المقدمة :
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، الحمد لله على نعمة الإيمان، الحمد لله على نعمة القرآن، الحمد لله على أن جعلنا من أمة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ من أمة الاستجابة؛ لهذا النبي الكريم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد:
فصل - مولده :
فمازال حديثنا متواصلاً عن {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } [الأحزاب: 23].
وحديثنا في هذه الليلة عن أول مولود وُلِدَ للمسلمين المهاجرين في المدينة، وذلك أن المسلمين لما هاجروا إلى المدينة، لم يولد لهم ولد فترة من الزمن، فادَّعى اليهود أن هذا بسببهم وبسبب دعوتهم عليهم؛ فلما وُلِدَ هذا المولود فرح المسلمون به فرحاً شديدا.
أولُ مولود ولد للمهاجرين في مدينة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ جيء به إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فحنكه أي وضع التمر في فمه، بعد أن مضغها بفمه الشريف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ثم سماه، وكبّرَ المسلمون لمولده، ثم بايع النبي ﷺ وهو ابن ثماني سنين، كان صواماً قواماً، وبالحق قوالاً، وللرحم وصالاً، شديدا على الفجرة، ذليلاً للأتقياء البررة، مصداقاً لقول الله ـ تبارك وتعالى ـ في وصف المؤمنين: { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
قال عنه عبد الله بن العباس ـ رضي الله تبارك وتعالى عنهما ـ قال في وصفه: كان عفيفاً في الإسلام، قارئاً للقرآن.
أبوه، حواري النبي: الزبير. وأمه: أسماء ، وجده: أبو بكر، وعمة أبيه: خديجة. وجدته: صفية ـ عمة النبي ـ ﷺ . وخالته: عائشة. والله إني لأحسب له ما لا احسب لغيره.
لما قُتِلَ صاحبنا هذا ـ رضي الله عنه ـ كبَّرَ أهل الشام لقتله، فلما سمع عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ تكبيرهم قال: والله للذين كبّروا على مولده خير من الذين كبروا في يوم مقتله.
لما وُلِدَ جاء النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلى عائشة ـ رضي الله عنها ـ وكناها به، فهي تكنى بأم عبد الله ، وهو صاحبنا هذا أعني عبد الله بن الزبير.
عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي، أبوه: الزبير ابن عمة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وحواري رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ
فصل – شجاعته :
كان هذا الرجل صِنفاً يعني لا يوجد من يشابهه من أقرانه وغير أقرانه، كان صنفاً في العبادة، صنفاً في الشجاعة.
ومن الأمور التي ذكرت في شجاعة هذا الرجل: أنه سُئل أحد الشجعان، وهو عمر بن حمزة، فقيل له: من أشجع الناس؟ فقال: أشجع الناس ثلاثة: من هم؟ قال: عمرو بن معد يكرب، ومصعب بن الزبير، والمهلب بن أبي صفرة، هؤلاء الشجعان يعرفون بذلك بين الناس، قال: هؤلاء أشجع الناس. فاستغرب السائل، حيث لم يذكر عبد الله بن الزبير مع أنه كان معروفاً بالشجاعة حتى أنه قيل عنه أنه ما أذكرت النساء مثله، يعني ما أنجبت النساء ذكراً مثل هذا الرجل شجاعة. وقال له السائل: وأين عبد الله بن الزبير، فقال: أنت سألتني عن الناس. وهذا كنا نعده من الجان، ما كنا نعده من الناس، لفرط شجاعته.
ولذلك شارك أو أشركه أبوه في معركة اليرموك وهو ابن عشر سنين، على فرس وحده، في معركة اليرموك شارك على فرس، ووكل أبوه به رجلاً وجعله يشارك في هذه المعركة.
وقد ذكر أنه كذلك شارك في معركة اليمامة في حروب المرتدين وهو ابن تسع سنين، قد لا يكون قاتل ولكن حضر القتال، وشاهد القتال، وركب يوم اليمامة مع أبيه على فرس خلفه، وفي اليرموك ركب على فرس وحده، ووكل أبوه به رجلاً.
عبد الله بن الزبير من الأمور التي تذكر في شجاعته أنه في عهد عثمان لما أرسل غزو إفريقية بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي السرح، فالتقى المسلمون جيش البربر وعليهم جرجير، وكان عدد المسلمين عشرين ألفاً، وكان عدد البربر مائة وعشرين ألفاً، فتوقف المسلمون ينظرون كيف يديرون معركتهم مع هؤلاء، فنظر عبد الله بن الزبير وكان صغير السن، في ذلك الوقت، في زمن عثمان، فنظر فوجد ملكهم جرجير، وقد ابتعد عن الجيش قليلاً ومعه جاريتان تظللانه، فذهب إلى عبد الله بن سعد، وطلب منه أن يرسل معه ثلاثين يحمون ظهره، حتى يقصد القائد، فأرسل معه ثلاثين، ثم انطلق نحو القائد مسرعاً كالصقر، فكان البربر يظنون أنه قد ذهب برسالة لأنه لا يمكن أن يهاجم هذا العدد هذا الجيش الكبير، فكانوا يظنون أنه أتى برسالة، فلما اقترب من ملكهم رأى في عينيه الشر وأن مشيه أو سيره على حصانه ليس سيرا من يحمل رسالة، ففر منه، فلحقه عبد الله بن الزبير ثم ضربه بالسيف فقطع رأسه، ثم حمله على الرمح وكبّر، وكبّر المسلمون معه، فحصلت الفوضى في جيش البربر، وانتصر المسلمون انتصاراً عظيماً في تلك المعركة وذلك في غزو إفريقية.
هذا الرجل عبد الله بن الزبير مر به عمر وهو يلعب مع الصبيان وذلك أنه توفي النبي ﷺ وله من العمر ثماني سنوات، وحكم أبو بكر سنتين فهذه عشر وبخلافة عمر لما كان عبد الله بن الزبير صبياً يلعب مع الصبيان فلما مر عمر خافه الصبيان ففروا ووقف عبد الله بن الزبير فأتاه عمر، فقال له: ما بال أصحابك فروا ولم تفر؟ قال: ما أخطأت فأخافك، وما أرى أن الطريق ضيقاً أي ما أرى الطريق ضيق فأفسح لك. لماذا أخاف؟ أفعلت شيئاً والطريق واسع؟ مر حيث شئت، فسكت عمر ـ رضي الله عنه ـ.
عبد الله بن الزبير لما حُوصِرَ في مكة كان يخرج إلى المحاصِرِين وحده، كي يفرق شملهم وكانوا أكثر من مائة والقتال بالسيوف، من شجاعته، ولذلك الذي قال تلك الكلمة التي ذكرناه قبل قليل هو قائد الجيش الذي جاء ليقتل عبد الله بن الزبير، بعد أن قُتل عبد الله بن الزبير، وقف على رأسه وقال: ما أرى أن النساء أذكرت مثله، يعني ولدت ذكراً مثل هذا الرجل.
فصل – عبادته :
وكان عبد الله بن الزبير صنفاً في العبادة، عُرف بالعبادة بأنه صنف له عبادة خاصة به، وكان إذا قام يصلي كأنه جذع نخلة، لا يتحرك في صلاته أبداً ، وكان إذا ركع ربما قرأ الإنسان سورة طويلة وهو راكع لا يتحرك.
وجاء سيل إلى مكة، وامتنع الناس في بيوتهم وخرج عبد الله بن الزبير يطوف حول البيت سباحة، كان صنفاً في العبادة، كان يواصل الصيام سبعة أيام، وليس هذا من السنة ولكنه كما قال الإمام الذهبي وغيره لعله لم تبلغه سنة النبي ﷺ في النهي عن الوصال، كان يواصل الليل بالنهار صياماً، كيف هؤلاء الذين يضربون عن الطعام كان هكذا يفعل، يصوم من الفجر فإذا جاء المغرب لن يفطر بل يستمر صائماً إلى الفجر من اليوم الثاني ويستمر صائماً إلى الفجر إلى اليوم الثالث يستمر صائما إلى اليوم السابع، سبعة أيام لا يدخل فمه شيء، لا من طعام ولا من شراب، سبعة أيام، فإذا جاء اليوم الثامن كما يقول ابن أبي مليكة كان يواصل سبعة أيام من الجمعة إلى الجمعة فإذا أصبح يوم الجمعة فإذا هو أليسنا، أليسنا يعني أشدنا وأقوانا. والله أعلم من أين جاءت هذه القوة.
وقد جاء في الحديث أنه احتجم النبي ﷺ فلما انتهى من الحجامة أعطى الدم لعبد الله بن الزبير وقال ألقه، فذهب به فألقاه، فلما رجع إلى النبي ﷺ قال له ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أين الدم الذي أعطيتك، قال: ألقيته. قال: أين؟ قال: في مكان لن يصل إليه أحد. فقال له ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : لعلك شربته. قال: نعم يا رسول الله. وهو ابن سبع سنين، وبين وفاة النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: لعلك شربته. قال: نعم شربت دمك. عمره سبع سنوات.
ولذلك يقول الإمام الذهبي وغيره من السلف من التابعين وأتباع التابعين، يقول: لعل القوة التي فيه من هذا الدم الذي شربه، ولذلك لما قال له النبي ﷺ هذا الكلام : لعلك شربته، قال: نعم. قال: ويل لك من الناس، وويل الناس منك. يعني سيحدث أمر لك عظيم مع الناس.
عبد الله بن الزبير كما يقول الذهبي كان لا ينازع في ثلاثة، لا ينازع في العبادة، ولا ينازع في الشجاعة، ولا ينازع في الفصاحة، تميز بهذه الأمور الثلاثة في زمنه.
لما حُوصر في مكة كان يصلي بالذين معه في صلاة الفجر بسورة (ن والقلم) وكان المنجنيق يرمى على مكة من قبل الحجاج، وكان عبد الله بن الزبير لا يتحرك، يقولون ربما مر المنجنيق من تحت لحيته أو أصاب كمه ولا يتحرك في صلاته كأنه جذع، ويصلي صلاته التي يصليها كل يوم من إتمام الركوع وإتمام السجود ولا يهتم بهذه الأمور أبداً، ما كأن هذه المنجنيقات تمر عند رأسه ويديه أبداً ولا يلتفت ولا يحرك ساكناً ـ رضي الله عنه وأرضاه.
كان صنفاً في العبادة كان قارئاً للقرآن بل كان متميزاً في قراءة القرآن ولذلك لما أمر عثمان بجمع القرآن أمر أربعة أن يجمعوا القرآن منهم عبد الله بن الزبير وهم سعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، و عبد الله بن الزبير، وزيد بن ثابت، وقال: إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل على لسانهم، فكان عبد الله بن الزبير من الناس الذين شرفهم الله تبارك وتعالى بأن جمعوا القرآن في عده عثمان بن عفان.
عبد الله بن الزبير جاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وعمره سبع سنوات أو ثماني سنوات على خلاف في الرواية، فجاء إليه مع أبيه الزبير فقال له النبي ﷺ ماذا تريد؟ قال: أريد أن يبايعك على الإسلام هكذا التربية، أبوه يأتي به إلى النبي ﷺ عمره سبع سنوات يأتي إلى النبي ﷺ يقول أريد أن أبايعك على الإسلام، فبايعه النبي وتبسم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ .
جلس في يوم عبد الله بن الزبير وأخوه مصعب، وأخوه عروة، وعبد الله بن عمر، عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير صحابيان، عورة ومصعب من التابعين لم يدركا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اجتمع هؤلاء الأربعة، فقالوا لبعضهم البعض ليتمنى كل واحد منا أمراً: يقول عروة الزبير: أتمنى أن يحمل عني العلم. أي أكون ناشراً للعلم، لسنة النبي للقرآن الكريم، أتمنى أن يؤخذ عن العلم ويحمل، وقال مصعب بن الزبير: فأتمنى ثلاثة أمور: أتمني إمرة العراق، أكون أميراً على العراق، وأتمنى أتزوج سكينة بنت الحسين، وأتمنى أن أتزوج عائشة بنت طلحة، وقال عبد الله بن الزبير: أتمنى الخلافة. فقالوا لعبد الله بن عمر وماذا تتمنى أنت؟ قال: أتمنى أن يغفر الله لي.
يقول أبو زياد راوي هذه القصة، يقول: فانتشر العلم عن عروة بن الزبير، وصار من المشهورين بالعلم حتى كان له تلاميذ كثر، وهو أشهر راوية للحديث عن أم المؤمنين عائشة، يقول وتأمر مصعب بن الزبير على العراق، وتزوج سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وتزوج عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، وتولي عبد الله بن الزبير الخلافة، وأسال الله تبارك وتعالى أن يكون غفر لعبد الله ابن عمر. حيث أن كل من هؤلاء الثلاثة نال ما تمناه، ويبقى عبد الله بن عمر وما تمنى بينه وبين ربه جل وعلا.
فصل – خلافته :
عبد الله بن الزبير تولى الخلافة سنة أربع وستين، وذلك أنه بعد موت معاوية آلت الخلافة إلى ابنه يزيد حيث وصى معاوية لابنه فرفض عبد الله بن الزبير والحسين بن علي ـ رضي الله عنهم ـ رفضا البيعة ليزيد، فلم يبايعاه، وفرا إلى مكة، لم يبايعاه، وخرجا إلى مكة وجلس في مكة، وظل الأمر كذلك حتى مات يزيد بن معاوية، سنة أربع وستين، وصارت الخلافة إلى ابنه معاوية، معاوية بن يزيد بن معاوية، ولكن معاوية هذا كان زاهداً في الخلافة، ولذلك أول ما جاءته تنازل عنها قال: لا أريد الخلافة، والمسلمون يختارون خليفتهم، أما أنا فلا حاجة لي بها، فتنازل عنها، عندما تنازل معاوية بن يزيد أعلن عبد الله بن الزبير نفسه خليفة على المسلمين في مكة، وبايعه أهل مكة وبايعه أهل المدينة، وبايعه أهل مصر، وبايعه أهل أفريقيا، وبايعه أهل ما وراء النهر، وبايعه أهل خراسان، وبايعه المسلمون جميعاً، ماعدا أهل الشام وعليهم مروان بن الحكم رفض أن يبايع لعبد الله بن الزبير فتركه عبد الله بن الزبير في الشام واستقرت الخلافة لعبد الله بن الزبير لسنة أربع وستين إلى سنة ثلاث وسبعين، تسع سنوات، وعبد الله بن الزبير أمير المؤمنين، خليفة عليهم.
أول عمل قام به عبد الله بن الزبير أنه أعاد بناء الكعبة، وذلك أن الكعبة كما هو معلوم قد ترهلت في حياة النبي ﷺ وقبل مبعثه فقررت قريش أن تعيد بناءها واختلفوا هل يرممون بيت الله، أو يهدمونه ويبنونه من جديد، ووقع خلاف بينهم واستقر الأمر في النهاية على هدمها وبنائها من جديد، فلما هدموها، وبنوها من جديد قصُرت أموالهم، الحلال، وذلك أنهم شرطوا على أنفسهم ألا يبنوا الكعبة إلا من المال الحلال، وهم كفار لكنهم يعرفون المال الحلال من المال الحرام، فقالوا لا نبنيه إلا من المال الحلال فلا ندخل في بنائها مال نكس: أي ضرائب، ولا مهر بغي ولا مال قمار، ولا مال خمر، ولا مال مسروق، ولا مال مغصوب، وإنما مال حلال، فقط . تبنى منه الكعبة، فجمعوا أموالهم الحلال وإذا هي قليلة، فبنوا الكعبة بما عندهم من المال ولكنها لا تكفي هذه الأموال، فبنوا جزءاً من الكعبة، أو لنقل ثلثي الكعبة، الوضع الذي نراه الآن، هذه الكعبة بهذا الحجم هي التي بنيت في عهد قريش، ثم وضعوا القوس الذي ترونه الذي يسميه الناس بحجر إسماعيل، وإسماعيل لا يعرفه وإنما هو الحجر أو الحطيم القوس الذي يصلي فيه الناس وجعلوا هذا القوس علامة على أن هذا من الكعبة، بحيث لو صارت عندهم أموال بعد ذلك فإنهم يعيدون بناء الكعبة ويضيفون هذا الجزء إليها، وكان عمر النبي ﷺ في ذلك الوقت خمس وعشرين سنة.
بنيت الكعبة وقصروا في بنائها لقلة الفلوس أو الأموال الحلال، لما جاء فتح مكة أراد النبي ﷺ أن يعيد الكعبة كما كانت زمن إبراهيم يعني يدخل الحطيم أو الحجر هذه يدخله داخل الكعبة، وذلك أن قريشاً لم تكتفي بتقصير الكعبة من حيث العرض وإنما كذلك كان للكعبة بابين وجعلوا لها باباً واحداً ورفعوه عن الأرض، فأرد النبي ﷺ أن يجعل لها بابين باب يدخل منه الناس وباب يخرجون منه، وأن يجعل كذلك الباب ملتصقاً بالأرض لا مرتفعاً كما هو الحال الآن، وأن يدخل الحجر في الكعبة، ولكنه خشي أمراً وهو الناس حديث عهدهم بالجاهلية، تعلموا أن فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة وأهل مكة بعضهم أسلم وبعضهم أسلم خوفاً وبعضهم مازال على دينه ، فخشي النبي ﷺ أن يقولوا هذا الذي يدعي أنه يعظم الكعبة أول ما فتح مكة هدم الكعبة، فتركها للمصلحة،ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ واستمر الأمر كذلك.
في عهد عبد الله بن الزبير ضربت الكعبة لما حُوصر عبد الله بن الزبير في عهد يزيد ضربت الكعبة على يد موسى بن عقبة، عندها مات يزيد و الزبير محاصر في مكة ثم الجيش رجع إلى الشام وقلنا عبد الله بن الزبير أعلن نفسه خليفة على المسلمين، فجمع الناس يريد إعادة بناء الكعبة، وهذه الرواية، حفظها لنا الإمام مسلم رحمه الله تعالى في كتابه في قصة بناء الكعبة.
يقول الإمام مسلم في حديثه، حدثنا همام بن الثري قال حدثنا بن زائدة الإستاد يقول أن الزبير لما صدر الناس يعني رجعوا من الحج سنة أربع وستين، لما أعلن نفسه الخليفة، قال: يا أيها الناس أشيروا علي في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها، أو أصلح ما وهي منها، ماذا ترون؟ هل أنقض الكعبة، أهدمها وأبنيها من جديد، أو أصلح. قال ابن عباس: فإني قد فرق لي رأي فيها،أنا عندي رأي، أرى أن تصلح ما وهي منها، يعني لا تهدم وتبني أصلح ما وهي منها أي ما أصيب من المنجنيق، وتدع بيتاً أسلم الناس عليه، ألا تمس البيت وأحجاراً أسلم الناس عليها، وبعث عليها النبي ﷺ . فقال: ابن الزبير لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجده فكيف بيت ربكم؟ إني مستخير ربي ثلاثاً، ثم عازم على أمري. يعني سيستخير ثلاث أيام.
يقول فلما مضى الثلاث، أي الثلاث أيام، اجمع رأيه على أن ينقضها فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء، يعني الناس قالوا: نخشى أن يصيب الناس شيء إذا هدموا الكعبة، يقول حتى صعده رجل فألقى منه حجارة، فلما لم يرى الناس أصابه شيء تتابعوا، فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، يعني هدموا الكعبة كلها، قال: فجعل ابن الزبير أعمدة، فستّر عليها الستور حتى ارتفع البناء، يعني أعاد بناء الكعبة، ثم قال ابن الزبير: إني سمعت عائشة تقول إن النبي ﷺ قال: لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقوي على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمس أذرع، ولجعلت لها باباً يدخل الناس منه، وباباً يخرجون منه.
قال عبد الله بن الزبير: فانا اليوم أجد ما أنفق، ولست أخاف الناس، فزاد فيه خمسة أذرع من الحجر حتى أبدى أساً نظر الناس إليه، يعني حفر تحت الحجر حتى وجدوا الأساس الذي بنى عليه إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فبني عليه البناء وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعاً فلما زاد فيه استقصره يعني الطول فزاده عشرة أذرع، رفع البناء أيضاً إلى أعلى، وجعل له بابين يعني للبيت، جعل له بابين، احدهما يدخل منه والآخر يخرج منه، هكذا صنع عبد الله بن الزبير، واستمر هذا الحال في خلافته تسع سنوات. حتى قُتِلَ عبد الله بن الزبير وذلك أنه قلنا أن مروان لم يبايع لعبد الله بن الزبير وظل في الشام، ثم لما مات مروان حكم بعده ولده عبد الملك ابن مروان في الشام ولم يبايع أيضاً ولكن عبد الملك لم يصبر كما صبر أبوه، بل بدأ يزحف حتى أخذ مصر ثم أخذ العراق، هكذا حتى دخل المدينة وأخذها، حتى حاصر عبد الله بن الزبير في مكة، حتى قُتِلَ عبد الله بن الزبير في مكة ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ .
لما حُوصر عبد الله بن الزبير ذهب إلى أمه وهو محاصر في مكة بل داخل البيت، ذهب إلى أمه أسماء، فقال لها: يا أماه الناس يقولون لي سلّم نفسك. فماذا ترين؟ قالت: يا بني إن كنت إنما خرجت لدنيا فيا خيبة لك، وإن كنت إنما خرجت لدين فلا تسلم نفسك. هذه أمه، تقول له أسماء بنت أبي بكر تقول له هذا الكلام، قال: يا أماه قد أخبرت أنهم سيقتلونني، قالت: تموت عزيزاً، قال: يقولون إنهم سيمثلون بي بعد موتي. قالت: ما ضر الشاة سلخها بعد ذبحها. إذا مت أنت لا يضرك شيء وأنت ميت كما أن الشاة لا يضر سلخها بعد ذبحها، كذلك أنت التمثيل بك، أي قطع يدك أو رجلك أم ما شابه ذلك، لا يضرك بعد موتك، فقال: والله ما أردت إلا هذا، يا أماه، ولكن أردته أن يكون منك. يعني أردت أن يكون هذا الكلام منك، يعني أنا كل الذي كنت أحاذره أن تحزني أنت، قالت: أبداً يا بني فاذهب إلى ما يسرك الله له. فامتنع أن يسلم نفسه.
ونقلت عنه كلمات طيبة، رحمه الله ورضي عنه، أنه قال:
وَلا أَلِينُ لِغَيْرِ الْحَقِّ أَسْأَلُهُ حَتَّى يَلِينَ لِضِرْسِ الْمَاضِغِ الْحَجَرُ
يعني إذا لان الحجر لمن يضربه بضرسه ألين أنا. يقل أبداً لا ألين، ولما حوصر ضرب بحجارة فأصابت وجهه فسال الدم من وجهه رضي الله عنه وقال: لو كان قرني واحداً لكفيتهم، لكنه محاصر، بآلاف وهو معه أعداد قليلة، يقول: لو كان قرني واحداً لكفيتهم، رأس برأس ما في مشكلة:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا = ولكن على أقدامنا تقطر الدّما
يعني مصاب في رأسي فتقطر الدم عليّ، لا أهرب، بل أدخل بوجهي، ولكن على أقدامنا تقطر الدما، أي من رؤوسنا على أقدامنا وقال: والله لضربة بسيف في عز أحب إليّ من ضربة بسوط في ذل.
وقال:
لست بمبتاع الحياة بسبة
و لا مرتق من خشية الموت سلما
فصل – وفاته :
هذا عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنه - فلما حوصر قُتل ـ رضي الله عنه ـ ولم يمثلوا به وإنما قتلوه ـ رضي الله عنه ـ ثم جاء الحجاج وأرسل إلى عبد الملك بن مروان لأنه لما دخل الكعبة وجد أنها غيّر بناؤها، كبرُ حجمها وارتفعت وصار لها بابان، فالأمر اختلف عنده فأرسل الحجاج إلى عبد الملك بن مروان، قال: فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك ويخبره بأن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاد من طوله فأقره، اتركه. وأما ما زاد من الحجر فرده إلى بنائه، أعده كما كان، وسد الباب الذي فتحه، فقام الحجاج فنقضه وأعاده إلى ما كان إليه قبل ذلك، ثم وفد الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته أي في خلافة الملك وفد إليه فقال عبد الملك ما أظن أبا خبيب يعني عبد الله بن الزبير سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمع منها، قال الحارث: بلى أنا سمعته منها، أنا أيضاً سمعت هذا من عائشة رضي الله عنها، قال سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت قال رسول الله ﷺ إن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حادثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه، فإن بدأ لقوم من بعدي أن يبنوه فهلومي لأريك ما تركوا منه. فأراها قريباً من سبعة أذرع.
وقال النبي ﷺ ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقياً وغربياً وهل تدرين لما رفع قومك بابها؟ قالت: قلت لا. قال: تعززاً ألا يدخلها إلا من أرادوا، فقال عبد الملك بن مروان للحارث: أنت سمعتها تقول هذا. قال: نعم. فأنزل رأسه وعنده عصا صغيرة فصار يضرب بها في الأرض، ثم قال: وددت أني تركته وما تحملت، أي: ما هددت. وفي رواية أخرى قال: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير.
هكذا يقول عبد الملك بن مروان، واستمر هذا الحال حتى جاءت خلافة المهدي العباسي فأراد أن يهدمها ويعيدها كما فعل عبد الله بن الزبير فاستشار الإمام مالكاً بن أنس ـ رحمه الله تعالى ـ فقال الإمام مالك: لا أرى أن تفعل ذلك، أخشى أن يتخذها الملوك لعبة، هذا يهدم وهذا يني، فتركت إلى اليوم.
فهذا صاحبنا عبد الله بن الزبير أمير المؤمنين، تزوج ـ رحمه الله ورضي عنه ـ أربعة نسوة، تزوج نفيسة بنت الحسن بن علي بن أبي طالب، وتزوج كذلك تماضر ، وزجلة ابنة منضور تزوج الأولى فماتت ثم زوجوه الثانية، وكان قد تزوج أختين كذلك حنتمة وريقة ابنة عبد الرحمن بن الحارث، تزوج الأولى فتوفيت عنده ثم تزوج الثانية ـ رضي الله عنه ـ ولد له قريباً من عشرين ولد من ذكر وأنثى، وكنيته أبو خبيب .
هذا هو عبد الله بن الزبير، رضي الله عنه وأرضاه والله أعلى وأعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.