابك و ساءك .

(25) الحليلة : الزوجة .

(26) يغمك : يهمك و يدخل عليك  الغم .

(27) جفان : جمع جفنة و هي القصعة الكبيرة .

(28) رفده : معونته و عطائه .

مقالات ذات صلة :