• 7 نيسان 2017
  • 5,234

سلسلة من نحب - الصالحين – (2) سيدنا الإمام مسلم رضي الله عنه :

فصل – الإمام مسلم :

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله أما بعد.

فحديثنا في هذه الليلة عن الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري وكتابه "الصحيح"، وذلك أن الله تبارك وتعالى قد تعهد بحفظ هذا الدين العظيم، ومن حفظه لهذا الدين أن حفظ على الأمة كتابها، وهو القرءان الكريم، وحفظ لها كذلك سُنَّة نبيه محمد ﷺ، فهيأ الله تبارك وتعالى لحفظ كتابه رجالاً نقلوه متواتراً بكل حروفه، وهيأ الله تبارك وتعالى لحفظ سُنَّة نبيه أيضاً هيأ لذلك رجالاً قاموا بحفظ هذه السنة. ومن هؤلاء الرجال الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري صاحب "الصحيح"، وذلك أنه اشتهر في هذه الأمة صحيحان: "صحيح البخاري"، و"صحيح مسلم".

 

فصل – نشأته :

وُلِدَ الإمام مسلم بن الحجاج في القرن الثالث الهجري في القرن المُفَضَّل كما قلنا القرون المُفَضَّلة الثلاثة التي قال فيها النبي ﷺ: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، وُلد سنة أربعٍ ومائتين من الهجرة وتميز الإمام مسلم عن أقرانه بخاصية ألا وهي كثرة الرحلة في طلب الحديث، رحل غيره من العلماء كما ذكرنا عن البخاري وأحمد وكما سنذكر عن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وكما هي حالة كثير من أهل العلم في ذلك الزمان، كالطبراني، والحاكم، والدارقطني، وابن خزيمة، وابن حبان، وغيرهم من أهل العلم رحلوا كثيراً في طلب العلم. ولكن تميز مسلم - رحمه الله تبارك وتعالى - على أقرانه بكثرة الرحلة، أكثر من الرحلة ولذلك كثير من البلاد طرقها مرات كثيرة رحل إليها أكثر من مرة.

فمن البلاد التي رحل إليها مسلم: مكة، والمدينة، ورحل كذلك إلى الشام بكل مدنها تقريباً التي عرفت بالعلم، ورحل كذلك إلى مصر، ورحل للعراق بكل مدنها بغداد والكوفة والبصرة ورحل إلى الري وإلى مرو وإلى غيرها من بلاد المسلمين. كل ذلك في طلب العلم في طلب حديث النبي ﷺ.

ولذلك كثر شيوخه ومن أشهر الشيوخ الذين أخذ عنهم الإمام مسلم - رحمه الله تعالى - البخاري، ولازمه في آخر أيامه كثيراً، وكذلك أخذ العلم عن محمد بن يحيى الذهلي، وأخذ عن سعيد بن منصور، وأبي بكر بن أبي شيبة، وابن نمير، وابن رمح، وكذلك أخذ عن أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، وغيرهم من أهل العلم.

وكانت له خصوصية للإمام البخاري - رحمه الله تعالى -، وكان يعظِّم البخاري جداً، ولذلك ذكروا عنه أنه كان إذا جاء يسأله عن حديث، فكان يقول له: "يا أستاذ الأستاذين، و يا سيد المحدِّثين، و يا طبيب الحديث في علله"، ثم يسأله، وأحياناً كان يأتيه فيقبل بين عينيه، ويقول له: "دعني أقبل قدميك"، يقول هذا لشيخه البخاري - رحمه الله تعالى -.

بل إن الإمام مسلم - رحمه الله تبارك وتعالى - كان في يوم عند شيخه محمد بن يحيى الذهلي الإمام المعروف، شيخ البخاري أيضاً، وشيخ مسلم، وقرين أحمد، وتلميذه. محمد بن يحيى الذهلي كان يوماً في مجلسه وكان قد أشيع عنده أن البخاري - رحمه الله تعالى - قال باللفظ أي إن لفظه بالقرآن مخلوق، وهذا كُذِب فيه على البخاري - رحمه الله تعالى -، فلما بلغ الأمر محمد بن يحيى الذهلي - رحمه الله تعالى - أمر باعتزال البخاري وأنه لا يأتيه أحد، فاعتزله الناس، وذلك أن محمد بن يحيى الذهلي كان في بلاده أعظم قدراً من البخاري - رحمه الله تعالى ورحم محمد بن يحيى - فأمر باعتزال البخاري، وفي يوم من الأيام قال محمد بن يحيى - رحمه الله تعالى - عن البخاري قال: "من كان يتردد على البخاري فلا يحضر مجلسنا"، وكان مسلم حاضراً فقام أمام الناس وخرج، ثم لما وصل إلى بيته جمع جميع الحديث الذي حدَّثَ به عن محمد بن يحيى الذهلي ثم أرسله إليه يقول له: لا أريد حديثك، أريد البخاري، لا أريدك أنت.

مع أن هذا ليس بلازم، البخاري ذاته - رحمه الله تعالى - حدَّث عن محمد بن يحيى الذهلي تلميذه مسلم تعصَّب له أكثر من تعصُّب البخاري - رحمه الله تعالى ورحم الجميع -، فرد عليه جميع حديثه انتصاراً لشيخه البخاري - رحمه الله تعالى -، حتى قال الدارقطني مقولته في عناية البخاري بتلميذه مسلم، واعتناء مسلم بشيخه البخاري، قال الدارقطني: "لولا البخاري لَمَا راح مسلم ولا جاء"، يعني أن مسلم إنما حصَّل هذا العلم وهذا الخير عن طريق شيخه البخاري - رحم الله الجميع -.

قال أحمد بن سلمة عن الإمام مسلم - رحمه الله تعالى - "أرأيت أبا زرعة وأبا حاتم الرازيين يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح علي مشايخ عصرهما"، وقال ابن الأخرم: "إنما أخرجت نيسابور ثلاثة رجال محمد بن يحيى الذهلي، وإبراهيم بن أبي طالب، ومسلم بن الحجاج"، هؤلاء هم الذين تفخر بهم نيسابور، وترى أنها قد أخرجتهم للناس.

له مؤلفات غير "الصحيح" وهو أشهرها "الصحيح" أشهرها، ولكن جل كتبه الإمام مسلم هي في علم الرجال، فله كتاب "التمييز"، وله كتاب "الكنى"، و"الأسماء"، فهو اعتنى بعلم الرجال أكثر من غيره من العلوم، وله "العلل".

كان مسلم - رحمه الله تعالى - صاحب تجارة، وصاحب أموال طائلة، كان غنياً ميسراً، ولكنه كان محسناً مع هذا، واشتهر مسلم بلقب "محسن نيسابور"، على هذا الأمر أي ما اشتغل به من علم الحديث إلا إنه كذلك لم ينس الفقراء من ماله الذي رزقه الله إياه، وكانت له عناية شديدة بعلم الحديث، ويحب الحديث جداً، حتى إنهم قالوا: "إنما مات بسبب علم الحديث"، وذلك أنه حضر مجلساً يوماً فذُكِرَ حديث لم يعرفه مسلم، وعادة العلماء هكذا في بعض المجالس يغلب بعضهم على بعض، يعني يذكروا حديثاً غريباً فيستغربه الآخر من أين سمعته؟ من كذا؟ فمسلم لما سمع هذا الحديث قال: "كأني مر عليّ هذا الحديث"، فرجع إلى بيته يقلب في كتبه، وفي السابق الكتب كلها مخطوطة وكثيرة عند مسلم فصار يقلب في كتبه يبحث عن هذا الحديث فلما دخل البيت يريد البحث عن الحديث قالوا له: أهديت لنا سلة تمر، فقال: أعطوني إياها، فأخذ السلة ودخل، قال: لا يدخل عليّ أحد، وأضاء السراج وبدأ يبحث عن الحديث والتمر بجانبه يأكل تمر ويبحث، يأكل تمر ويبحث، حتى قضى على السلة كلها، ووجد الحديث، قالوا: ومات بسبب هذا التمر، الذي أكله، أكل تمراً كثيراً، يقولون يعني إنه أثرده، وقف على ثرده يكون، فيقولون يعني، هذا كان سبب موته فالله أعلم.

 

فصل – صحيح مسلم وترتيبه :

أخرج الإمام مسلم كتاباً عظيماً وهو "الصحيح" صحيح الإمام مسلم، هذا الكتاب العظيم ألفه مسلم وجمعه خلال خمس عشرة سنة، وهو يجمع في هذا الكتاب وينظمه ويؤلفه، عرضه على أبي زرعة الرازي، وعلى غيره من علماء عصره كأبي حاتم، ومحمد بن مسلم بن وارة، وكل حديث قالوا له "أعرض عنه"، أعرض عنه، حتى أخرجه بهذه الصورة التي نراها.

رتبه على الكتب ولم يبوبه الإمام مسلم كما صنع البخاري، البخاري بوَّب كتابه كما قلنا، يأتي للكتاب كتاب الصلاة: باب مواقيت الصلاة، باب صلاة الجمعة، باب الاغتسال للصلاة، باب الوضوء لكل صلاة، باب مبطلات الصلاة، باب الحديث في الصلاة وهكذا يبوب أبواباً باب وضع اليدين وهكذا، مسلم لم يبوِّب أبواباً أبداً. وإنما كتاب الصلاة وسرد كل الأحاديث التي تخص الصلاة في هذا الكتاب، ولكنه رتبها: أحاديث المواقيت، أحاديث صفة الصلاة، أحاديث المكروهات، أحاديث المبطلات، أحاديث صلاة الجمعة، أحاديث صلاة الكسوف، وهكذا. رتبها ولكن لم يبوب أبواباً وإنما رتبها فقط، فجاء من بعده من شُرَّاح صحيح مسلم فبوبوا هذه الأبواب، جعلوا هذه الأبواب، فهذه الأبواب ليست من صنيع مسلم التي نجدها في صحيح مسلم، وإنما هي من صنيع الشُرَّاح فبعضهم قال إنما وضع هذه الأبواب القاضي عياض، وبعضهم يرى أن الذي وضع هذه الأبواب هو الإمام النووي والعلم عند الله تبارك وتعالى ولكن الأشهر والأكثر على أن النووي - رحمه الله تبارك وتعالى - وهو أشهر من شرح صحيح مسلم هو الذي وضع هذه الأبواب.

شُرِح "صحيح مسلم" واعتنى به العلماء كثيراً ومن أهم هذه الشروح الموجودة الآن هو: "المُفهِم" للقرطبي أبي العباس، و"المنهاج" وهو شرح النووي على مسلم، و"إكمال المُعْلم"، و"إكمال الإكمال"، وغيرها من الشروح التي اعتنى بها أهل العلم بصحيح الإمام مسلم.

 

فصل - عدد أحاديثه :

المشهور عند أهل العلم أنها أربعة آلاف، وبعضهم يقول عدَّها محمد فؤاد عبد الباقي - رحمه الله تعالى - فقال: هي ثلاثة آلاف وثلاثون حديثاً، وقلنا هذا الاختلاف كما قلنا في "صحيح البخاري" إنه في التكرار يختلفون في المكرر هل هذا يعتبر مكرر أو غير مكرر، وإلا بالمكرر فتقريباً كلمتهم واحدة وهي أن عدد أحاديث "صحيح مسلم" مع المكرر اثنا عشر ألف حديث مع المكرر. وأما بدون المكرر فهي أربعة آلاف أو ثلاثة آلاف وثلاثون حديثاً كما ذكر محمد فؤاد عبد الباقي - رحمه الله تبارك وتعالى -.

قال الإمام السمعاني عن الإمام مسلم وصحيحه قال: "هو أحد أئمة الدنيا المشهور كتابه الصحيح في الشرق والغرب ومن أكبر الدلائل على جلالته وإمامته وحذقه وتفننه كتابه الصحيح الذي لم يوجد كتابٌ قبله ولا بعده من حسن الترتيب وتلخيص فريق الحديث بغير زيادة ولا نقصان"، ويقول حافظ بن حجر - رحمه الله تعالى -: "حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله بحيث إن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - وذلك لما اختص به مسلم من جمع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ  كما هي من غير تقطيع، فصحيح الإمام مسلم" إذاً هناك من فضله على "صحيح البخاري"، وقدَّمه عليه، وهناك وهم الأكثر من قدَّم "صحيح البخاري"، والأشهر عند علماء المغرب أنهم كانوا يقدمون "صحيح مسلم" على غيره، على البخاري، وجمهور علماء المشرق وكثير أيضاً من علماء المغرب كانوا يقدمون "صحيح البخاري" وهو الصحيح.

 

إذاً لم يقل أهل العلم إن "صحيح البخاري" صحيح لمجرد أن البخاري قال ذلك، ولم يقولوا أن "صحيح مسلم" صحيح لأن مجرد أن مسلم قال صحيح أبداً وإنما بعد البحث والتنقيب قالوا للبخاري: أصبت، وقالوا لمسلم: أصبت .

توفي الإمام مسلم سنة إحدى وستين ومائتين من الهجرة. والله أعلى وأعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

 

 

مقالات ذات صلة :