• 7 نيسان 2017
  • 6,148

سلسلة من نحب - الصالحين - (1) سيدنا الإمام البخاري رضي الله عنه :

فصل - الكتب الستة :

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله الطيبين أما بعد.

عندما يذكر أهل العلم الكتب الستة فإنهم يعنون بها صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وجامع الترمذي، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه.

هذه تسمى الكتب الستة فعندما يقول أهل العلم مثلاً رواه الستة أو أخرجه الستة أو ذكره الستة يريدون هؤلاء، وهذه الكتب حازت علي عناية عظيمة من أهل العلم، اعتنى بها أهل العلم كثيراً أكثر من غيرها من الكتب، وهذا الإمام المذي أبو الحجاج يوسف المذي - رحمه الله تبارك وتعالى - وهو من الذين اهتموا كثيراً بالكتب الستة في كتابيه العظيمين: (تهذيب الكمال)، و(تحفة الأشراف).

قال المذي عن هذه الكتب يقول: بعد أن ذكر حفظ الله تبارك وتعالى للكتاب العزيز، قال: "أما السنة فإن الله تعالى وفق لها حفاظا عارفين، وجهابذة عالمين، وصيارفةً ناقدين، ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، و تأويل الجاهلين، فتنوعوا في تصنيفها وتفننوا في تدوينها، على أنحاء كثيرة ودروب عديدة حرصاً علي حفظها وخوفاً من إضاعتها وكان من أحسنها تصنيفاً وأجودها تأليفاً وأكثرها صواباً وأقلها خطأ وأعمها نفعا وأعودها فائدة وأعظمها بركة وأيسرها مؤونة وأحسنها قبولاً عند الموافق والمخالف وأجلِّها موقعا عند الخاصة والعامة صحيح أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ثم صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، ثم بعدهما كتاب السنن لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ثم كتاب الجامعي لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، ثم كتاب السنن لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ثم كتاب السنن لأبي عبد الله محمد بن يزيد المعروف بابن ماجه القزويني وإن لم يبلغ درجتهم، ولكل واحد من هذه الكتب الستة مزية يعرفها أهل هذا الشأن؛ فاشتهرت هذه الكتب بين الأنام، وانتشرت في بلاد الإسلام، وعظُم الانتفاع بها وحرص طلاب العلم على تحصيلها، وصنفت فيها تصانيف وعلقت عليها تعاليق بعضها في معرفة ما اشتملت عليه من المتون، وبعضها في معرفة ما احتوت عليه من الأسانيد وبعضها في مجموع ذلك".

 

فصل – البخاري :

هذه كلمات ذكرها أبو الحجاج المذي - رحمه الله تبارك وتعالى - عن هذه الكتب الستة. ونبدأ بأهم هذه الكتب بل أهم كتاب عند المسلمين بعد كتاب الله تبارك وتعالى ونبدأ بمؤلف هذا الكتاب وهو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري الجعفي مولاهم - رحمه الله تبارك وتعالى -. وُلِدَ البخاري في القرن الثاني الهجري سنة أربعٍ وتسعين بعد المائة، ذكر من ترجم البخاري أنه أصيب في بصره وهو صغير، عَمِىَ وهو صغير، فكانت أمه تكثر من الدعاء له أن يشافيه الله تبارك وتعالى ويعافيه.

وفي ليلة من الليالي نامت أمه فرأت رؤيا، ما هذه الرؤيا؟ رأت نبي الله إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه. من أنت؟ قال: "أنا إبراهيم الخليل جئت أبشرك بأن الله تبارك وتعالى رد بصر ابنك إليه وذلك لكثرة دعائك" فاستيقظت من نومها وأيقظت ولدها فإذا هو يراها.

ذكر هذه القصة عن البخاري وذلك في صغره، يعني عَمِي وهو صغير وشُفي وهو صغير، وحُبِّب إليه طلب العلم وهو صغير وذكر من ترجم له بل هو ذكر عن نفسه - رحمه الله تعالى - أنه حضر يوماً درساً عند الذهلي محمد بن يحيى الإمام، حضر عنده درساً ذكر الذهلي حديثاً عن سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم النخعي فقام البخاري وقال له: "إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم النخعي". قال البخاري: فانتهرني، كيف تتكلم هكذا؟ أنت مَن؟ كم عمر البخاري؟ إحدى عشرة سنة في ذلك الوقت. يقول: فانتهرني، وقال لي: "ماذا تقول؟" قال: "كما أقول لك أبو الزبير لم يرو عن إبراهيم النخعي وارجع إلى أصلك حتى تتأكد"، فارجع إلى الأصل، إلى الكتاب، كتابك الذي أخذت هذا الحديث منه، قال: "اصبر"، فدخل بيته ثم خرج، فقال له: "هو كما قلت. ولكن من هو إذاً"؟ قال: "إنما هو سفيان عن الزبير بن عدي عن إبراهيم النخعي وليس أبو الزبير وإنما الزبير بن عدي أشكل عليك بين هذين الاسمين". فأخذ كتابه وأصلحه، وقال: "صدقت أيها الغلام" وهذا يوم كان له من العمر إحدى عشرة سنة - رحمه الله تبارك وتعالى -.

 

فصل – طلب البخاري للعلم :

بعد ذلك بدأ البخاري - رحمه الله تعالى - بالرحلة سنة مائتين وعشرة وهو وُلِد سنة أربع وتسعين ومائة؟ يعني كم عمره؟ ست عشرة سنة، بدأ بالرحلة، فرحل من بخارى إلى الحجاز حيث حجّ بيت الله تبارك وتعالى، ومرَّ على كثير من البلاد في طريقه، وسمع من شيوخها، ثم رحل إلى البصرة وإلى الكوفة وإلى بغداد وإلى الشام بجميعها أي إلى دمشق وفلسطين وعسقلان وحمص وغيرها رحل إليها وطلب العلم على شيوخها ومصر والمدينة وأكثر من الرحلة - رحمه الله تبارك وتعالى -، حتى إنه كتب عن ثمانين وألف شيخ، شيوخه الذين حدَّث عنهم ألف وثمانون شيخ، هؤلاء الذين طَلَبَ البخاري الحديث عندهم، ويقول عن هذه الأحاديث التي أخذها عن هؤلاء الشيوخ يقول: "ما من حديث حُدِّثت به إلا الآن أستحضر إسناده ومتنه".

فكان من الحفاظ النادرين الذين هيأهم الله تبارك وتعالى لجمع هذه السُّنَّة وحفظها، تخرَّج على كثير من العلماء كما قلنا، ومن أشهر شيوخه محمد بن يوسف الفربري وأكثر عنه البخاري - رحمه الله تبارك وتعالى -، وعبد الله بن الزبير الحميري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن رهاوي وعلي بن المديني وهذا كان أخصّ شيوخه به، علي بن المديني حتى قال البخاري: "ما استصغرت نفسي عند أحد كما استصغرت نفسي عند علي بن المديني" أي لعلم علي بن المديني، ولذلك استفاد البخاري كثيراً من علي بن المديني خاصةً في علم العلل وعلي بن المديني إمام لا يضارى ولا يجارى في علم العلل، علل الحديث، والبخاري أخذ هذا العلم عن شيخه.

أما تلاميذه فكُثُرٌ كذلك، ومن أشهر تلاميذه مسلم بن الحجاج صاحب "الصحيح" حتى قال بعضهم: "صحيح مسلم إنما هو مستخرج على صحيح البخاري" - يعني منه أخذ وعلى طريقته سار، وكذلك من تلاميذه محمد بن خزيمة الإمام أبو بكر بن خزيمة - رحمه الله تبارك وتعالى - وأبو زرعة، والترمذي، وهو من أشهر تلاميذه - أعني الترمذي - وأكثر كثيراً عن البخاري واستفاد من البخاري كثيراً حتى قيل: "إن كتاب العلل للترمذي إنما هو عبارة عن سؤالات يسألها البخاري ثم يدونها".

أثنى العلماء كثيراً على أبي عبد الله البخاري - رحمه الله تعالى - فهذا رجاء بن رجاء يقول: "هو آية من آيات الله تمشي على الأرض"، وقال يحيى البيكنزي: "لو قَدرتُ أن أزيد من عمري في عمر محمد بن إسماعيل لفعلت فإن موتي يكون موت رجل واحد وموت محمد بن إسماعيل فيه ذهاب العلم"، وقال الدارمي: "لقد رأيت العلماء بالحجاز والعراقين فما رأيت فيهم أجمع من محمد بن إسماعيل"، وقال الترمذي: "لم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الإسناد أعلم من محمد بن إسماعيل البخاري"، وقال أحمد بن حنبل: "ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل"، وقال ابن خزيمة: "ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله ﷺ ولا أحفظ له من البخاري". فرجل بهذه المنزلة يتكلم عنه أمثال هؤلاء الجهابذة بمثل هذا الكلام لا بد أن يُعتنى به ويُعتنى بكتابه.

 

فصل – شمائل البخاري :

له شمائل كثيرة وسنقتصر على بعضها لأن القصد هو التعريف وليس الإحاطة، مما ذكر عنه من شمائله أنه خرج يوماً ليبيع بضاعة عنده فجاء إلى السوق فعرضوا عليه خمسة آلاف في هذه البضاعة. فقال: "قليل" فلم يبعها ورجع بها إلى بيته. فلما رجع إلي البيت تفكر وقال: "أفي كل يوم أذهب إلي السوق وأضيع وقتي؟ سأذهب غداً وأبيعها بخمسة آلاف وأنتهِ، وينتهي الأمر"، وفعلاً من الغد ذهب إلى السوق ليبيعها بخمسة آلاف وينتهي فلما دخل السوق جاءه بعض التجار فعرضوا عليه عشرة آلاف في البضاعة. فقال: "عشرة آلاف هذا مرادي ولكنى نويت أن أبيعها بخمسة آلاف ولا أريد أن أغير نيتي" فباعها بخمسة آلاف ولم يغير نيته، فقط، لأجل ألا يغير النية، وصلى يوماً - رحمه الله تعالى - فلسعه الزنبور (بعوض)، لسعه فلم يتحرك، فلسعه فأكثر من لسعة ولم يتحرك في صلاته، فلما قضى صلاته نظر فإذا سبع عشرة لسعة ولم يتحرك، ولم يقل لها هكذا، تركها تلسع المهم أنى أصلي صلاتي التي أحب، واستمر في صلاته - رحمه الله تعالى -.

له مؤلفات كثيرة أشهرها "الصحيح"، وسنتكلم عليه بالتفصيل، وله التواريخ: "التاريخ الكبير" وهو من أعظم كتب التاريخ والعلل، وله كتاب "التاريخ الأوسط"، وله كتاب "التاريخ الصغير"، وله كذلك "الضعفاء والمتروكون"، و"الأدب المفرد"، و"الرد علي الجهمية"، و"القراءة خلف الإمام"، و"خلق أفعال العباد"، وغيرها من الكتب كثير.

كان من الحفاظ النادرين ذكر تقريباً كل من ترجم للإمام البخاري هذه القصة: وهو أنه عزم على السفر إلى بغداد، فلما سمع علماء بغداد بمجيئه أجمعوا على اختباره، وقد بلغهم منزلة البخاري من العلم، فقالوا: "نريد أن نرى علمه"، فقام عشرة من العلماء، وجمع كل واحد منهم عشرة أحاديث، وتعلمون أن الحديث مكون من سند ومتن، والسند هو سلسلة الرجال، كمالك عن نافع عن ابن عمر، أو البخاري عن إسحاق عن ابن المبارك عن ابن سيرين عن أبي هريرة مثلاً وهكذا، فهذا يسمى "سلسلة الإسناد"، ثم المتن وهو الحديث ذاته كقول أو فعل أو تقرير فقام كل واحد من هؤلاء العلماء وأخذ عشرة أحاديث وفرق الأسانيد عن المتن ثم خلط فجعل إسناد هذا الحديث لمتن حديث آخر، وإسناد هذا الحديث لمتن آخر وهكذا خلطوا الأحاديث إسناداً ومتنا.

ثم جاء البخاري واجتمع الناس، والبخاري كان وصل صيته إلي بغداد قبل قدومه حتى ذكر الخطيب البغدادي - رحمه الله تعالى - أن البخاري لما كان في بغداد كان يحضر درسه أكثر من عشرة آلاف، يحضرون درس البخاري، حتى إنه كان هناك مبلغون، لأن ما في مكبرات صوت فيتكلم، وفيه واحد متأخر يتكلم ينقل للذين بعده وهكذا، حتى يبلغ الناس كلهم، فلما دخل بغداد استقبلوه استقبالاً حافلاً ومن حسن الاستقبال هذا الاختبار مباشرة قبل الأكل وقبل الجلوس قالوا: "عندنا نريد أن نسألك في بعض الحديث" قال: "تفضلوا"، فجلس عشرة من العلماء، فقام أولهم فذكر له الإسناد ثم المتن، والمتن ليس لهذا الإسناد، وهكذا ذكر عشرة أحاديث، والبخاري جالس، هذا ذكر الحديث الأول البخاري قال: "لا أعرفه"، الثاني: "لا أعرفه"، الثالث: "لا أعرفه"، عدّ عشرة أحاديث والبخاري يقول: "لا أعرفه" ما أعرف هذا الحديث، جاء الثاني وكذلك البخاري لا يزيد على قوله: "لا أعرفه"، مائة حديث كلها يقول البخاري إيش؟ "لا أعرفه".

العلماء قالوا: "الرجل فَطِنَ"، عرف أنه فيه إيش؟ لأن الأحاديث هذه مشهورة، عرف إن إيش؟ أن الرجل فطن لهذا الأمر، عامة الناس: بس؟ هذا البخاري؟ سهل، أنا أقدر صير البخاري؟ اجلس، لا أعرفه، لا أعرفه، لا أعرفه، خلاص. ويتصدر المجالس، سهلة، ما توقعنا أن طلب العلم بهذه السهولة. فلما انتهى أولئك العلماء من طرح أحاديثهم بعد ذلك قال البخاري: "انتهيتم"؟ قالوا: "نعم"، فعاد إليه إلى الأول قال: "أما الأحاديث التي ذكرتها أما الحديث الأول فأنت ذكرت هذا الإسناد مع هذا، وهذا خطأ وإنما هذا الإسناد لذاك الحديث، وبدأ يرَجِّع المتون للأسانيد، وليس هذا هو العجيب لأنهم قالوا: لأنه قد يكون البخاري يحفظ هذه الأحاديث بأسانيدها وهذا كثير في ذلك الوقت يحفظون الحديث بإسناده، ليس هذا عليهم بغريب ولكن الغريب أنه حفظ الخطأ الذي أخطأوا به الآن، وهذا أصعب، يعني كل إنسان يحفظ الصح جيد لكن يحفظ الخطأ، هذا صعب، فحفظ الخطأ، ذكر له الأخطاء التي أخطأها ثم صححها، وذكر للثاني أخطاؤه ثم صححها، وبعد ذلك العلماء والعامة كلهم قالوا: "ابعد عن الكرسي هذا صاحبه"، خلاص عرفوا قدر هذا الإمام، أما العلماء فعرفوه ابتداء وأما العامة فعرفوه بعد ذلك.

 

فصل – وفاة الإمام البخاري :

توفي الإمام البخاري - رحمه الله تعالى - بعد حياة حافلة بالعلم وكان ذلك سنة ست وخمسين ومائتين من الهجرة، يعني في القرن الثالث الهجري، ست وخمسون وست سنوات كم يكون العدد؟ اثنان وستون سنة عمر الإمام البخاري - رحمه الله تعالى -.

 

فصل – صحيح البخاري :

نرجع الآن إلى الكلام عن صحيحه، مشهور عند الناس "صحيح الإمام البخاري"، واسمه الذي سماه به البخاري - رحمه الله تعالى - "الجامع الصحيح المسند المختصرمن أمور رسول الله ﷺ وسننه وأيامه"، ولكن اشتهر عند الناس ب "صحيح البخاري"، ومن نظر في هذا عَلِمَ أنه فعلا مختصر، وذلك أن البخاري ذكر أنه يحفظ أكثر من ستمائة ألف حديث، بينما الناظر في صحيحه يرى أنه لا يزيد عدد أحاديثه مع المكرر على سبعة آلاف وخمسمائة وستين حديثاً تقريباً مع المكرر، وقال بعضهم: "بدون المكرر أربعة آلاف"، وهو قول ابن الصلاح - رحمه الله تعالى - أنه أربعة آلاف بدون المكرر، بينما شارحه والمهتم به وهو الإمام حافظ بن حجر - رحمه الله تعالى - يقول: "بحسب تتبعي لهذا الكتاب المبارك تبين لي أن أحاديثه بدون المكرر لا تزيد على ألفين وستمائة حديث وحديثين"، يعني حديثان وستمائة وألفين، هذه جملة صحيح الإمام البخاري.

على خلاف بينهم طيب هذا الاختلاف هذا كبير. أربعة آلاف إلي ألفين وستمائة نقول هذا الاختلاف بسبب ماذا؟ هذا الاختلاف بسبب أن بعضهم يرى أن هذا تكرير وبعضهم يرى أنه ليس بتكرير، فيجعله حديثاً آخر. ولذلك بالمكرر لم يختلفوا كثيراً، اتفقوا تقريباً بالمكرر أنه سبعة آلاف وخمسمائة وشيء، يعني بالمكرر، لكن اختلفوا بغير المكرر لأن بعضهم يعتبر هذا الحديث يرى أن المتن قريب من هذا المتن فيقول هذا حديث واحد، وبعضهم يرى اختلافاً يسيراً فيجعله حديثين، وبعضهم قال هذا الحديث رواه أكثر من شخص فيجعله حديثين وبعضهم يجعله حديثاً واحداً، فهذا سبب اختلافهم في العدد لكن في الجملة هم متفقون على أن هذا الذي بين الجلدتين هو "صحيح البخاري" وإنما الخلاف في العدد كما قلنا.

قال البخاري عن هذا الكتاب: "ما أدخلت في الصحيح حديثاً حتى استخرت الله تبارك وتعالى وصليت ركعتين وتيقنت صحته وقد جعلته حجة بيني وبين الله تبارك وتعالى". هذا الكتاب يعني صحيح الإمام البخاري - رحمه الله تعالى -.

 

لماذا جمعه؟ لماذا ألفه؟ لماذا صنفه الإمام البخاري؟

قصتان ذكرتا، وذكرت ثالثة أشهر هذه القصص أن البخاري كان جالساً يوماً مع شيخه إسحاق بن راهوية - رحمه الله تعالى - فقال إسحاق لتلاميذه ومنهم البخاري: "لو جمع أحدكم حديث رسول الله ﷺ واقتصر على الصحيح فقط"، يقول البخاري: "فوقع ذلك في قلبي"، وفي قصة ثانية أن البخاري وقع ذلك في قلبه ابتداء، كان يحب أن يجمع الصحيح فقط، فلما تكلم إسحاق زاد ذلك من عزمه فجمع الصحيح. وذكروا قصة ثالثة وهي أن الإمام البخاري - رحمه الله تعالى - رأي رؤيا في المنام، رأي رسول الله ﷺ ، وهو جالس بين يدي الرسول ﷺ ومعه مهفة يهفّ بها عن وجه النبي ﷺ ، يذب به عن وجهه، فسأل بعض المأولين والمعبرين للرؤى قال: ما تقولون في هذه الرؤيا؟ فأولوها بأنك تذب عن سنة رسول الله ﷺ فكان كما رأى - رحمه الله تبارك وتعالى -.

هذا الصحيح، صحيح البخاري، يقول عنه أبو جعفر العقيلي - رحمه الله تعالى - صاحب كتاب "الضعفاء الكبير" المشهور، قال: "لما صنَّف البخاري الجامع الصحيح عرضه على علي بن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين"، أئمة كبار من أئمة علم الحديث في ذلك الوقت علي بن المديني، أحمد بن حنبل، يحيى بن معين، عرض عليهم كتابه الصحيح فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث. قال العقيلي: "والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة"، لأن البخاري بعد أن عرض عليهم هذا الكتاب، قالوا لو أخرجت هذه الأحاديث الأربعة، قال البخاري - جزاكم الله خير - ولن تخرجها، أنا مقتنع أنها صحيحة، فأبقاها في الصحيح، يقول العقيلي: "والقول فيها قول البخاري" أي هي صحيحة كما قال البخاري - رحمه الله تعالى -.

اهتم أهل العلم كثيراً ب"الصحيح" ومن أكثر اهتمامهم "الشروح" فما يذكر أهل العلم أن كتاباً شُرِح كما شُرِحَ هذا الكتاب المبارك، ومن أهم شروحه: "إعلام السنن" للخطابي - رحمه الله تعالى -، و"فتح الباري"، و"فتح الباري" هذا الاسم تنافس فيه ثلاثة: أولهم ابن رجب الحنبلي وكتابه مطبوع "فتح الباري في شرح صحيح البخاري" ثم تلميذه، تلميذ ابن رجب وهو الحافظ العراقي وأيضاً سمى كتابه: "فتح الباري في شرح صحيح البخاري"، ثم جاء تلميذ العراقي وهو الحافظ بن حجر، وأيضاً سمى كتابه "فتح الباري في شرح صحيح البخاري". فهؤلاء ثلاثة الشيخ ثم تلميذه ثم تلميذه كلهم سموا كتبهم "فتح الباري في شرح صحيح البخاري" وأجمعُها وأكملُها كتاب الحافظ بن حجر لأنه الوحيد الذي تمّ، أما كتاب ابن رجب فإنه لم يتمه، ولو أتمه لكان عجباً ولكنه وصل إلي كتاب الجنائز وتوقف مات، ما أكمله، والعراقي كذلك لم يتمه، والحافظ بن حجر بدئه من أوله إلي آخره حتى قال أهل العلم: "لا هجرة بعد الفتح"، يعني بعد "فتح الباري" للإمام ابن حجر، خلاص لا أحد يتعب نفسه في الكلام على "صحيح البخاري" لأنه ما ترك لمن بعده شيئاً، هذا فيه مبالغة ولكن المقصود أن الحافظ بن حجر - رحمه الله تعالى - ما قصر أبداً في عنايته بهذا الكتاب سواء بأسانيده أو متونه.

وقال الحافظ بن حجر عن صحيح الإمام البخاري: "تقرر أنه التزم الصحة وأنه لا يورد فيه إلا حديثاً صحيحاً هذا أصل موضوعه وهو مستفاد من تسميته إياه الجامع الصحيح ومما نقلناه عنه من رواية الأئمة عنه صريحة، ثم رأى أنه لا يخليه من الفوائد الفقهية والنكت الحُكمية، فاستخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة وفرقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها، واعتنى فيه بآيات الأحكام فانتزع منها الدلالات البديعة وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السُبُل الوسيعة".

هذا ما زين به البخاري - رحمه الله تبارك وتعالى - صحيحه، ثم زان البخاري صحيحه بأشياء إضافية وهي ما تسمى ب"تراجم الأبواب" الأبواب الفقهية التي جعلها لكتابه كما سيأتينا مسلم لم يبوب شيئاً من أحاديثه وإنما رتبها على الكتب، يعني كتاب الصلاة ويذكر لك جميع الأحاديث التي في الصلاة فقط، أما البخاري لا، هذا الكتاب وزعه على أكثر من مائة باب وكل باب يضع تحته خمسة أحاديث، عشرة أحاديث، عشرين حديثاً، وهكذا. فبوبه وترجم لهذا الأبواب.

وكذلك تميز البخاري - رحمه الله تعالى - بتقطيع الحديث، وتكراره بعكس مسلم، مسلم نادراً ما يكرر الحديث إلا إذا كان إسناد فقط لكن لا يكرره في أكثر من مكان، ونادراً أن يقطِّع الحديث، البخاري لا بالعكس كثيراً ما يقطِّع الحديث، يعني مثال: حديث عمر بن الخطاب المشهور، حديث جبريل، لما جاء وسأل النبي ﷺ عن الإسلام، ثم سأله عن الإيمان، ثم سأله عن الإحسان، ثم سأله عن علامات الساعة، هذا الحديث أخرجه البخاري أيضاً - رحمه الله تعالى - ولكن ليس من طريق عمر وإنما من طريق أبي هريرة، وهذا الحديث تجد البخاري يذكره في كتاب الإيمان، ويذكره في كتاب العمل، ويذكره في كتاب الرقاق في الإحسان، ويذكره في كتاب علامات الساعة، ولكن في علامات الساعة يذكر الجزء الأخير، وفي كتاب الإيمان يذكر الجزء الأول، وفي كتاب الإحسان اللي هو الرقاق يذكر الجزء الثالث من الحديث وهكذا. يقطِّعه بحسب إيش؟ فائدته في هذا المكان، فيقطِّع الحديث أحياناً، وأحياناً يذكره مرتين ولكن دائماً عندما يكرر لا بد أن تكون هناك فائدة إما أن تراها في المتن وإما أن تراها في الإسناد، يقطِّع الحديث.

عندما نقول صحيح البخاري. طيب الآن نحن نسمع صحيح بن خزيمة، ونسمع صحيح ابن حبان، ونسمع صحيح مستدرك اللي هو مستدرك على الصحيحين وكذلك الحديث المنتقى لابن الجارود وغيرها كثير، طيب لما نأتي لهذه الكتب التي أيضاً جمعت أحاديث صحيحة، والبخاري أيضاً جمع أحاديث صحيحة، طيب، الآن الأمة أجمعت على قبول صحيح البخاري وأنه كله صحيح، وهل صحيح البخاري صار صحيحاً لأن البخاري سماه صحيحاً؟ ليس الأمر كذلك، وإنما لأن العلماء تتبعوا جميع أحاديثه، ولذلك قلنا قبل قليل اعتنى به العلماء عناية شديدة جداً؛ الزامات، تتبع، استخراج، استدراك، وشروح وكذا و كذا و كذا. ثم بعد ذلك سلَّم الجميع للإمام البخاري، وقالوا نعم، سمه صحيح البخاري، وهو كما قلت، وأما غير البخاري فلم يُسَلَّم له ذلك، سُلِّمَ لمسلم أيضاً كما سُلِّم للبخاري ولم يُسَلَّم لغيرهما؛ فالقضية إذاً ليست من باب التسليم لأن البخاري سماه صحيحاً صار صحيحاً، لا، ولكن لأن الأمة أجمعت على صحة ما في هذين الكتابين.

وختاماً نذكر أبياتاً قيلت في هذا الكتاب العظيم عن صحيح البخاري:

صحيح البخاري لو أنصفوه       لما خط إلا بماء الذهب

هو الفرق بين الهدى والعمى     هو السد بين الفنى والعطب

أسانيد مثل نجوم السماء           أمام متون لها كالشهب

وستر رقيق إلى المصطفى        ونص مبين لكشف الريب

سبقت الأئمة فيما جمعت          وفزت على رغمها بالقصب

نفيت الضعيف من الناقلين        ومن كان متهاماً بالكذب

وأبرزت في حسن ترتيبه          وتبويبه عجباً للعجب

وأعطاك مولاك ما تشتهيه        وأجزل حظك فيما وهب

نسأل الله تبارك وتعالى أن يكون الأمر كذلك والله أعلي وأعلم وصلى الله وسلم وبارك علي نبينا محمد.

 

 

مقالات ذات صلة :