• 7 نيسان 2017
  • 6,670

سلسلة من نحب - الله تعالى – (6) الغنيّ :

وقد ورد هذا الاسم في ثمانية عشر موضعاً من القرآن، قال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} [الأنعام: 133]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15]، وقال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان: 26].

فهو تبارك وتعالى الغني بذاته، الذي له الغنى التام المطلق من جميع الوجوه والاعتبارات، لكماله وكمال صفاته التي لا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه، ولا يمكن إلا أن يكون غنيّاً؛ لأن غناه من لوازم ذاته، فكما لا يكون إلا خالقا رازقا رحيما محسنا؛ فلا يكون إلا غنيا عن جميع الخلق، لا يحتاج إليهم بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يكونوا كلهم إلا مفتقرين إليه من كل وجه، لا يستغنون عن إحسانه وكرمه وتدبيره وتربيته العامة والخاصة طرفة عين، وكلّ من في السموات والأرض عبيد له، مقهورون بقهره، مصرفون بمشيئته، لو أهلكهم جميعا لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإلهيته مثقال ذرّة.

فمن كمال غناه أنه لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، فلو آمن أهل الأرض كلهم جميعا ما زاد ذلك في ملكه شيئاً، ولو كفروا جميعا لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً، قال تعالى: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 44]، وقال تعالى: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6]، وقال تعالى: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا ۚ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ ۚ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: 6]، وقال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْض جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّه لَغَنِيّ حَمِيد} [إبراهيم: 8].

وفي الحديث القدسيّ يقول الله تعالى: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً"، وقال: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني" رواه مسلم(1).

ومن كمال غناه أن إنفاق المنفقين وبذل الباذلين في سبيله وابتغاء مرضاته لا ينفعه بشيء، وكذلك شحُّ الشّحيحين وبخل البخلاء لا يضره شيئاً، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267].

ومن كمال غناه تنزهه تبارك وتعالى عن النقائص والعيوب، فمن نسب إليه تعالى نقصا فقد نسب إليه ما ينافي غناه، قال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ الْغَنِيُّ ۖ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68].

ومن كمال غناه تنزّهه تبارك وتعالى عن الشركاء والأنداد؛ إذ كيف يسوَّى التراب برب الأرباب، وكيف يسوى الفقير بالذّات، الضّعيف بالذّات، العاجز بالذات، المحتاج بالذات، الذي ليس له من ذاته إلا العدم؛ بالغني بالذّات، القادر بالذّات، الذي غناه وقدرته وملكه وجوده وإحسانه وعلمه ورحمته وكماله المطلق التام من لوازم ذاته، وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب، الذي جميع رقاب العبيد تحت قبضته وطوع تدبيره، قال الله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّـهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّـهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 17].

ومن كمال غناه أن خزائن السموات والأرض بيده، وأن جوده على خلقه متواصل آناء الليل والنهار، وأن يديه سحاء في كل وقت {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان: 26].

ومن كمال غناه أنه يدعو عباده إلى سؤاله كلّ وقت، ويعدهم عند ذلك بالإجابة مهما عظم السؤال، ويأمرهم بعبادته ويعدهم القبول والإثابة، وهو تبارك وتعالى واسع الفضل، جزيل النوال، وقد آتاهم من كل ما سألوه، وأعطاهم كل ما أرادوه وتمنوه.

ومن كمال غناه أنه لو اجتمع أهل السموات والأرض وأول الخلق وآخرهم في صعيد واحد فسألوه كل ما تعلقت به مطالبهم فأعطاهم سؤلهم لم ينقص ذلك مما عنده، ففي الحديث القدسي يقول تعالى: "يا عبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيتُ كلَّ إنسان مسألته، ما نقص ذلك ممّا عندي، إلاّ كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر" رواه مسلم(1).

ومن كمال غناه العظيم الذي لا يقادر قدره ولا يمكن وصفه ما يبسطه تبارك وتعالى على أهل الإيمان في جنات النعيم من صنوف اللذات وأنواع النعم وأطايب المنن مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {فَلَا تَعْلَم نَفْس مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّة أَعْيُن جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].

فمن عرف ربَّه بهذا الوصف العظيم عرف نفسه، من عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التّامة عرف نفسه بالعجز التّام، ومن عرف ربّه بالعزِّ التامّ عرف نفسه بالمسكنة التامّة، ومن عرف ربَّه بالعلم التّام والحكمة عرف نفسه بالجهل، وعِلْمُ العبد بافتقاره إلى الله الذي هو ثمرة هذه المعرفة هو عنوان سعادة العبد وفلاحه في الدّنيا والآخرة.

 

(1) (رقم: 2577) وهو طرف من حديث طويل عن أبي ذر رضي الله عنه.

(1) طرف من حديث أبي ذر رضي الله عنه المتقدم.

مقالات ذات صلة :