• 7 نيسان 2017
  • 4,252

سلسلة من نحب - الله تعالى – (5) البَصير :

وهو اسم تكرَّر وروده في القرآن الكريم في مواضع تزيد على الأربعين، منها قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15]، وقال تعالى: {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك: 19]، وقال تعالى: {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]، وقال تعالى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً} [الإسراء: 17].

و"البصير" أي: الذي يرى جميع المبصرات، ويبصر كل شيء وإن دق وصغر، فيبصر دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويرى مجاري القوت في أعضائها، ويرى جريان الدم في عروقها، ويبصر ما تحت الأرضين السبع كما يبصر ما فوق السموات السبع، ويرى تبارك وتعالى تقلبات الأجفان، وخيانات العيون.

قال ابن القيِّم رحمه الله: "البصير: الذي لكمال بصره يرى تفاصيلَ خلق الذرة الصغيرة وأعضاءها ولحمها ودمها ومخها وعروقها، ويرى دبيبها على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء"(1).

ولقد أحسن من قال:

يا من يرى صفَّ البعوض جناحه              في ظلمه اللّيل البهيم الأليل

ويرى مناط عروقها في نحرها                والمخ من تلك العظام النُحَّل

اُمنُن عليّ بتوبة تمحو بها                      ما كان مني في الزمان الأوّل(2)

(1) "طريق الهجرتين" (ص / 234).

 قال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، وقال تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ﴿١٣﴾ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ} [القمر: 13-14]، وقال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي} [طه: 39].

ولهذا الاسم العظيم مقتضياته من الذّل والخضوع ودوام المراقبة والإحسان في العبادة والبعد عن المعاصي والذنوب، ومن يتأمّل الآيات التي وردت في القرآن الكريم مختومة بهذا الاسم - وهي تزيد على الأربعين - يتبيّن له ذلك، ولنقف من ذلك على بعض الأمثلة:

ختم جلّ وعلا بهذا الاسم قوله: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 61]، وهذا يقتضي سمعه لجميع أصوات ما سكن في اللّيل والنّهار، وبصره بحركاتهم على اختلاف الأوقات وتباين الحالات.

وختم به قوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]، منبِّهاً بذلك أنّه سبحانه بصير بأحوال عباده، خبير بها، بصير بمن يستحقُّ الهداية ممن لا يستحقّها، بصير بمن يصلح حاله بالغنى والمال، وبمن يفسد حاله بذلك، ومثله قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} [الإسراء: 30].

وختم به قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن: 2]، أي: بصير بالصالح والطّالح والمؤمن والكافر، ويجزي كلاًّ بما يستحقّ.

(2) "كتاب التوحيد" (ص / 50).

وختم به قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ۗ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40]، مهدِّداً ومتوعّداً مَنْ يلحدون في آياته بأنّه بصير بهم مطّلع عليهم، وسيجازيهم يوم القيامة على ما اقترفوه من إلحاد في آيات الله.

وختم به قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56]، أي: السّميع لجميع الأصوات على اختلافها، البصير بجميع المرئيات بأي محلّ وموضع وزمان كانت، ومن ذلكم رؤيته واطلاعه على من يجادل في آياته ليبطلها، وهو أمر لا يتم لهم وليسوا ببالغيه.

وختم به قوله: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 20]، وفي هذا دلالة على أن العبادة حق للسميع البصير، الذي له كمال السمع وكمال البصر، وأما الأصنام فإن من دلائل بطلان عبادتها أنها لا تسمع ولا تبصر، ولهذا قال إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} [مريم: 42].

وختم به قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء: 58]، وهذا مدح من الله لأوامره ونواهيه لاشتمالها على مصالح الدارين ودفع مضارهما؛ لأن شارعها السميع البصير الذي لا تخفى عليه خافية ويعلم من مصالح العباد ما لا يعلمون.

وفي ذلك أيضا ترغيبٌ في الوفاء بذلك، وترهيب من عدم الوفاء.

وختم به قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110]، وهذا فيه وعد منه سبحانه أن لا يضيع عنده شيء من أعمال الخير التي قدموها لأنفسهم، وأنه بصير بهم وسيثيبهم على ذلك عظيم الثواب.

وبهذه الأمثلة يعلم أنَّ استحضار العبد لكون الله سبحانه بصيراً به مطَّلعاً عليه يفيده فائدة عظيمة في جانبي الترغيب والترهيب، كما هو واضح في الأمثلة المتقدمة، فإذا أحسن العبد في عبادته لربه ومجانبته لمعاصيه مستحضراً رؤية الله له واطلاعه عليه، فهذا مقام الإحسان، وهو أعلى مقامات الدين كما قال عليه الصلاة والسلام في بيان حقيقة الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وكم من شخص كف عن مقارفة المعاصي وغشيان الذنوب لاستحضاره رؤية الله له.

قال ابن رجب رحمه الله: "راود رجل امرأة في فلاة ليلاً، فأبت، فقال لها: ما يرانا إلاّ الكواكب، قالت: فأين مكوكبُها؟!"(1). أي: ألا يرانا، قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14]، وكفى بهذا زاجراً ورادعاً.

****

(1) "شرح كلمة الإخلاص" (ص / 49).

 (2) أوردها القرطبي في "التذكرة" (1 / 464- ط. دار المنهاج).

(1) "صحيح البخاري" (رقم: 7131)، و"صحيح مسلم" (رقم: 2933) من حديث أنس رضي الله عنه.

مقالات ذات صلة :