المقدمة :
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله إله الأولين و الأخرين، الحمد لله خالق الخلق أجمعين، الحمد لله على ما أنعم، الحمد لله على نعمة الإيمان، والحمد لله على نعمة القرآن، والحمد لله على نعمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، والصلاة والسلام على رسولنا محمد، النبي الأمي وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد فمازال موضوعنا مستمرا حول قول الله تبارك وتعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } [الأحزاب: 23] .
وحديثنا في هذه الليلة عن القارئ المُلَقن، والغلام المُعّلَم، والفقيه المفّهَم، عُرف بأنه صاحب الوِساد، أي: الفراش، وهو صاحب السواد أي السر، وهو صاحب طهور النبي ﷺ، وهو صاحب النعلين للنبي ﷺ، وهو صاحب السواك، كل ذلك في سفره صلوات الله وسلامه عليه، كان من أقرب الناس إلى رسول الله ﷺ في حضره، وفي سفره، وكانت له خصوصية في سفر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كان يحمل سره وفراشه ونعاله و وضوؤه وسواكه، كان يأمنه النبي ﷺ على ذلك كله، هو أول من جهر بالقرآن الكريم في مكة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
حديثنا في هذه الليلة عن حليف بني زهرة، أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود بن غافل الهدلي ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ لما دعا النبي ﷺ في مكة إلى عبادة الله ـ جل وعلا ـ وحده لا شريك له تابعه البعض، ومنهم هذا الرجل، وقد أخبر عن نفسه أنه كان سادس ستة في الإسلام ما على وجه الأرض من يعبد الله غيرهم، غيرهم.
سار النبي يدعو إلى الله ، ويتابعه هؤلاء حتى قال أصحاب النبي ﷺ يوماً بعد أن كثروا قليلاً، من منكم يقول بعضهم لبعض يقوم فيسمع قريشاً شيئاً من القرآن فإنهم ما سمعوه ، ما سمعوه لانهم لا يسمحوا بذلك، فقالوا من يسمعهم رغماً عنهم، من يجهر بالقرآن بين كفار مكة، في ناديهم عند الكعبة، فقام صاحبنا، عبد الله بن مسعود ، وقال أنا، قالوا له: لا. بل تجلس أنت فإنه لا سند لك، فهو ليس من قريش إنه حليف لقريش هذلي، من بني هذيل، قالوا: يقوم غيرك، قال: لا إلا أنا. قالوا: أنت وذاك. فخرج إلى قريش في ناديِّهم، أي في مجلسهم، فصار يقرأ عليهم سورة الرحمن، فتعجب كفار مكة، كأبي جهل، وأبي لهب، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف، وغيرهم، تعجبوا كيف يجرؤ راعي الغنم؟ كيف يجرؤ هذا الهذلي؟ كيف يجرؤ على أن يسمعنا ما نكره؟ فقاموا إليه يسكتونه فلم يسكت. فضربوه، ضرباً شديداً حتى سال منه الدم! حتى سقط، وتركوه. فجاءه أصحابه وحملوه، وقالوا له: قد قلنا لك إنه ليس لك ظهر، يدفع عنك، قبيلة تحميك أبناء عمومة، قال: والله إنهم الآن أهون عندي مما كانوا قبل. وإن شئتم ففي الغد أسمعهم مرة ثانية، هانوا عندي الآن، أنا كنت أظن أن شرهم أكثر من ذلك ، والله إنهم الآن أهون عندي، وإن شئتم غدوتهم به. فقالوا: بل تتركهم يكفيهم ما سمعوا.
فصل – إسلامه :
عبد الله بن مسعود، كان يرعى الغنم لعقبة بن أبي معيط، راعي غنم، فخرج النبي ﷺ يوماً ومعه أبو بكر فمر عليه، فقال له النبي ﷺ هلَّاَ سقيتنا من لبن أي الذي عندك، فقال عبد الله بن مسعود: ولكني مؤتمن، يعني: الغنم ليست ملكي حتى أسقيك. ولكني مؤتمن، فقال له النبي ﷺ: فهل عندك من شاة لم ينزل عليه الفحل، يعني: ما فيها لبن ولا حملت، ولاشيء، قال: نعم، قال: ائتني بها. فجاء بها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجعل النبي ﷺ يجعل يضع يده ويدعوا ويذكر الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وإذا بالضرع تدر اللبن، فجاء أبو بكر بطاسة صغيرة، بوعاء، فجعله تحت الثدي وهو يدر اللبن، فشرب النبي وشرب أبو بكر ثم أعطى ابن مسعود فشرب.
فجاء إلى النبي ﷺ فقال: علمني مما تقول. علمني مما تقول، فعلمه النبي ﷺ بعض القرآن. يقول بعد ذلك عبد الله بن مسعود أخذت من فيِّ رسول الله ﷺ أي مباشرة بدون واسطة، أخذت من فيِّ أي من فم رسول الله ﷺ سبعين سورة، ما شاركني فيها أحد، أي سمعتها مباشرة من النبي ﷺ وحده.
ودخل بعد ذلك في دين الله جل وعلا وأسلم وتابع النبي وجاهر قريشاً كما ذكرنا بالقرآن ولما كثر، إيذاء قريش للنبي ﷺ وأتباعه، أذن لهم بالهجرة، فهاجروا إلى الحبشة، وكان ابن مسعود ممن هاجر، فهاجر إلى الحبشة، وجلس فيها ما شاء الله له أن يجلس ثم أُشيع خبر في مكة أنه أسلم كل أهل مكة، وذلك لما قرأ النبي عليهم ﷺ سورة النجم، فسجدوا جميعاً، فظن البعض أنهم أسلموا وهم سجدوا رغماً عنهم، لا إرادية، بهرتهم الآيات، وأخذت بمجامعهم حتى سجدوا لله رغماً عنهم، فظن بعض من رآهم أنهم أسلموا، فأشيع الخبر أن قريشاً أسلمت. وبلغ هذا الخبر أهل الحبشة، من الذين هاجروا فرجعوا إلى مكة مرة ثانية، فلما رجعوا وجدوا الخبر غير صحيح، وإذا أهل مكة على كفرهم. وعلى ضلالهم، إلا من تابع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند ذلك رجعوا وهاجروا مرة ثانية إلى المدينة إلى الحبشة وكان ابن مسعود معهم فهاجر إلى الحبشة مرتين.
وبقي ابن مسعود في الحبشة فترة ثم رجع إلى مكة ثم هاجر إلى المدينة، مع رسول الله ﷺ . ابن مسعود يقول عنه حذيفة بن اليمان: لقد عَلِمَ المحفوظون من أصحاب رسول الله ﷺ أن ابن مسعود من أقربهم وسيلة إلى الله ـ جل وعلا ـ وذلك لما عُلِمَ من علمه ودينه ـ رحمه الله تعالى ورضي عنه ـ.
حتى إنه جلس يوماً أبو مسعود الأنصاري وأبو موسى الأشعري جلس في يوم موت عبد الله بن مسعود، فقال أحدهم لصاحبه: أتراه ترك بعده مثله، أي في العلم والفضل والدين والتقوى والورع، أتراه ترك بعده مثله؟ قال: إن قلت ذلك ، يعني يؤيده في قوله، إن قلت ذلك: إن كان يؤذن له إذ حجبنا، ويشهد إذ غبنا. وفي ذلك يقول أبو مسعود في موضع آخر، ما أعلم ترك النبي ﷺ أحداً أعلم بكتاب الله جل وعلا منه .
وقال أبو موسى الأشعري قدمت أنا وأخي من اليمن، ولا نظن ابن مسعود إلا من أهل بيت النبي ﷺ من كثرة ما يدخل على النبي ويخرج من عنده. وذلك يدل على قربه من النبي صلوات الله وسلامه عليه ـ.
فصل – صفاته :
في يوم من الأيام صعد عبد الله بن مسعود على شجرة يجتني منها يقطف بعض ثمارها، وكان دقيق الساقين، قصيراً ليس بالطويل فصعد الشجرة، فجاءت ريح فاهتزت الشجرة واهتز معها بدأ يتمايل عبد الله بن مسعود، فضحك الناس، يضحكون من يعني صغر حجمه وضعفه، كيف أنه يهتز ؟ مع هذه الشجرة، فضحكوا! فقال النبي ﷺ مما تضحكون؟ قالوا: يا رسول الله من دقة ساقيه! نضحك من دقة ساقيه ، فقال صلوات الله وسلامه عليه، والله لهما أثقل عند الله يوم القيامة من جبل أُحد. هاتان الساقان اللتان تضحكون منهما لهما عند الله منزلة عظيمة، ولهما وزن، ليس كالذي ترون! ولكنهما ثقيلتان في الميزان، عند الله ـ جل وعلا ـ أثقل من جبل أُحد.
ولما دعا النبي إلى الله نزل قول الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجهه} [الأنعام: 52] نزلت في سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود ومجموعة معهم، ستة أو سبعة.
ولما نزل قول الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93] نادى النبي عبد الله بن مسعود وقال أنت منهم. أي فضل، مثل هذا الفضل، أي سعادة مثل هذه السعادة، أن يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا } [المائدة: 93] ثم ينادي النبي ﷺ رجل ويقول أنت منهم، تذكية من رسول الله ﷺ لهذا الرجل.
ويقول عنه حذيفة ـ رضي الله عنه ـ إنه ـ يعني عبد الله بن مسعود ـ إنه أشبه الناس برسول الله ﷺ هدياً، ودلاً، وقضاءً وخطبة، أشبه الناس يقول رأيت بعيني برسول الله ﷺ من حيث هديه، طريقته، وتعامله، وتصرفه، ودله كذلك تدل على نفس المعنى، وكذلك في خطبته، وكذلك في حكمه قضائه، من هذا الرجل. يعني: عبد الله بن مسعود ـ رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فصل – شجاعته:
شارك ابن مسعود مع رسول الله ﷺ في كل غزواته، لم يغب عن غزوة قط، وفي أول غزوة وهي بدر، كان ابن مسعود من المشاركين فيها، وقدر الله تبارك وتعالى أنه في ذلك اليوم، في يوم بدر أنه دعا النبي ﷺ ربه فقال: اللهم هذه قريش خرجت بفلذات أكبادها، وصار يدعوا الله تبارك وتعالى ويلح عليه بالدعاء أن ينصرهم عليهم، ويظهر دينه،وينصر هذه العصابة من المسلمين أي الجماعة المتعصبة للدين، وكان ما أراد، وكان النصر من الله سبحانه وتعالى، وكان ابن مسعود أحد أفراد هذه العصابة، أحد أفراد هؤلاء الذين شروا ما عند الله وباعوا هذه الدنيا، واشتروا الآخرة.
وقف عند رأس أبي جهل، في تلك المعركة بعد أن ضربه ابن عفراء، فجاءه وهو لم يمت، فوقف عند رأسه، راعي الغنم، راعي الغنم، إن الله يرفع بهذا الدين أناساً، ويضع آخرين، فجاء راعي الغنم، إلى زعيم مكة، إلى زعيم قريش في ذلك الزمان أبو جهل، جاءه عبد الله بن مسعود، فوضع قدمه على صدر أبي جهل، فقال له: أما ترى أن الله أخذاك يا عدو الله. يقول ابن مسعود لأبي جهلن أما ترى أن الله أخذاك يا عدو الله، فينظر إليه أبو جهل، ويقول له شذراً : لقد رقيت مرتقاً صعباً يا رُويعي الغنم. أن تضع قدمك على صدري، أنت يا رُويعي الغنم، تضع قدمك على صدري ، ما كنت تحلم بها، أتفعلها، أتضع رجلك على صدري، لقد رقيت مرتقاً صعباً يا رُويعي الغنم، قال: ذلك دين الله، وما أرى إلا أن الله أخذاك، ثم قتله. ورجع بالخبر إلى رسول الله ﷺ وإنه قتل أبا جهل، فلما أُخبر صلوات الله وسلامه عليه، قال: هذا ، يعني أبا جهل، هذا فرعون هذه الأمة. راح، انتهى.
فصل – علمه :
عبد الله بن مسعود اشتهر أكثر ما اشتهر بالعلم، تميز بالعلم تميزاً ظاهراً، حتى إنه جاء رجل إلى عمر فقال له: جئتك من عند رجل ُيمِلُ المصحف، أي يملي المصحف عن ظهر قلب، يعني يقرأ المصحف عن صدره ويعلم الناس بدون كتاب، يمل المصحف عن ظهر قلب، ففزع عمر، وغضب. يعني خشية أن يكون هناك خطأ يقع في القراءة غير ذلك ثم يتعلم الناس خطأ. ففزع عمر وغضب وقال: ويحك انظر ماذا تقول؟ يعني لا تتهم الناس أنظر ماذا تقول؟ قال: ما جئتك إلا بالحق. فقال عمر: ويحك من هو؟ قال: عبد الله بن مسعود. فهدأ عمر. ثم قال: ما أعلم أحداً أحق بذلك منه. يعني لو قلت لي غير ذلك رجل كان ممكن يكون كلام أخر. ما أعلم أحداً أحق بذلك منه. ونظر إليه عمر يوماً فقال: كُنيف مليء عمراً يعني صغير حجم ولكنه مليء ، مليء، بالعلم والفهم والفطنة والذكاء، حتى قيل إنه كان من أذكياء العلماء، ليس مجرد عالم، ولكنه عالم ذكي، فطن. مفهم، ولذلك قال له النبي ﷺ بعد أن أخذ منه بعض القرآن، قال إنك غلام مُعَلَّمْ، أي قابل للتعليم قابل للفهم، وفعلاً، كان الأمر كما قال النبي ﷺ
أبو موسى الأشعري، سُئل في مسألة في الميراث، قيل له: تُوفي شخصٌ عن بنتٍ وأختٍ وبنت ابن، كيف نقسم التركة، تُوفي شخصٌ عن بنتٍ وأختٍ وبنت ابن، فكيف نقسم التركة؟
الآن: أسألكم كيف يقسم التركة، وهم بنتٍ وأختٍ وبنت ابن، من يعرف أو من يشارك تعلم، آه! بنت كم لها؟ آه؟ ما اسمع في حياء: النصف. طيب والأخت: سدس. وبنت الابن: الثلثين. يعني البنت مع بنت الأبن يأخذون الثلثين، البنت اش تأخذ ، يعني بنت الابن تأخذ نص مال ابوها، يعني أكثر من البنت، الله ..لا، طيب.
قال: أبو موسى الأشعري: للبنت النصف، هذا متفق عليه، على الأقل بيننا قال أبو موسى الأشعري البنت لها النصف، والأخت لها النصف، وبنت الابن لم يبق لها شيء. البنت تأخذ النصف، البنت لها النصف، والأخت لها النصف كذلك، فقال: البنت لها النصف، والأخت لها النصف كذلك، وليس لبنت الابن شيء. ثم قال لمن سأله واسأل ابن مسعود فإنه سيوافقني. يعني حتى تتأكد من الإجابة فاسأل ابن مسعود وسوف يوافقني. قالوا: طيب.
فذهبوا لابن مسعود، فقالوا له: إنّ هالك هلك عن بنت وأخت وبنت ابن، وحكم فيها أبو موسى الأشعري، وأعطى البنت النصف، والأخت النصف، وأسقط بنت الابن، حيث لم يبق لها شيء، وقال إنك ستوافقه، فما تقول؟ قال قد ظللت إذن وما أنا من المهتدين. يعني إن وافقته. إن وافقته، قال: قد ظللت إذن وما أنا من المهتدين. قالوا: فما تقول إذن. قال: للبنت النصف، وبنت الابن تأخذ الثلث تكملة الثلثين والباقي للأخت. هكذا قضى رسول الله ﷺ .
إذن البنت لها النصف، وبنت الابن لها الثلث، فتكملان الثلثين، والثلث الباقي تأخذه الأخت، قال بهذا قضى رسول الله ﷺ . فرجعوا إلى أبي موسى الأشعري وأخبروه، قالوا: هكذا قضى عبد الله ابن مسعود، قال: لا تسألوني وهذا الحَبر فيكم. يعني خلاص، إذن لا تحرجوني مع هذا الرجل، هو موجود اسألوه، مع أن أبو موسى الأشعري كان من علماء الصحابة ،حتى أنهم قالوا رجع العلم إلى ستة، الفتوى ترجع إلى ستة: علي، وعثمان ،وأُبي، وابن مسعود وأبي موسى الأشعري، ومعاذ. ومع هذا يقول أبو موسى الأشعري يقول: لا تسألوني وهذا الحبر فيكم. يعني هذا العالم فيكم لا تسألوني، لا تقدموني .
وكان أبو موسى الأشعري يعرف لابن مسعود مكانته، يعرف له مكانته وقدره، ولذلك دخل أبو موسى الأشعري مسجد الكوفة يوماً، فوجد قوماً قد تحلقوا وفي وسطهم شيخهم، فيقول لهم: سبحوا خمسين، احمدوا ستين، كبروا ثلاثين، وهكذا. يذكر لهم بالعدد ويسبحون تسبيحاً جماعياً. فلما رآهم أبو موسى الأشعري تركهم ثم ذهب إلى عبد الله بن مسعود وطرق عليه الباب، ففتح الباب ، فقال أبو موسى الأشعري لأبي عبد الرحمن يا أبا عبد الرحمن لقد رأيت شيئاً ما كنت أراه على عهد رسول الله ﷺ قال: وماذا رأيت؟ فأخبره بما رأى، فغضب عبد الله بن مسعود، ثم دخل عليهم في المسجد فقال: يا معشر الناس، والله لأنتم أهدى من أصحاب محمد، أو أنكم على ضلالة، اختاروا أحد الفريقين. اقترح إما أن تكونوا أهدى من أصحاب محمد وإما أن تكونوا على ضلالة، صعب جداً أن يقولوا نحن أهدى من أصحاب محمد قلم تبقى إلا الثانية، فعلموا الجواب، ولذلك لم يجبوه، ولكن قالوا: يا أبا عبد الرحمن، والله ما أردنا إلا الخير. النية صالحة، لكن لا تكفي النية الصالحة حتى يكون العمل أيضاً صالح، قالوا: يا أبا عبد الرحمن والله ما أردنا إلا الخير، فقال: كم مريد للخير لم يجده . ليس كل من أراد الخير أصابه. ثم نهاهم عن ذلك - رضي الله عنهم وأرضاه ـ وقال من كان منكم مقتدياً فليقتدي بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
وكان عبد الله بن مسعود يقول: والله الذي لا إله غيره، لقد قرأت من فيي (فم) رسول الله ﷺ سبعين سورة، ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل ( يعني توصلني إليه الإبل) لرحلت إليه. ولكن لا أعلم. لا أعلم أحد أعلم بكتاب الله تبارك وتعالى مني، هكذا كان يقول، ولذلك قال النبي ﷺ اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر. واهتدوا بهدي عمار، واقتدوا وتمسكوا بعهد ابن أم عبد. اشتهر بابن أم عبد، أمه يقال لها : أم ابن عبد، يقول وتمسكوا بعهد ابن أم عبد.
فصل – مكانته لدى رسول الله ﷺ :
جاءه النبي ﷺ يوماً فقال: يا عبد الله اقرأ عليّ القرآن أسمعني القرآن، تصوروا النبي يريد أن يسمع القرآن صلوات الله وسلامه عليه، قال اقرأ عليّ القرآن، قال يا رسول الله عليك أقرأ وعليك أنزل، يعني نحن نسمع منك القرآن، نحن نستفيد القرآن منك فكيف أنا اقرأ عليك القرآن، فقال صلوات الله وسلامه عليه: إني أحب أن اسمعه من غيري، ولكنه من اختار، اختار هذا الرجل، اختار ابن مسعود، قال إني أريد أن أحب أن اسمعه من غيري، فقرأ على النبي ﷺ سورة النساء، فلما بلغ قول الله تبارك وتعالى: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } [النساء: 41] فقال لي: حسبك، أمسك. فالتفت فإذا عينا رسول الله ﷺ تذرفان، يعني الدموع، صلوات الله وسلامه عليه.
وهنا فائدة:
أن النبي ﷺ قال له حسبك، ولم يقل له صدق الله العظيم، وذلك أن النبي ﷺ ما كان يحرص على هذه الكلمة وهي صدق الله العظيم، بل قالها مرة واحدة ومتى قبل القراءة لا بعد القراءة، وذلك لما قال صلوات الله وسلامه عليه: صدق الله : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } [التغابن: 15] .
وهنا لما قرأ عليه سورة النساء وبلغ قوله تبارك وتعالى: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } قال: حسبك، يقول فالتفت فإذا عينا رسول الله ﷺ تذرفان الدموع. صلوات الله وسلامه عليه بأبي هو وأمي.
وقال صلوات الله وسلامه عليه منبهاً على مكانة هذا الرجل: لو كنت مؤمراً أحداً من غير مشورة لأمرت ابن أم عبد، هكذا يقول رسول الله ﷺ .
كان ابن مسعود، يقول علقمه تلميذه، كان ابن مسعود، إذا هدأت العيون قام فسمعت له دوياً، كدوي النحل، حتى يصبح، قيام، يقوم الليل رضي الله عنه.
فصل – وفاته :
مرض عبد الله بن مسعود، مرض الموت، سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة، فعاده عثمان بن عفان، فقال له: ما تشتكي ما هي الشكوى؟ تشتكي من ماذا؟ قال: أشتكي ذنوبي! شوفوا هذا الذي يقول الله تبارك وتعالى عنه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93] يقول أشتكي ذنوبي، ونحن الواحد منا إذا قيل له ماذا تشتكي قال: الفقر؟ أشتكي الزوجة أشتكي العيال اشتكي العلاقات اشتكي الوظيفة أشتكي كذا، ولايفكر بالذنوب .
وهكذا الناس الذين يتعلقون بالآخرة قيام الليل ودعوة إلى الله تبارك وتعالى، وصحبة النبي ﷺ وجهاد في سبيل الله، حياة كلها لله ، هجرة، هاجر إلى الحبشة مرتين، هاجر إلى المدينة، ترك الأهل ، ترك الأولاد ترك كل شيء في سبيل الله.
وهو على فراش الموت بعد هذا كله يقول: أشتكي ذنوبي، يخاف ذنوبه، يقول أشتكي ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: أشتهي رحمة ربي. قال له: ألا آمر لك بالطبيب، يأتيك الطبيب يراك، قال الطبيب أمرضني، الطبيب الله. سبحانه وتعالى. اختار لي هذا فأنا راضي لما اختاره الله سبحانه وتعالى.
فتوفي رضي الله تعالى عنه سنة اثنتين وثلاثين عن بضع وستين سنة، نقلت عن أبي عبد الرحمن كلمات طيبات أحببنا أن نذكر بعضها، منها أنه قال: ينبغي لحامل القرآن ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، يعني ينبغي أن يتميز هذا الإنسان، أنت معك القرآن، أنت معك خير عظيم، تميز عن الناس، لا تظهر هذا لهم ولكن بينك وبين ربك سبحانه وتعالى.
وقال كذلك إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً لا في عمل الدنيا، ولا في عمل الآخرة، وقال كذلك ما دمت في دعاء وصلاة، فأنت تقرع باب الملك، ومن يقرع باب الملك يفتح له، استمر في الدعاء، استمر في الصلاة، سيأتي اليوم الذي يستجيب الله دعاك ويكون خير كل الخير.
وقال كذلك: إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا ، فارعها سمعك ( استمع جيداً) فإما خير يأمرك به، وإما شر ينهاك عنه، أي آية، تمر عليك ، يا آيها الذين آمنوا، انتبه شوية لهذه الآية. أنت مخاطب الله يناديك – سبحانه وتعالى - يأمرك بخير، أو ينهاك عن شر، انتبه لها، يا أيها الذين آمنوا .
وقال كذلك إنما هذه القلوب أوعية، فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها في غيره، وقال كذلك: إني لأحسب الرجل ينسى العلم، قد كان تعلمه للخطيئة يعملها، أي ما ينسى هكذا، الا إنه ينظر الى نفسه اذا وجد نفسه ينسى شيء من العلم معناه فيه تقصير في حق الله تبارك وتعالى.
قد كان هذا حديثنا عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي ابن أم عبد صاحب سر رسول الله ﷺ وصاحب سواكه، وصاحب وساده، وصاحب طهوره ونعله، رضي الله عنه وأرضاه والله أعلى وأعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.