• 7 نيسان 2017
  • 3,536

سلسلة من نحب - صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم – (3) سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه :

فصل – التعريف به :

إنَّ حديثَنا في هذه اللَّيلةِ عن خليفةٍ راشدٍ ، وقبلَ أنْ أقولَ إنَّ حديثَنا عن خليفةٍ راشدٍ أقولُ إنَّ حديثَنا عن أصحابِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّ حديثَنا عن أناسٍ قالَ الله تباركَ وتعالى فيهم : " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً " [سورة الفتح:29]

حديثنا عن قومٍ قالَ الله تباركَ وتعالى فيهم : " لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ"  [سورة الحشر: 8]

حديثنا عن أناسٍ قالَ الله تباركَ وتعالى فيهم : " لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً  ". [سورة النساء: 95]

حديثنا عن قومٍ قالَ الله تباركَ وتعالى فيهم : " لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى". [سورة الحديد: 10] كلاًّ وعدَ الله الحسنى .

حديثنا عن قومٍ قالَ الله تباركَ وتعالى فيهم : " وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ". [سورة التوبة: 100]

حديثنا عن هؤلاءِ القومِ، عن رجلٍ مِنْ هؤلاء القومِ، عن رجلٍ ترتيبُه الثَّالث في هذه المجموعةِ الطَّيِّبةِ المباركةِ .

يقولُ عبدُ الله بنُ عمرَ رضيَ الله تباركَ وتعالى عنهما في الحديثِ الذي أخرجَه الإمامُ البخاريُّ في صحيحهِ : " ما كنَّا نعدلُ بعدَ رسولِ الله ـ ﷺـ  بأبي بكرٍ أحداً ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم نترك سائرَ أصحابِ رسولِ الله ـ ﷺـ  لا نتكلَّم فيهم".

حديثنا عن الثَّالثِ ،  عن رجلٍ ترتيبُه الثَّالث في خَلْقِ الله تباركَ وتعالى بعد الأنبياءِ والمرسَلين ،  بهذا وأمثالهِ تطيبُ المجالسُ ،  بِذِكْرِ هذا الرَّجلِ وأمثالهِ نسعدُ ، ونحن نذكرُ مآثرَهم وأخبارَهم وأحوالَهم ،  في هذا وأمثالهِ يحقُّ لنا أنْ نقولَ :

فتشبَّهوا إنْ لم تكونوا مثلَهم

إنَّ التَّشبُّه بالكرامِ فلاحُ

إنَّ حديثَنا عن رجلٍ هو الأوَّل والآخِر الذي تزوَّج بنتيْ نبيٍّ ، لم يسبقْه أحدٌ بهذا الفضلِ، ولنْ يلحقَه أحدٌ بهذا الفضلِ ،  لا يُعْرَفُ على وجهِ الأرضِ رجلٌ تشرَّف بالزَّواجِ منْ بنتيْ نبيٍّ غير هذا الرَّجل ، ولذلك كانَ يُلَقَّبُ بذي النُّورين ، أمَّا النُّورُ الأوَّلُ فهي رقيَّة بنتُ النبيِّ ـ ﷺـ  ، فلمَّا توفَّاها الله تباركَ وتعالى زوجَّه النبيُّ ـ ﷺـ  النُّورَ الثَّاني وهي أمّ كلثوم ، فلُقِّبَ بذي النُّورين رضيَ الله عنه وأرضاه .

إنَّ صاحبَنا الذي نسألُ الله تباركَ وتعالى أنْ نكونَ منْ أصحابهِ يومَ القيامةِ ، إنَّ صاحبَنا هو عثمانُ بنُ عفان بنِ أبي العاص بنِ أميَّة بنِ عبد شمس.

وعبدُ شمس هو الأخُ التَّوءم لهاشم جَدِّ النبيِّ ـ ﷺـ  ، ليس فقط الشَّقيق بل التوءم لهاشم جَدِّ النبيِّ ـ ﷺـ  ، وجدَّةُ عثمانَ البيضاءُ بنتُ عبد المطَّلب عمَّةُ النبيِّ ـ ﷺـ  ، فعلاقتُه مع النبيِّ ـ ﷺـ  وطيدةٌ جِدّاً ،  هو ابنُ عمِّه ، وجدَّته عمَّةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ، وتشرَّف بالزَّواج منْ بنتي النبيِّ رقية وأمّ كلثوم ، اشتُهرَ بأبي عبد الله وبأبي عمرو .

كانتْ قريش تحبُّه كثيراً حتى إنه يقالُ للرَّجلِ فيهم : " أحبَّك الرَّحمن حُبَّ قريش لعثمانَ " ، كانَ محبوباً عند قريش ، وهو أصغرُ مِنَ النبيِّ ـ ﷺـ  بِسِتِّ سنين ، وُلِدَ في السَّنةِ السَّادسةِ بعدَ عامِ الفيلِ ، والمعلومُ أنَّ النبيَّ ـ ﷺـ  وُلِدَ في عام الفيل .

 

فصل – إسلامه :

أسلمَ على يدِ أبي بكر الصِّدِّيق ، وكانَ مِنَ المسلمين الأوائل الذين قالَ الله تباركَ وتعالى فيهم : " وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ " .

أوَّل مَنْ هاجرَ بأهلهِ في سبيلِ الله تباركَ وتعالى هو عثمانُ بنُ عفَّان ،  هاجرَ برقيَّة بنتِ النبيِّ ـ ﷺـ  مِنْ مكَّةَ إلى الحبشة ، وظلَّ في الحبشةِ فترةً منَ الزَّمنِ حتى أشِيعَ أنَّ أهلَ مكَّة أسلموا جميعاً ؛ وذلك بعد نزولِ سورةِ النَّجمِ وقول الله تباركَ وتعالى لهم : " أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ٥٩ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ ٦٠ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ٦١ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ٦٢ " ، [سورةِ النَّجمِ: ٥٩، ٦٢]

فسجدَ كلُّ أهلِ مكَّةَ مؤمنهم وكافرهم ، أمَّا المؤمنون فطاعةً لأمرِ الله تباركَ وتعالى ، وأمَّا الكافرون فأخذتهم روعةُ الآياتِ وعظمتُها فلم يملكوا إلا أنْ يستجيبوا للأمرِ حالاً .

حتى قالَ ابنُ مسعود : " فسجدَ الإنسُ والجِنُّ " ، فظنَّ البعضُ أنَّ أهلَ مكَّةَ جميعاً دخلوا في الإسلام ، لأنهم سجدوا لله تباركَ وتعالى ، وما علمَ هذا الذي ظنَّ هذا الظَّنَّ أنَّ هذا السُّجودَ إنما كانَ لروعةِ القرآن التي أذهبتْ عقولَهم .

فوصلَ الخبرُ إلى أهلِ الحبشةِ المهاجرين ومنهم عثمان وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وجعفر بن أبي طالب وغيرهم ورقية بنت النبيِّ ـ ﷺـ  ، فلمَّا بلغَهم الخبرُ رجعوا إلى مكَّةَ ، وإذا الخبرُ غيرُ صحيحٍ ، ولم يسلمْ أهلُ مكَّةَ ، وما زالَ الأذى ، وما زالَ العذابُ ، فرجعَ أكثرُهم إلى الحبشةِ مرَّةً ثانيةً ورجعَ معهم آخرون منَ الذين دخلوا في الإسلام بعد فترةٍ ، ومنهم مَنْ بقيَ في مكَّةَ ومنهم عثمان ورقية بنت النبيِّ ـ ﷺـ  وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص ،  بقوا في مكَّة ولم يهاجروا مرَّة ثانية .

 

فصل – فضل عثمان بن عفان رضي الله عنه :

سنتناولُ حياةَ هذا الرَّجلِ بِذِكْرِ فضلهِ أوَّلاً ، وبيانِ مكانتهِ في هذه الأمَّة ، أو الذي ينبغي أنْ يكونَ له . جاءَ عن النبيِّ ـ ﷺـ  أنه قالَ عنه يوماً : " ألا أستحي مِنْ رجلٍ تستحي منه الملائكةُ " . الله أكبر ! مَنْ مِنَّا لا يتمنَّى أنْ يكونَ هذا الرَّجل ؟؟ تصوَّروا تستحي منه الملائكةُ ! النبيُّ ـ ﷺـ  يقدِّر هذا الخُلُقَ الرَّفيعَ عند عثمانَ فيقولُ :" ألا أستحي منْ رجلٍ تستحي منه الملائكةُ " .

وصعدَ النبيُّ ـ ﷺـ  يوماً على الجبل ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ، فاهتزَّ الجبلُ ، فركلَه النبيُّ برجلهِ وقالَ : " اثبتْ ، إنما عليكَ نبيٌّ وصِدِّيقٌ وشهيدان " . هذه شهادةٌ منْ أصدقِ الخَلْقِ وأعلمِ الخلقِ صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه، يقولُ عليكَ أيُّها الجبلُ الآنَ : نبيٌّ وهو محمَّد ـ ﷺـ  ، وصِدِّيق وهو أبو بكر ، وشهيدان وهما عمر وعثمان ، هذا يخبرُ به سيِّدنا محمَّد ـ ﷺـ  .

وفي يومٍ منَ الأيام لما كانوا في المدينةِ وكانتْ بئرٌ في المدينةِ يُقالُ لها بئر روما يملكُها يهوديٌّ ، وعرضَ بيعَها بسعرٍ مُكْلِفٍ ، فقالَ النبيُّ ـ ﷺـ  : " مَنْ يشتري بئرَ روما وله خيراً منها في الجنَّة " . ما إنْ سمعَ عثمانُ بهذا الكلام منَ النبيِّ ـ ﷺـ  حتى بادرَ إلى شرائِها وقالَ : "هي في سبيلِ الله" .

رجلٌ يخطِّطُ للجنَّة ،  أملُه الجنَّة ،  حاجتُه الجنَّة ،  يبذلُ أموالَه في سبيلِ الله و لا يريدُ إلا الجنَّة " وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى 17 الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى 18 وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى 19 إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى 20 وَلَسَوْفَ يَرْضَى 21 ". [سورة الليل: 17،21 ]

والله ليُرْضِيَنَّه ربُّنا ، وقد أرضاه سبحانه وتعالى .

ولما جهَّز النبيُّ ـ ﷺـ  جيشَ العُسْرَةِ ، وسُمِّيَ بجيشِ العُسْرَةِ لِقِلَّةِ ذاتِ اليدِ والحاجةِ الشَّديدةِ ، لما أرادَ الذَّهابَ إلى تبوك صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه فقالَ : " مَنْ يجهِّزُ جيشَ العُسْرَةِ وله الجنَّة ؟ " فقامَ عثمانُ وأتى بمالٍ كثيرٍ فوضعَه بين يدي النبيِّ ـ ﷺـ  حتى قيلَ إنه جهَّز جيشَ العُسْرَةِ كاملاً ، وضعَه بين يدي النبيِّ ـ ﷺـ  حتى استبشرَ وضحكَ صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه ، وتغيَّر وجهُه كأنه فلقةُ نورٍ ، وصارَ يقلِّب هذا المالَ ويقولُ : " ما ضَرَّ عثمان ما فعلَ بعد اليوم ، ما ضَرَّ عثمان ما فعلَ بعد اليوم" . قالها مرَّتين صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه .

وخرجَ يوماً صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه فدخلَ حائطاً في المدينةِ فقالَ أبو موسى : "لأكوننَّ بوَّابَ رسولِ الله ـ ﷺـ  اليومَ فلا يدخل عليه أحدٌ إلا بإذنهِ" . فقدَّر الله أنَّ أوَّل مَنْ أتى أبو بكر الصِّدِّيق فاستأذنَ ، قالَ :حتى يأذنَ لكَ رسولُ الله . قالَ : "ائذنْ له وبشِّره بالجنَّة" . ثم جاءَ عمرُ فقالَ : "ائذنْ له وبشِّره بالجنَّة" . ثم جاءَ عثمانُ فقالَ :" ائذنْ وبشِّره بالجنَّةِ على بلوى تُصيبُه " .

وقد ثبتَ في الحديثِ عن النبيِّ ـ ﷺـ  أنه قالَ : "يُبتلى المرءُ على قدرِ دينهِ " . وقالَ :"أشدُّ النَّاسِ بَلاءً الأنبياءُ ثم الصَّالحون ثم الأمثل فالأمثل " ، " بشِّره بالجنَّةِ على بلوى تصيبُه "

 

فصل – مكانة عثمان رضي الله عنه :

خرجَ النبيُّ ـ ﷺـ  إلى مكَّة يُريدُ العمرةَ وذلك في الحديبيةِ في السَّنةِ السَّادسةِ مِنَ الهجرةِ ، وظنَّت قريش أنه جاءَ يقاتلُ ، وهو إنما خرجَ لأداءِ عمرةٍ صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه فصارتْ ترسل الرُّسُلَ إلى النبيِّ ـ ﷺـ  تريدُ أنْ تعرفَ ماذا يريدُ ؟ فأرسلتْ عروةَ بنَ مسعود وسهيلَ بنَ عمرو وزعيمَ الأحابيش يُفاوضون النبيَّ ـ ﷺـ  ، وأرسلَ النبيُّ مَنْ يُفاوضُهم ، فأرسلَ عثمانَ بنَ عفَّانَ رضيَ الله عنه ، فدخلَ عثمانُ مكَّةَ، فقالوا له : ماذا تريدُ ؟ فقالَ : إنَّ رسولَ الله ـ ﷺـ  أرسلني إليكم ، وإنه يُريد العمرةَ، يعتمر ثم يرجع فقط ، لا يريدُ قتالاً . قالوا :أمَا والله لا يفعلُها ، ولكنْ إنْ شئتَ أنتَ فَطُفْ في البيتِ . وهو كلُّه شوق إلى هذا البيتِ الذي غادرَه منذ سِتِّ سنين مع رسولِ الكرامة والعِزَّة صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه . قالوا: إنْ شئتَ أنتَ فَطُفْ . وهو يرى الكعبةَ أمامَ عينيه ، فيقولُ :لا والله ما كنتُ لأفعلَ ذلك قبلَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم .

ثم يُشاعُ بعد أنْ حبسته قريش ومنعته منَ الرُّجوع إلى النبيِّ ـ ﷺـ  ، فلمَّا تأخَّر أشيعَ بين أصحابِ النبيِّ ـ ﷺـ  أنَّ عثمانَ قد قتِلَ . فجمعَ النبيُّ أصحابَه - وكانوا بين ألف و أربعمئة وألف وخمسمئة فقالَ : " بايعوني " . قالوا : نبايعُك على الموتِ . وقالَ آخرون : بايعناه على ألَّا نفرَّ . فبايعوا النبيَّ ـ ﷺـ  .

والمشهورُ عند أهلِ السِّيَرِ أنَّ هذه البيعةَ إنما تمَّتْ لأجلِ الانتقام لعثمانَ رضيَ الله عنه وأرضاه ،  بايعوا النبيَّ بيعةَ الرّضوان ، وأحبَّ الله هذه البيعةَ ورضيَ عن هذا الفعلِ فقالَ : " لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ". [سورة الفتح: 18]

بايعوا النبيَّ ـ ﷺـ  ، وكانوا يصافحونه في البيعةِ فصافحَه ألف وأربعمئة أو ألف وخمسمئة على الموتِ أو على ألَّا يفرُّوا ، فلما قضَوا بيعتَهم رفعَ يدَه صلى الله عليه وسلم وقالَ : " وهذه لعثمانَ " ، ثم بايعَ لعثمانَ صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه . يقولُ هذه بيعةُ عثمانَ ،  لثقتهِ به فيما لو لم يكنْ ماتَ فإنه سيبايع كما بايعَ أصحابُ النبيِّ ـ ﷺـ  .

وقد أكرمَ النبيُّ ـ ﷺـ  هذا الرَّجلَ كثيراً فزوَّجه ابنتَه رقية ، ولما خرجَ إلى بدرٍ صلواتُ ربِّي وسلامُه أذِنَ لعثمانَ ألَّا يخرجَ معهم ، وطلبَ منه أنْ يبقى مع رقية لأنها كانتْ مريضةً . وقدَّر الله تباركَ وتعالى أنه مع عودةِ النبيِّ ـ ﷺـ  مِنْ بدر توفِّيتْ رقيةُ بنتُ النبيِّ ـ ﷺـ  ، فحزنَ عليها النبيُّ وحزنَ عليها عثمانُ ، ولكنَّ النبيَّ ـ ﷺـ  أرضى هذا الرَّجلَ لِشِدَّةِ محبَّتهِ له فزوَّجه أختَها أمَّ كلثوم ، فتزوَّج أمَّ كلثوم بنتَ النبيِّ ـ ﷺـ  .

وضربَ له النبيُّ ـ ﷺـ  بسهمٍ في بدر ، اعتبرَه ممنْ شارك لأنه كانَ حريصاً على الخروج مع النبيِّ ـ ﷺـ  ، ولكنَّ النبيَّ صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه هو الذي طلبَ منه أنْ يبقى في المدينةِ مع ابنتهِ ، ولم يتخلَّف عثمانُ أبداً عن أيِّ غزوةٍ غزاها النبيُّ ـ ﷺـ،  أبداً إلا بدر ، وأخذَ سهمَها بأمرِ النبيِّ صلَّى الله عليه و آلهِ وسلَّم .

لا شكَّ أنَّ الوقتَ كما ذكرَ أخونا فرحان حفظَه الله تباركَ وتعالى يضيقُ عن ذِكْرِ كلِّ ما نريدُ ذِكْرَهُ في هذه اللَّيلةِ التي أسألُ الله تباركَ وتعالى أنْ يجعلَها مباركةً علينا وعليكم ، ولكنْ لا يعني هذا أنْ نتركَ الأمرَ كلَّه ، نذكرُ ما تيسَّر منْ ذلك .

 

فصل – جمع عثمان رضي الله عنه للقرآن الكريم :

عثمانُ رضيَ الله عنه تميَّز بقضيَّةٍ مهمَّةٍ وذلك إبَّانَ خلافتهِ ، التي سنتكلَّم على وصولِ هذه الخلافةِ لعثمانَ رضيَ الله عنه . قضيَّة جمع القرآن ، اليوم لو سألتَ أيَّ أحدٍ منَ النَّاسِ ما اسمُ هذا المصحف ؟ لقالَ النَّاسُ جميعاً إنه المصحفُ العثمانيُّ ، يُنْسَبُ هذا المصحفُ إلى عثمانَ بنِ عفَّانَ ، فلا يقالُ إلا المصحف العثماني والرَّسم العثماني إلى اليوم ، وذلك لما قامَ به هذا الرَّجلُ مِنْ عملٍ جليلٍ في جمعِ النَّاسِ على هذا القرآنِ الكريمِ .

جاءَه حذيفةُ بنُ اليَمَانِ بعد غزو أرمينيا، فقالَ له : أدركْ أمَّةَ محمَّدٍ ، يكادون يقتتلون على القرآنِ . فقامَ عثمانُ وجمعَ القرآنَ ، كلَّف أربعةً ، ثلاثةً منْ أصحابِ النبيِّ ـ ﷺـ  و رابعاً منَ التَّابعين زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزُّبير ، وعبد الرَّحمن بن الحارث بن هشام ، وسعيد بن العاص ، كلَّف هؤلاء الأربعة أنْ يقوموا بجمعِ القرآنِ الكريمِ، فجُمِعَ القرآنُ ، ثم نسخَ منه سِتَّ نُسَخٍ ، وجعلَ نسخةً في مكَّةَ ، ونسخةً في البصرةِ ، ونسخةً إلى الكوفةِ ، ونسخةً إلى مصرَ ، ونسخةً إلى الشَّامِ ، وقيلَ أيضاً جعلَ نسخةً إلى اليمنِ ، وجعلَ النُّسخةَ الأخيرةَ عندَه ، وسُمِّيَتْ بالمصحفِ الإمام ، الذي كانَ عند عثمانَ في المدينةِ يقالُ له المصحف الإمام . وخمدتِ الفتنةُ بعد أنْ كادتْ تستعرُ .

هناك مَنْ شكَّك بفعلِ عثمانَ وطعنَ فيه ، وجاءَ مَنْ يدافعُ عن عثمانَ كعليِّ بنِ أبي طالب رضيَ الله عنه ، وقالَ : " اتقوا الله ، وإياكم والغُلُوَّ في عثمانَ ، وقولكم حرَّاق المصاحف ، فوَ الله ما أحرقَها إلا عن ملأ منَّا جميعاً أصحابَ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم - إجماع ،  اتفقنا على هذا الأمر - أنْ يحرقَ المصاحفَ - والله لو وُلِّيتُ لفعلتُ مثلَ الذي فعلَ " .

يدافعُ عليٌّ عن عثمانَ رضيَ الله عنه بهذا الفعلِ العظيمِ الذي جمعَ فيه الأمَّةَ بعد أنْ كادتْ تفترقُ بسببِ اختلافِها في القرآنِ الكريمِ وهذه مسألةٌ يطولُ شرحُها ، لكنِ القصد أنَّ عثمانَ رضيَ الله عنه منْ أفضلِ الأعمالِ التي قامَ بها أنْ جمعَ النَّاسَ على المصحفِ الواحدِ هذا الذي إلى اليوم ترفلُ الأمَّةُ بهذا المصحفِ .

عثمان بن عفان تميَّز بأنه أوَّلُ مَنْ حملَ النَّاسَ على البحرِ ، كانَ معاويةُ في الشَّام ، والشَّامُ على البحر ، فكانَ يطلبُ منْ عمرَ أثناءَ خلافتهِ أنْ يأذنَ له بغزوِ البحر ، وكانَ عمرُ يمتنعُ ، فلمَّا أصرَّ معاويةُ وأكثرَ على عمرَ،  ننشر الإسلام عن طريقِ البحر ،  أنْ نغزوَ البلادَ كما غزوناها في البرِّ ،  فلمَّا أكثرَ عليه استشارَ عمرُ عمرو بنَ العاص ، فقالَ له :يا عمرو خضتَ البحرَ -لأنه ذهبَ إلى الحبشةِ - قالَ :خضتَ البحرَ . قالَ :نعم . قالَ :صِفِ البحرَ لي .

فقالَ عمرو بنُ العاص :يا أميرَ المؤمنين ، إني رأيتُ خَلْقاً كبيراً - يعني هذا البحر مخلوق كبير - يقولُ :يا أميرَ المؤمنين ، إني رأيتُ خَلْقاً كبيراً يركبُه خَلْقٌ صغيرٌ ليسَ إلا السَّماء والماء ، إنْ ركدَ فرقَ القلوبَ ، وإنْ تحرَّك أزاغَ العقولَ ، هم فيه كدودٍ على عودٍ ، إنْ مالَ غرقَ ، وإنْ نجا برِقَ أي تحيَّر فيه . فقالَ عمرُ بنُ الخطَّاب :والله لا أحملُ عليه مسلماً أبداً ،  هذا الوصفُ لهذا البحرِ !! والله لا أحملُ عليه مسلماً أبداً،  وامتنعَ عمرُ عن ذلك ، حتى تُوُفِّيَ رضيَ الله عنه .

وآلتِ الخلافةُ إلى عثمانَ فأصرَّ معاويةَ على غزو البحرِ ، و جاءَ إلى عثمانَ وقالَ :نغزو البحرَ،  نغزو قبرص ، وننشرُ دينَ الله تباركَ وتعالى . فلمَّا أكثرَ على عثمانَ قالَ له عثمانُ :بشرطٍ واحدٍ ، أنا أوافقُ بشرطٍ واحدٍ . قالَ :و ما هو ؟ قالَ :أنْ تركبَ أنتَ معهم ومعك زوجتك ، إذا ركبتَ أنتَ وزوجتك معك أنا آذن ، أمَّا أنْ تخاطرَ بالمسلمين وأنتَ جالسٌ بالشَّام ! لا . قالَ :نعم أركبُ أنا و زوجتي . قالَ :إنْ كانَ كذلك فنعم ، ولا تجبرِ النَّاسَ ، ولكنْ خيِّرهم ، مَنْ أرادَ فليخرجْ ، ومَنِ امتنعَ فليبقَ . وكانَ الفتحُ عن طريقِ البحرِ، وانتشرَ دينُ الله تباركَ وتعالى وفُتحتْ إفريقيا كلُّها في عهدِ عثمانَ رضيَ الله عنه عن طريقِ البحرِ .

 

فصل – خلافة عثمان رضي الله عنه :

عثمانُ بنُ عفَّان وصلتْ إليه الخلافةُ بعد طعنِ عمرَ ، لما طعنَه أبو لؤلؤة المجوسيّ ، فقالوا: استخلفْ يقولون لعمرَ . قالَ :إنْ أستخلفْ فقد استخلفَ مَنْ كانَ خيراً مني وإنْ أتركْ فقد تركَ مَنْ كانَ خيراً مني ، ولكنْ أتركُ الأمرَ في سِتَّةٍ قد ماتَ رسولُ الله ـ ﷺـ  وهو عنهم راضٍ . يعني أنتم تختارون واحداً منْ هؤلاء السِّتّ ، أو هم يختارون واحداً منهم ، فسمَّى "عليّاً ، وعثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، والزُّبير بن العوَّام ، وطلحة بن عبيد الله "

قالَ : " هؤلاء السِّتة ماتَ رسولُ الله وهو عنهم راضٍ " ، لا يعني أنه ماتَ عن غيرِهم وهو غير راضٍ ، ولكنَّ هؤلاء كانوا منْ أحبِّ النَّاسِ إلى رسولِ الله ـ ﷺـ  ، وقد اتفقَ أهلُ العلمِ تقريباً على أنَّ خيرَ النَّاسِ بعد رسولِ الله ـ ﷺـ  العشرةُ المبشَّرون بالجنةِ ، وهؤلاء السِّتة منَ العشرةِ وسابُعهم أبو عبيدة وكانَ قد توفِّي في خلافةِ ، وثامنُهم عمر وهو الذي قد طُعِنَ ، وتاسعُهم أبو بكر وكانَ قد توفِّي ، وعاشرُهم سعيد بن زيد ، وإنما أخرجَه عمرُ لقرابتهِ ، لأنه ابنُ عمِّه وزوجُ أختهِ ، فأخرجَه ولم يُدخلْه في المجموعةِ ، وأبقى هؤلاء السِّتة مِنَ العشرةِ المبشَّرين بالجنَّة ، فقالَ يختارون منهم واحداً ، ولنْ أطيلَ عليكم ، اجتمعَ السِّتةُ .

فقالَ سعدُ بنُ أبي وقاص :أنا أرشِّح عبدَ الرَّحمن بنَ عوف . وقالَ طلحةُ بنُ عبيدِ الله: أنا أرشِّح عثمانَ بنَ عفَّان. وقالَ الزُّبير بنُ العوَّام :أنا أرشِّح عليَّ بنَ أبي طالب . فانسحبَ ثلاثةٌ وهم : سعد ، وطلحة ، والزُّبير ، لا يريدون الخلافةَ ، وكلٌّ أعطى صوتَه لواحدٍ . فقالَ عبدُ الرَّحمن بنُ عوف :وأنا لا أريدُها . بقيتْ لعثمانَ وعليّ ثم قالَ عبدُ الرَّحمن بنُ عوف :أعطوني ثلاثةَ أيامٍ أنظرُ في أمري . لأنه إذا رشَّح عثمانَ صارَ عثمانُ الخليفةَ ، وإذا رشَّح عليّاً صارَ عليٌّ الخليفةَ ، فبقيَ ثلاثةَ أيامٍ ما شبعَ مِنْ نومٍ حتى كانَ في اليومِ الثَّالثِ في ليلتهِ طرقَ البابَ في آخرِ اللَّيلِ في السَّحَرِ قبل الفجرِ بساعةٍ أو قريبٍ مِنْ ذلك على المِسْوَر بنِ مَخْرَمَة ابنِ عمِّه وابنِ خالتهِ في الوقتِ نفسهِ ، فطرقَ عليه البابَ . فقالوا له :نائم . فقالَ :فأيقظوه . فأيقظوه ، فخرجَ إليه :ما لك ؟ قالَ : نائم ؟ قالَ : نعم . قالَ :منذ ثلاثةِ أيام ما شبعتُ منْ نومٍ . لأنه يحملُ همّاً ، مَنْ يختارُ لأمَّةِ الإسلام فجلسَ معه يناقشُه ويحادثُه حتى طلعَ عليهم الفجرُ ، فلمَّا طلعَ الفجرُ وصلَّى النَّاسُ الفجرَ قامَ عبدُ الرَّحمن بنُ عوف قالَ: والله ما تركتُ بيتاً منْ بيوتِ الله المهاجرين والأنصار فما رأيتُ أحداً يعدلُ بعثمانَ أحداً . كلُّهم يريدون عثمانَ.

ولذلك يقولُ أيوب السِّختياني وأحمد بن حنبل والدَّارقُطْني ، يقولُ هؤلاء الثَّلاثة :مَنْ قدَّم عليّاً على عثمانَ فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار . يعني الذي يقولُ عليّ أفضل مِنْ عثمانَ كأنه يقولُ هؤلاء كلّهم لا يفهمون ، الذين قالَ عنهم عبد الرَّحمن بن عوف فما وجدتهم يعدلون بعثمانَ أحداً . فقامَ عبدُ الرَّحمن بنُ عوف وبايعَ عثمانَ بنَ عفَّان على الخلافةِ ، ثم قامَ عليٌّ وبايعَه ، وسعدٌ بايعَه ، وطلحةُ ، والزُّبيرُ ، وجميعُ المسلمين، ولا تُعلمُ بيعةٌ تمَّتْ بالإجماعِ كبيعةِ عثمانَ،  لم يخالفْ فيها أحدٌ أبداً ، وهي أطولُ مدَّة خلافةٍ في الخلافةِ الرَّاشدةِ التي قالَ عنها النبيُّ ـ ﷺـ  : " خلافةُ النُّبوَّة ثلاثون سنةً " سمَّاها خلافة نبوَّة ـ ﷺـ  .

قالَ : " خلافة النُّبوَّة ثلاثون سنةً " ، وسمَّاهم الخلفاءَ الرَّاشدين صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه : " عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين مِنْ بعدي ، عضُّوا عليها بالنَّواجذِ"، هكذا يقولُ رسولُنا ـ ﷺـ  .

ومدَّة خلافةِ عثمانَ اثنتا عشرةَ سنةً ، عمر عشر ، وعليّ أربع وأشهر ، وأبو بكر سنتان وأشهر ، أمَّا عثمان فاثنتا عشرة سنةً حكمَ المسلمين ، وفُتحتِ البلادُ ، وانتشرَ الخيرُ ، حتى قالَ الحسنُ البصريُّ : " ما كانَ يمرُّ على النَّاسِ يومٌ إلا وينادي منادٍ يا عبادَ الله أقبِلوا إلى أعطياتِكم " خذوا خذوا مِنْ أعطياتِكم، فوجدَ النَّاسُ السَّعَةَ والرَّاحةَ والنَّعيمَ في عهدِ عثمانَ بنِ عفَّان رضيَ الله عنه وأرضاه .

 

فصل – وفاة عثمان بن عفان  رضي الله عنه :

لضيقِ الوقتِ نعودُ إلى قولِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم : " وبشِّره بالجنَّةِ على بلوى تُصيبُه " . النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يعلمُ مِنَ الغيبِ إلا ما أعلمَه الله كما قالَ الله تباركَ وتعالى : " عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً  إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ". [سورة الجن:]

فالله يُطْلِعُ نبيَّه على بعضِ غيبهِ ، فيخبرُه أنه سيقعُ كذا ويقعُ كذا مِنْ أمورِ الغيبِ ، نحن الآن نعلمُ بعضَ أمورِ الغيبِ مما أخبرَنا به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم منْ علاماتِ السَّاعةِ التي أخبرَ عنها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، نحن الآن نعلمُها وإنْ كانتْ لم تقعْ بعدُ بإخبارِ النبيِّ لنا صلَّى الله عليه وسلَّم ، والنبيُّ يعلمُها ويعلمُ غيرَها مما لا نعلمُه بإخبارِ الله له سبحانه وتعالى ، فمِنْ إخبارِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لعثمانَ رضيَ الله عنه مما أخبرَه الله أنه يدخل الجنَّةَ على بلوى تصيبُه ، وكانتْ هذه البلوى في نهايةِ خلافةِ عثمانَ رضيَ الله عنه وأرضاه ،

حيثُ مَلَّ كثيرٌ منَ العربِ خلافةَ قريش واستثقلوها ، وطمعَ آخرون في دينِ الله وتباركَ وتعالى ، حيث إنهم عجزوا على أنْ يواجهوه بالسَّيفِ وجهاً لوجهٍ فصاروا يدَّعون دخولَهم في الإسلام ثم يُفسدون مِنْ داخلهِ بدعوى أنهم مسلمون ، فخرجَ جماعةٌ منَ الأوباش مِنَ الكوفةِ والبصرةِ ومصرَ وجاؤوا إلى المدينةِ يُظهرون أنهم يُريدون الحجَّ وكانَ عثمانُ قد أمَّر على الحجِّ في تلك السَّنةِ عبدَ الله بنَ العبَّاس فجاءَ هؤلاء يُظهرون أنهم يريدون الحجَّ وهم لا يردون الحجَّ ولكن يريدون البطشَ بخليفةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، وكانوا منْ فرسانِ قبائلِهم ، وكانوا قريباً منْ سِتَّةِ آلاف ، فدخلوا المدينةَ ثم فجأةً حاصروا بيتَ عثمانَ ومنعوه منَ الخروج إلى الصَّلاةِ إلا أنْ تعتزلَ وإمَّا أنْ نقتلَك ، ولم يكنْ عددِ الصَّحابةِ يماثلُهم، ولذلك لم يقاتلوهم لهذا السَّببِ ، والسَّبب الثَّاني والأعظم والأهمّ أنَّ عثمانَ هو الذي منعَ منْ ذلك .

بل لما جاءَه عبيدُ الله بنُ عدي بنِ الخِيار وقالَ له :إنَّ النَّاسَ الآن يصلِّي بهم إمامُ فتنةٍ فماذا نفعلُ ؟! لأنهم منعوا عثمانَ منَ الخروج حتى إلى الصَّلاة قالَ :صلُّوا خلفَهم . يقولُ عثمانُ :واعلموا أنَّ الصَّلاةَ خيرُ أعمالِكم ، إنْ أحسنوا فلكم وإنْ أساؤوا فعليهم . وأمرَهم ألَّا يفرِّقوا كلمةَ المسلمين .

فجاءَه زيدُ بنُ ثابت وقالَ له : يا أميرَ المؤمنين ، هذه الأنصارُ بالبابِ سبع مئة سيف ، يقولون إنْ شئتَ صِرْنا أنصارَ الله مرَّتين . يعني كما كنَّا أنصارَ الله مع رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم نكونُ أنصارَ الله معكَ . فقالَ عثمانُ :لا، بل يغمدُ كلُّ واحدٍ منكم سيفه ، فلئنْ أموت أنا ولا يموت جماعة منَ المسلمين . فامتنعَ رضيَ الله عنه . وقالَ لعبيدهِ وخدمهِ : كلُّ مَنْ شَمَّ سيفَه - أي أغمدَه - فهو حُرٌّ لوجهِ الله .

فجاءَه عبد الله بن عمر وأبو هريرة ومروان والحسن بن عليّ وعبد الله بن الزبير ومحمَّد بن طلحة السَّجَّاد ؛ فدخلوا عليه البيتَ ، وشهرَ كلُّ واحدٍ منهم سيفَه وقالوا :والله لا نخرجُ منْ عندك حتى نموتَ قبلَك . فقالَ :بل يغمدُ كلُّ واحدٍ منكم سيفَه لما لي عليكم منْ طاعةٍ. وأبى عليهم ذلك رضيَ الله عنه وأرضاه ، وامتنعَ عن أنْ يقاتلوا في سبيلِ الدِّفاع عنه رضيَ الله عنه .

واستشارَ عبدَ الله بنَ عمرَ في أمرٍ فقالَ له يا عبدَ الله :انظرْ إلى هؤلاء ما يقولون ؟!

يقولون اخلعْ نفسَك مِنْ هذه الخلافةِ ، فماذا ترى ؟ فقالَ ابنُ عمرَ :إنْ خلعتَها أمخلَّدٌ أنتَ في الدُّنيا ؟ قالَ : لا ، قالَ : فماذا يزيدون على قتلِك ؟؟ أكثر شيءٍ ممكن يفعلونه قتلك ، ماذا يزيدون على هذا ؟ هل يزيدون على قتلك شيئاً ؟ قالَ :لا . قالَ : فلا تفعلْ، لا تخلعْ قميصاً قمَّصكه الله تباركَ وتعالى - وهي قضيَّة الخلافة - فأخشى أنه كلَّما كرهَ قومٌ إمامَهم خلعوه أو قتلوه فتكون سُنَّة ، فلا تفعلْ . فقالَ له عثمانُ :ثبَّتك الله كما ثبَّتني . وامتنعَ منْ ذلك رضيَ الله عنه وأرضاه .

وجاءتْ صفيَّةُ أمُّ المؤمنين على جملٍ لها لأنهم منعوا الماءَ عن عثمانَ ، فجاءتْ على جملٍ لها ومعها الماءُ تريدُ أنْ تدخلَ على عثمانَ لتُعطيَه الماءَ فأسقطوها منْ جملِها وهي أمُّ المؤمنين رضيَ الله عنها وأرضاها ! حتى قالتْ :فضحني الكلبُ . تعني الذي أسقطَها رضيَ الله عنها وأرضاها ، ثم عادتْ إلى بيتها . وكانَ صائماً في ذلك اليوم ، ثم تسوَّروا عليه البيتَ وقتلوه وهو يقرأ كتابَ الله تباركَ وتعالى . حتى قالتْ عَمْرَةُ بنتُ عبدِ الرحمن بإخبارِ مَنْ أخبرَها ممنْ حضرَ عثمانَ يومَ قُتِلَ رضيَ الله عنه وأرضاه : إنه سقطتْ نقطةُ دمٍ لما فتحوا المصحفَ الذي كانَ يقرأ فيه على " فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ  "[ سورة البقرة: 137] ، ووالله كفاه الله أولئك القوم . حتى قالَ قائلُهم عبدُ الملك بنُ عمير : والله ما ماتَ منهم رجلٌ سَوِيّاً . حتى قالَ ابنُ سيرين : كنتُ أطوفُ في البيت ، وكانَ رجلٌ يطوفُ بجانبي في البيت، فسمعتُه، وهو يقولُ : ربي اغفرْ لي ، ولا أظنُّك تفعلُ . فقالَ له ابنُ سيرين : ما سمعتُ أحداً يدعو بمثلِ دعائك، ربي اغفر لي وما أظنُّك تفعلُ ! قالَ : نعم . قالَ : لمَ ؟ قالَ : أوَ تدري ما صنعتُ ؟ قالَ : وما صنعتَ ؟ قالَ : كنتُ قد عاهدتُ الله لئن لقيتُ عثمانَ لأصفعنَّه .

مِنْ كَثْرَةِ ما أشيعَ عندهم منْ أمورٍ مكذوبةٍ على عثمانَ رضيَ الله عنه البعضُ كرهَ عثمانَ لهذه الإشاعاتِ التي انتشرتْ عندَهم ، فآلَ على نفسهِ إنْ لقيَ عثمانَ ليصفعنَّه ، لكنْ قُتِلَ عثمانُ قبل أنْ يصفعَه . فيقولُ : فدخلتُ البيتَ أظهِرُ أنني أريدُ الصَّلاةَ عليه ، فلما نظرتُ فإذا ليسَ أحدٌ في البيتِ ، فكشفتُ عنه وصفعتُه وهو ميتٌ . يقولُ : فيبستْ يدي . يقولُ ابنُ سيرين : فأخرجَها لي فكأنها خشبةٌ يابسةٌ . عقابٌ مباشرٌ مِنَ الله تباركَ وتعالى يقولُ الرَّجلُ : ربي اغفرْ لي وما أظنُّك تفعلُ ! لأنه رأى العقوبةَ مِنَ الله تباركَ وتعالى مباشرةً له .

قتلَ عثمانَ رضيَ الله عنه مجموعةٌ مِنَ الأوباشِ ، ولم يشاركْ في قتلهِ أحدٌ مِنْ أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، ومَنْ قالَ غيرَ ذلك فقولُه باطلٌ . ولذلك كانَ عليٌّ رضيَ الله عنه يقولُ :اللَّهمَّ العنْ قتلَةَ عثمانَ في البرِّ والبحرِ والسَّهلِ والجبلِ . وهكذا كانَ يقولُ أصحابُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وهكذا نحن نقولُ اليوم " اللَّهمَّ العنْ قتلَةَ عثمانَ في البرِّ والبحرِ والسَّهلِ والجبلِ " . ولم يكنْ فيهم أحدٌ مِنْ أصحابِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وأمَّا الدَّعوةُ بأنَّ عمَّارَ بنَ ياسر أو عبدَ الله بنَ مسعود أو محمَّد بنَ أبي بكر شاركوا في القتلِ فكلُّه كذبٌ لم يثبتْ أبداً ، لم يثبتْ أبداً أنَّ أحداً منْ أصحابِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم شاركَ في قتلِ عثمانَ رضيَ الله عنه .

وقد رُثِيَ أميرُ المؤمنين عثمانُ رضيَ الله عنه وأرضاه، رثاه كعبُ بنُ مالك فقالَ :

فكَفَّ يديهِ ثم أغلقَ بابَه

وأيقنَ أنَّ الله ليسَ بغافلِ

وقالَ لأهلِ الدَّارِ لا تقتلوهمُ

عفا الله عن كلِّ امرئٍ لم يقاتلِ

فكيفَ رأيتَ الله صَبَّ عليهمُ

العداوةَ والبغضاءَ بعد التَّواصُلِ

وكيفَ رأيتَ الخيرَ أدبرَ بعدَه

عن النَّاسِ إدبارَ النَّعَامِ الجوافلِ

ورثاه آخر فقالَ ، وهو حسَّان بنُ ثابت :

مَنْ سَرَّهُ الموتُ صِرْفاً لا مِزَاجَ له

فليأتِ مأدبةً في دارِ عثمانَ

ضَحَّوا بأشمطَ عنوان السُّجودِ به

يقطع اللَّيلَ تسبيحاً وقرآنا

صبراً فدىً لكم أمِّي وما ولدتْ

قد ينفع الصَّبرُ في المكروهِ أحيانا

لتسمَعَنَّ وشيكاً في ديارِهمُ

الله أكبر يا ثاراثِ عثمانَ

وفعلاً بعد مقتلِ عثمانَ لم تهنأ الأمَّةُ بنومٍ أبداً، بدأ الشَّرُّ في هذه الأمَّةِ بعد مقتلِ عثمان رضيَ الله عنه وأرضاه ، وحشرَنا وإياكم معه والله أعلى وأعلم ، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمَّد .

 

مقالات ذات صلة :