• 7 نيسان 2017
  • 4,137

سلسلة من نحب - الله تعالى – (2) الرّحمن، الرّحيم :

وهما اسمان جليلان كثر ورودهما في القرآن الكريم، قال تعالى: {الرَّحمـنُ عَلَى العَرشِ استَوى} [طه: 5]، وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَـنُ} [الفرقان: 59]، وقال: {إِنّي أَخافُ أَن يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحمـنِ} [مريم: 45]، وقال: {رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَـنِ} [النبأ: 37]، وقال: {الرَّحْمَـنُ ﴿١﴾ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 1-2].

وغالب مجيء اسمه "الرّحيم" إما مقيداً كقوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]، أو مقروناً باسم "الرحمن" كما في سورة الفاتحة والبسملة، أو باسم آخر نحو: {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 9] و{الغَفورُ الرَّحيمُ} [الحجر: 49] و {الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28] و {التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37].

ولهذين الاسمين شأنٌ كبير ومكانة عظيمة؛ فهما الاسمان اللّذان افتتح الله بهما أمَّ القرآن، وجعلهما عنوان ما أنزله من الهدى والبيان، وضمنهما الكلمة التي لا يثبت لها شيطان، وافتتح بها كتباه نبيُّ الله سليمان عليه السلام، وكان جبريل ينزلُ بها على النبيِّ ﷺ عند افتتاح كلِّ سورةٍ من القرآن.

وقد ورد هذان الاسمان مقترنين في عدّة مواضعَ من القرآن، وكلٌّ منهما دالٌّ على ثبوت الرحمة صفةً لله عز وجلّ، إلَّا أنَّ اقتران هذين الاسمين فيه دلالةٌ على ثبوت هذا الوصف وحصول أثره وتعلُّقه بمتعلَّقاته؛ فالرحمن أي: الذي الرحمة وصفُه، والرحيم أي: الراحم لعباده، ولهذا يقول تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]، {إِنَّهُ بِهِم رَءوفٌ رَحيمٌ} [التوبة: 117]، ولم يجىء (رحمن بعباده) ولا (رحمن بالمؤمنين).

والرحمن جاء على وزن (فعلان) الدال على الصفة الثابتة اللازمة الكاملة، أي: من صفته الرحمة، والرحيم دالٌّ على تعديها للمرحوم، أي: من يرحم بالفعل.

إنَّ في هذين الاسمين دلالة على كمال الرحمة التي هي صفة الله وسعتها، فجميع ما في العالم العلوي والسفلي من حصول المنافع والمحابِّ والمسارِّ والخيرات من آثار رحمته، كما أنَّ ما صرف عنهم من المكاره والنِّقم والمخاوف والأخطار والمضارّ من آثار رحمته؛ فإنه لا يأتي بالحسنات إلَّا هو، ولا يدفع السيئات إلَّا هو، وهو أرحم الراحمين.

ورحمته تعالى سبقت غضبَه، وغلبتْه، وظهرت في خلقه ظهوراً لا ينكر، حتى ملأت أقطار السماوات والأرض، وامتلأت منها القلوب حتى حنت المخلوقات بعضها على بعض بهذه الرحمة التي نشرها عليهم وأودعها في قلوبهم، وحتى حنّت البهائم التي لا ترجو نفعاً ولا عاقبة ولا جزاءً على أولادها، وشوهد من رأفتها بهم وشفقتها العظيمة ما يشهد بعناية باريها ورحمته الواسعة، وكذلك ظهرت رحمته في أمره وشرعه ظهورا تشهده البصائر والأبصار، ويعترف به أولو الألباب، فشرعه نورٌ ورحمة وهداية، وقد شرعه محتوياً على الرحمة، وموصلاً إلى أجلّ رحمة وكرامة وسعادة وفلاح. شرَع فيه من التسهيلات والتيسيرات ونفي الحرج والمشقَّات ما يدلُّ أكبر دلالة على سعة رحمته وجوده وكرمه، ومناهيه كلُّها رحمة؛ لأنها لحفظ أديان العباد، وحفظ عقولهم وأعراضهم وأبدانهم وأخلاقهم وأموالهم من الشرور والأضرار(1).

ويوم القيامة يختص سبحانه بالرّحمة والفضل والإحسان المؤمنين به وبرسله، ويكرمهم بالصفح والعفو والغفران ما لا تعبر عنه الألسنة ولا تتصوره الأفكار، ففي الحديث "إنّ لله مائةَ رحمة أنزل منها رحمةً واحدة بين الجنّ والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها. وأخَّر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة" متفق عليه(2).

ففي رحمة لا يعبر عنها لسان، يمنُّ بها أرحم الرّاحمين، ويتفضل بها من وسعت رحمته كل شيء على عباده المؤمنين {وَرَحمَتي وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ فَسَأَكتُبُها لِلَّذينَ يَتَّقونَ وَيُؤتونَ الزَّكاةَ وَالَّذينَ هُم بِآياتِنا يُؤمِنونَ} [الأعراف: 156].

والعبد كلما عظمت طاعته وزاد قربه وتقربه لربه عظم نصيبه من استحقاق هذه الرحمة، قال تعالى: {وَهـذا كِتابٌ أَنزَلناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعوهُ وَاتَّقوا لَعَلَّكُم تُرحَمونَ} [الأنعام: 155]، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56]، وقال تعالى: {إِنَّ رَحمَتَ اللَّـهِ قَريبٌ مِنَ المُحسِنينَ} [الأعراف: 56]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

(1) انظر: "فتح الرحيم الملك العلام" لابن السعدي (ص/ 29-30).

عنه.

والله عزّ وجلّ أرحم بعباده منهم بعضهم ببعض مهما علا قدر الرحمة والتراحم بينهم، ففي "الصّحيحين"(1) عن عمر بن الخطاب  أنه قال: "قدم على رسول الله ﷺ بسبيٍ، فإذا امرأةٌ مِنَ السَّبْيِ تبتغي(2) إذا وَجَدتْ صبيّاً في السبي أخدتهُ فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله ﷺ: "أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟ قالنا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله ﷺ: للهُ أرحم بعباده من هذه بولدها".

فأرحم ما يكون من الخلق بالخلق رحمة الأم بولدها، فهي رحمةٌ لا يساويها شيء من رحمة الناس، والله جل وعلا أرحم بعباده منها بولدها، بل لو جمعت رحماتِ الرّاحمين كلِّهم فليست بشيءٍ عند رحمة أرحم الراحمين.

وينبغي أن يعلم هنا أن الرحمة المضافة إلى الله نوعان: رحمة عامة، وهي التي قرنها بالعلم في قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، فكل شيء وصله علمُه وهو واصل لكل شيء فإن رحمته وصلت إليه؛ لأن الله قرن هذه الرحمة به، وهي الرحمة التي تشمل جميع المخلوقات حتى الكفَّار، وهي رحمة جسدية بدنية دنيوية بالطعام والشراب واللباس والمسكن ونحو ذلك، ورحمة خاصة، وهي التي خص بها عباده المؤمنين، وهي رحمةٌ إيمانيةٌ دينيَّة دنيوية أخرويَّة بالتوفيق للطاعة، والتيسير للخير، والتثبيت على الإيمان والهداية على الصراط، والإكرام بدخول الجنة والنجاة من النار.

والله المسؤول أن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين، وأن يمنَّ علينا برحمته التي كتبها لأوليائه المؤمنين، إنه سبحانه جواد كريم، وهو أرحم الرّاحمين.

****

مسلم" (17 / 70).

وفي "صحيح البخاري": "تسقي" وفي بعض رواياته "تسعى" أي: من السّعي. قال القرطبي: "لا خفاء بحسن

رواية "تسعى" ووضوحها، ولكن لرواية "تبتغي" وجهاً، وهو تطلب ولدَها، وحذف المفعول للعلم به، فلا

يغلَّط الرّاوي مع هذا التوجيه". انظر: "فتح الباري" (10/430).

 (2) "صحيح البخاري" (رقم: 6104)، و"صحيح مسلم" (رقم: 2752) - واللفظ له - عن أبي هريرة رضي الله

(1) "صحيح البخاريّ" (رقم: 5999)، و"صحيح مسلم" (رقم: 2754) - واللفظ له -.

(2) قال النووي: "هكذا هو في جميع نسخ "صحيح مسلم": "تبتغي" من الابتغاء وهو الطّلب". "شرح صحيح

 

مقالات ذات صلة :