• 7 نيسان 2017
  • 6,145

سلسلة من نحب - الله تعالى – (7) الخالق، البارئ، المصوّر:

وقد جمع الله هذه الأسماء الثلاثة في قوله سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى} [الحشر: 24]، أي: هو المنفرد بخلق جميع المخلوقات، وبرَأ بحكمته جميع البريّات، وصوّر بإحكامه وحسن خلقه جميع الكائنات، فَخَلَقها وأبدعها وفطرها في الوقت المناسب لها، وقدر خلقها أحسن تقدير، وصنعها أتقن صنع، وهداها لمصالحها، وأعطى كل شيء خلقه اللائق به، ثم هدى كل مخلوق لما هيئ وخلق له.

فالخالق هو المقدر للأشياء على مقتضى حكمته، والبارئ الموجد لها بعد العدم، والمصور أي المخلوقات والكائنات كيف شاء. فالبارئ المصور فيهما كما قال ابن القيم تفصيل لمعنى اسم الخالق(1)، فالله عز وجل إذا أراد خلق شيء قدره بعلمه وحكمته ثم برأه أي: أوجده وفق ما قدر في الصورة التي شاءها وأرادها سبحانه.

قال ابن كثير رحمه الله: "الخلق التقدير والبرء هو الفري وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود وليس كل من قدر شيئا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عزَّ وجلَّ ... وقوله تعالى: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} أي: الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون على الصفة التي يريد والصورة التي يختار، كقوله: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8]؛ ولهذا قال المصور، أي الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها"(2).

فتفسير الخلق هنا بالتقدير ينتظم به ذكر هذه الأسماء الثلاثة بهذا الترتيب الوارد في الآية؛ فالخلق أوَّلا وهو تقدير وجود المخلوق ثم بريه وهو إيجاده من العدم ثم جعله بالصورة التي شاءها سبحانه.

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11]، فالخلق أوَّلا ثم التصوير، كما أن الخلق أوَّلا ثم البري، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22].

والبريّة هم الخليقة، وقد خلقهم الله فجعل منهم الكافر ومنهم المؤمن كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن: 2]، فمن كان منهم مؤمنا مطيعاً فأولئك خير البرية، ومن كان منهم كافراً مشركاً فأولئك شرُّ البريّة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَـئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴿٦﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴿٧﴾ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 6-8].

ولابد من التنبيه هنا إلى أن شرك هؤلاء باتخاذ الأنداد والشركاء مع الله في العبادة مع أن الذي برأهم هو الله وحده أمرٌ في غاية السفه ونهاية الضلال، بل إنه أعظم الظلم وأكبر الجرم، ولهذا ذمَّ بني إسرائيل في عبادتهم العجل وجعله شريكا مع الله، والعجل حيوان بهيم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّاً، فضلاً عن أن يملك شيئا من ذلك لغيره، وأن عملهم هذا ظلم وأي ظلم، فقال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 54]، وقال قبل هذا بآيتين: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة: 51]، فالشرك أشنع الظلم وأفظعه إذ كيف يسوى المخلوق الناقص بمن أوجد الخليقة وبرأ النّسم سبحان الله عما يشركون.

قال ابن كثير رحمه الله: "وفي قوله تعالى هنا {إِلَى بَارِئِكُمْ} تنبيه إلى عظم جرمهم، أي: فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره"(1).

فكونه سبحانه البارئ وحده برهان جلي على وجوب توحيده وإفراده بالعبادة، وكذلك كونه سبحانه المصور وحده برهان على وجوب توحيده وإخلاص الدين له.

قال الله تعالى: {اللَّـهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿٦٤﴾ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَـهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 64-65]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 6].

ولهذا حرَّم سبحانه على عباده تصوير ذوات الأرواح لما فيه من مضاهاة لخلق الله، ولما فيه من فتح لأبواب الشرك والضلال.

ففي "الصحيحين" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إنَّ أشدَّ الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصوِّرون"(1).

وفيهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال: "أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله"(2).

وفيهما من حديث أبي هريرة: "يقول الرب سبحانه: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة"(3).

وفيهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنمها أن رسول الله ﷺ قال: "إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم"(4).

وفي هذا الحديث الأخير بيان لصفة تعذيب المصور يوم القيامة بأنه يكلف نفخ الروح في الصورة التي صورها وهو لا يقدر على ذلك فيستمر تعذيبه.

ثم إنَّ هذه الأسماء الثلاثة تنقسم إلى قسمين: فالبارئ اسم مختص بالله عزّ وجل فلا يجوز أن يطلق على غيره بأي حال لأنّ البرْأَ - وهو الإيجاد من العدم - أمرٌ مختصٌّ به سبحانه فهو الذي برأ الخليقة وأوجدها من العدم، وأمَّا الخالق المصوِّر فإن استعملا مطلقين غير مقيَّدين لم يطلقا إلَّا على الربّ كقوله تعالى: {لْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ}، وإن استعملا مقيدين أطلقا على العبد كما يقال لمن قدَّر شيئاً: إنه خلقه، قال الشّاعر:

ولأنت تفري ما خلقت وبـ                            ـعض القوم يخلق ثم لا يفري

أي لك قدرة تمضي وتنفد بها ما قدرته، وغيرك يقدر أشياء وهو عاجز عن إنفاذها وإمضائها، وبهذا الاعتبار صح إطلاق خالق على العبد في قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] أي: أحسن المصورين والمقدرين، ومن لم يدرك هذا التفصيل أخطأ في هذا الباب؛ إما بنفي إطلاق خالق ومصور بهذا الاعتبار على المخلوق، أو أن يثبت للمخلوق ما يختص بالله من ذلك وهو تفرده سبحانه بخلق وإيجاد جميع هذه المخلوقات دقيقها وجليلها، والله تعالى يقول: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف: 191-192].

****

 

(1) "شفاء العليل" (1/366).

(2) "تفسير ابن كثير" (8/106).

(1) "تفسير ابن كثير" (1/130).

(1) "صحيح البخاري" (رقم: 5606)، و"صحيح مسلم" (رقم: 2109).

(2) "صحيح البخاري" (رقم: 5610)، و"صحيح مسلم" (رقم: 2107).

(3) "صحيح البخاري" (رقم: 5609)، و"صحيح مسلم" (رقم: 2111).

(4) "صحيح البخاري" (رقم: 5607)، و"صحيح مسلم" (رقم: 2108).

مقالات ذات صلة :