المقدمة
أول ما يبدأ الإنسان عند قراءته لقصص الأنبياء، بقصة أبي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، وهو آدم ولا يقال ابن مَنْ؟ لأن آدم كما هو معلوم ليس له أب، بل هو أبو البشر صلوات الله وسلامه عليه.
فصل - صفة خَلْقه:
خلق الله تبارك وتعالى نبيه آدم من تراب كما قال ـ جل وعلاـ:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }[آل عمران: 59]، ثم خُلِط التراب بالماء فصار طيناً كما قال سبحانه وتعالى {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ}[السجدة: 7]، ثم ترك هذا الطين حتى صار حمأَ مسنوناً أي: له رائحة منتنة، وهو أملس في نفس الوقت قال سبحانه وتعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ }[الحجر: 26]، ثم تُرك حتى جفَّ، فصار كالفخار، وهو مصداق قول الله تبارك وتعالى:{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}[الرحمن: 14]، فهذا الذي ذكره الله تبارك وتعالى، ذكر أن الإنسان خلق من صلصال كالفخار، خُلق من طين لازب، كل واحد في وقت غير وقت الآخر، ثم بعد ذلك كان نسل آدم صلوات الله وسلامه عليه من منيّ كما قال سبحانه وتعالى :{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)} [السجدة: 7، 8]، فآدم خُلِقَ من تراب، وذريته بعد ذلك خُلِقَتْ من ماء مهين، من نطفة من مني يمنى.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: " خًلِقَتِ الملائكة من نور، وخُلِقَتِ الجان من مارج من نار، وخُلِقَ آدم مما وصف لكم" (1).
روى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: " خُلق آدم وطوله ستون ذراعاً.. فلم يزل الخلق ينقص بعد حتى الآن" (2).
ثم خلق الله تبارك وتعالى من آدم زوجه (3) حواء كما قال سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زوجها} [النساء: 1]فزَوجُ آدم خُلِقَ من آدم صلوات الله وسلامه عليه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله ﷺ :" استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خُلِقَتْ من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج" (4).
وخَلق الله تبارك وتعالى حواء لآدم، ليأنس بها، ويسكن إليها، ويكون بعد ذلك النسل منهما، فخلق الله تبارك وتعالى على أربعة أصناف:
- الصنف الأول: من غير ذكر ولا أنثى، وهو آدم صلوات الله وسلامه عليه .
- الصنف الثاني: من ذكر وأنثى ، وهي حواء.
- الصنف الثالث: من أنثى دون ذكر ، وهو عيسى صلوات الله وسلامه عليه.
- الصنف الرابع: من ذكر وأنثى ، وهو سائر الخلق من البشر، خُلقوا من ذكر وأنثى.
(1) أخرجه مسلم (2996)
(2) أخرجه البخاري (3326(، ومسلم (2841)
(3) يقال: زوج وزوجة، وزوج أصح باللغة العربية، وزوجة صحيحة.
(4) أخرجه البخاري (3331) ، ومسلم ( 1468).
فصل - الأمر بالسجود لآدم عليه السلام :
خلق الله تبارك وتعالى آدم صلوات الله وسلامه عليه، وبعد ذلك أمر الملائكة أن يسجدوا له، فقال سبحانه وتعالى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] ، وهذا السجود قد يُشكل على بعض الناس كيف يأمرهم الله تبارك وتعالى أن يسجدوا لآدم والسجود لغير الله شرك؟
فالجواب: السجود على الصحيح ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: سجود عبادة.
القسم الثاني: سجود تحية.
فسجود العبادة لا يجوز إلا لله تبارك وتعالى، وهذا لم يأمر الله تبارك وتعالى الملائكة به أبداً.
وأما سجود التحية: فهذا السجود كان مشروعاً في الأمم السابقة ثم نُسخ وحُرِّم في شريعة محمد ﷺ ، وهذا ليس فيه عبادة، وإنما فيه تحية، ومنه أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم سجود تحية لا سجود عبادة.
وكذلك قول يوسف صلوات الله وسلامه عليه لأبيه يعقوب: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]، ثم كان مصداق هذه الرؤية: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } [يوسف: 100]، أي: سجود تحية، وكان مشروعاً في شريعتهم.
ومنه لما قدم معاذ رضي الله عنه من الشام سجد للنبي ﷺ ، فقال له النبي ﷺ:" ما هذا يا معاذ؟" قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال ﷺ :" فلا تفعلوا فإني لو كنت آمراً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن
تسجد لزوجها (1)، فرؤية معاذ لأولئك القوم كان على ما هم عليه من العهد السابق، أنهم يسجدون لكبرائهم من باب التحية، لا من باب العبادة، فنهى النبي ﷺ عن ذلك.
ومنه الحديث الآخر لما سجدت الدابة للنبي ﷺ ، فأخبر صلوات الله وسلامه عليه أن السجود لا يجوز إلا لله.
لكنه نُسخ ، ففي شريعة محمد ﷺ لا يجوز السجود، لا سجود العبادة، ولا سجود التحية، بل صار السجود علامة على العبادة ، فلا يجوز السجود إلا لله تبارك وتعالى.
- أخرجه ابن ماجه "سننه" (1843)
فصل - امتناع إبليس عن السجود لآدم عليه السلام :
لما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم صلوات الله وسلامه عليه، كان إبليس مع الملائكة ، فلم يسجد، امتنع أولاً ثم باح بالسبب، فقال: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]، وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61]، فهو يعترض على حكمة الباري سبحانه وتعالى وهذا كلام مرفوض ـ ولا شك ـ، لأن الله تبارك وتعالى أمَرَ، وَأَمْرُ الله واجب التنفيذ، ولكن هل كان إبليس من الملائكة لما أُمِرَ بالسجود؟ أو كان مع الملائكة؟
الصحيح: أن إبليس كان مع الملائكة، ولم يكن من الملائكة، كما في قول الله تبارك وتعالى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [الكهف: 50]، فإبليس من الجن، والجن خُلقوا من نار، وإبليس قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} [ص: 76] ،والنبي أخبر أن الملائكة خُلِقُوا من نور (1) فإبليس إذاً ليس من الملائكة، وإنما كان مع الملائكة، فأمره بالسجود بالتبعية، لأنه كان معهم، وذلك أنه قيل: كان من عُبّاد الجن.
فأُكرم بأن جعل مع الملائكة، لكنه لم يكن منهم، لذلك خانه طبعه اللئيم لما أمره الله بالسجود، فتكَبّر وقال: وقال: { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61]، ولذلك ذكر أهل العلم أن سبب هلاك الناس بشكل عام هو الحسد والكبر والحرص:
أما الحسد: فإن إبليس حسد آدم. وأما الكبر: فإنه تكبّر على أمر الله تبارك وتعالى. وأما الحرص: فهو ما وقع لآدم صلوات الله وسلامه عليه وحواء عندما أكل من الشجرة، فهذه الأمور الثلاثة، الحسد، والكبر، والحرص، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: هي سبب وقوع الناس في معصية الله تبارك وتعالى.
فلما امتنع إبليس عن السجود كان الرد من العزيز سبحانه وتعالى : {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 13]، فكان الجزاء من جنس العمل، فلما كان عمل إبليس تكبراً جاء الصغار عقوبةَ من الله تبارك وتعالى لهذا الشيطان المريد: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14]، فجاء الرد من الله تبارك وتعالى: {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } [الحجر: 37، 38]، وكل هذا لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى ، وهي الابتلاء والامتحان حتى يميز الخبيث من الطيب(1)
وعندها أعلن إبليس عداوته ، وصاح بما كان يكتم ابتداءً فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ إيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16، 17]، فكان الرد من الله سبحانه وتعالى : { قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا } [الإسراء: 63 - 65]
(1) أخرجه مسلم (2996)
(1) انظر أيضاً الكلام على الحكمة من تسليط إبليس على آدم عليه السلام وذريته في : بداية " مفتاح دار السعادة" لابن القيم (رحمه الله).
فصل - استخلاف آدم في الأرض:
ثم تأتينا الحادثة الثانية لآدم صلوات الله وسلامه عليه، وهي في قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، يخطئ بعض الناس فيقولون : (خليفة) أي: يخلف بعضهم بعضاً، كما
قال الله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ } [الأنعام: 165]، وقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [الأعراف: 169]، فالناس يَخْلُفُ بعضهم بعضاً، لا يخلفون الله تبارك وتعالى بل الله هو الخليفة ، ولذلك إذا سافرنا نقول عن الله تبارك وتعالى: " وأنت الخليفة في الأهل"(1) فالله خليفة عن كل واحد، ولا يكون أحد خليفة عن الله تبارك وتعالى، لأنه يلزم منه أن الخليفة محتاج إلى من استخلفه، والله الغني سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد أبداً، فالخليفة من الله، وليس الخليفة عن الله تبارك وتعالى.
فلما قال الله هذا للملائكة قالوا: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]، هذا سؤال من الملائكة ، وهو كما قال أهل العلم : سؤال استعلام لا سؤال اعتراض ، بدليل أنهم لما أمرهم الله بالسجود سجدوا أجمعون ، فهم لا يعترضون، ولذلك قال الله تبارك وتعالى في وصفهم : { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] ووصفهم بأنهم عباد مكرمون، فقال: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]، وغير ذلك من وصفِ كريمٍ وصفَ الله به الملائكة ، فسؤالهم إذاً سؤال استعلام: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30].
وهنا يسأل كثير من الناس: كيف عرف الملائكة أن بني آدم سيفسدون في الأرض؟ وقد ذكر أهل العلم لهذا السؤال أربعة أجوبة:
الجواب الأول: أنه إلهام ، أي أوقع الله في قلوب الملائكة أن هذا سيحدث، فقالوا: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30].
الجواب الثاني: أنه إخبار، ولكن لم يُذكر في القرآن، أي: أن الله أخبرهم، قال: إني جاعل في الأرض خليفة وهذا الخليفة سيفسد في الأرض، فتعجبوا وقالوا: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30].
الجواب الثالث: أنه توقع، فتكون الملائكة قالت هذا عن توقع، لأن الله خلق الملائكة وعصمهم، فهم {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، فلما علموا أن هذا المخلوق غير معصوم توقعوا أن يحدث منه هذا الأمر، إذاً قالوه عن توقع لما عرفوه من طبيعة هذا الإنسان.
الجواب الرابع: أنه من باب القياس، وذلك أن الجن مخلوقون قبل الإنس، فإبليس أبو الجن، وأُمِرَ بالسجود لآدم بعد أن خُلِقَ آدم ، فأبى أن يسجد، والجن كانوا في الأرض وكانوا يفسدون في الأرض، فقاس الملائكة الإنس على الجن، فقالوا: إذا كان الجن الذين في الأرض يفسدون، فهذا الذي سينزل الأرض إذاً سيفسد كما أفسد الذين من قبله، فقالوا: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]، فجاء الجواب من الله: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 30] أي: من المصالح والمحاسن والحِكَمِ التي من أجلها خلق الله تبارك وتعالى الإنسان.
(1) أخرجه مسلم (1342) من حديث ابن عمر رضي الله عنه
فصل - بيان تفضيل الله لآدم عليه السلام :
فَضَّل الله آدم عليه السلام ، فقال سبحانه وتعالى { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] كما ذكر ابن عباس رضي الله عنه ، فعلمه أسماء كل شيء، كل ما ترون: جبل، شجر، حجر، أسد، نمر، وهكذا علمه أسماء كل شيء سبحانه وتعالى ، فلما علمه أسماء كل شيء أمر الملائكة أن ينبئوه بهذه الأسماء، { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} [البقرة: 31]، أي: هؤلاء الأشياء { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 31، 32]، وهذا من أدب الملائكة مع رب العزة تبارك وتعالى، وهكذا يجب على كل مسلم إذا كان لا يعلم أن يقول لا أعلم، ولا يتجرأ ولا يتكلم بدون علم، قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } [البقرة: 32]، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا} [المائدة: 109] فالإنسان دائماً إذا كان لا يعلم يقول (لا أعلم ويرتاح.
وفي هذا بيان فضل العلم، إذْ ميَّز الله آدم صلوات الله وسلامه عليه بالعلم {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ } [البقرة: 31]، ثم قال لآدم: {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33]أي: أسماء هذه الأشياء لما أنبأهم بأسمائهم ، قال الله تبارك وتعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33].
فما الذي أبدوه وما الذي كتموه؟ قال العلماء: أبدوا ما أظهروه من الكلام: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } [البقرة: 30] وكتموا يعني: إبليس الذي كتم الحسد والحقد على آدم صلوات الله وسلامه عليه. فأعلم ما تبدون، أيها الملائكة الطيبون، وأعلم ما تكتمون أيها الشيطان المريد، فقال الله تبارك وتعالى: { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33].
فصل - وهنا يظهر فضل آدم صلوات الله وسلامه عليه، وبيان ذلك:
أولاً: من العلم الذي أعطاه إياه.
ثانياً: لو أنّ الله بتارك وتعالى قال لآدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم فال: أرأيتم عِلْمَ آدم؟ لقالوا: نحن نعرف هذه الأسماء، وليس لآدم فضل .
وكذلك في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام لما قال الملك لمن عنده: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف: 43، 44]، فجاء فضل يوسف لما عجزوا ، فلو أظهر الله فضل يوسف في البداية لقال أولئك العلماء: عم هذا التأويل صحيح، ونحن نعرفه قبل أن يعرفه يوسف، ولكن أظهر عجزهم ، لُظْهِرَ فضلَ يوسف.
وكذلك هنا اظهر عجز الملائكة عندما قالوا: { سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] ، فظهر آدم صلوات اله وسلامه عليه لما قال: {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33]
فصل - قصة إسكان آدم الجنة وخروجه منها:
بعد أن أعلن إبليس عداوته وحقده وإرادته غواية آدم صلوات الله سلامه عليه، قال الله تبارك وتعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 19، 20] .
فصل - فكيف وسوس؟
العلم عند الله، هل دخل في بطن حية أو أذن الله له أن يدخل أو وسوس لهما دون أن يدخل؟ علمه عند ربي تبارك وتعالى، ولا نخوض فيما لا نعلم.
المهم أنه وسوس كما أخبر الله تبارك وتعالى: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 20]، وقال: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } [الأعراف: 20] كذَبّ عليهما، ثم قال الله تراك وتعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } [الأعراف: 21] كيف استجاب آدم وحواء لقول إبليس؟ مع أن الله حذّرَه وحذّرَ حواء فقال: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117] كيف أطاعه آدم؟ قال أهل العلم: ما كان آدم يظن أن أحداً يجرؤ على أن يُقسم بالله كذباً، : {وَقَاسَمَهُمَا} [الأعراف: 21] أي : أقسم. {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } [الأعراف: 21]فما ظن آدم أبداً أن أحداً يجرؤ على أن يقسم بالله كذباً، فأطاعه لهذا السبب، ولذلك قال الله تبارك وتعالى بعد: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [طه: 121] أي في طاعته للشيطان {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22]، وهذا فيه أن الإنسان بطبعه يستر عورته، فما يحب أن تظهر، ولذلك بدار آدم وحواء إلى ستر العورة { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22]أي: يستران عورتيهما بهذه الأوراق {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا}[الأعراف: 22، 23] أي: في فعلنا هذا {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف: 23] توبةٌ، وندمٌ، وأوبةٌ، قال الله تبارك وتعالى: { قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 24، 25] ويقول الله تبارك وتعالى في الآية الأخرى: {تَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37] والكلمات هي قوله : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف: 23]
فصل - الشجرة التي أكل منها آدم :
قال الإمام ابن جرير الطبري إمام المفسرين وإمام المؤرخين:" وَلَمْ يَضَعِ اللَّهُ ـ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ـ لِعِبَادِهِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ دَلَالَةً عَلَى أَيِّ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ كَانَ نَهْيُهُ آدَمَ أَنْ يَقْرَبَهَا، بِنَصٍّ عَلَيْهَا بِاسْمِهَا، وَلَا بِدَلَالَةٍ عَلَيْهَا. وَلَوْ كَانَ لِلَّهِ فِي الْعِلْمِ بِأَيِّ ذَلِكَ مِنْ أَيِّ رِضًا، لَمْ يُخْلِ عِبَادَهُ مِنْ نَصْبِ دَلَالَةٍ لَهُمْ عَلَيْهَا يَصِلُونَ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ عَيْنِهَا، لِيُطِيعُوهُ بِعِلْمِهِمْ بِهَا، كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا بِالْعِلْمِ بِهِ لَهُ رِضًا" (1)
قلت إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، فأكلا منها، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يضع لعباده دليلاً على ذلك في القرآن ولا النبي في السنة الصحيحة ، إذاً أي شجرة أكل منها آدم؟ الله أعلم.
فأما اليهود ـ قبحهم الله ـ فقد تجرؤوا وتكلموا بدون علم، فقالوا: إن الشجرة التي أكل منها آدم هي شجرة المعرفة؟ ولذلك قامت الحرب الشعواء من الكنيسة على العلم، ومنها خرجت العلمانية، فالكنيسة كانت تحارب العلم، لأن الجريمة التي أخرج لأجلها آدم من الجنة هي طلب العلم، لأنه أكل من شجرة المعرفة، فطلب العلم كان عندهم جريمة، وبالتالي قامت الثورة على الكنيسة، لأن الدين عندهم يحارب العلم، وما علموا أن ديننا أول ما نزل منه قول الله تبارك وتعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[العلق: 1].
(1) تفسير الطبري (1/ 52)
فصل - الجنة التي خرج منها آدم عليه السلام
خُلِقَ آدم صلوات الله وسلامه عليه يوم الجمعة كما قال النبي ﷺ "وفيه" ـ أي: يوم الجمعة ـ "أّدخِلَ الجنة، وفيه أُخْرِجَ منها" (1).
والجنة التي خرج منها آدم قيل: إنها جنة المأوى، أي: الجنة التي تكون في الآخرة. وقيل إنها جنة في الأرض، والله أعلم، ولكن جماهير أهل العلم على أنها الجنة التي سيدخلها المؤمنون يوم القيامة، بدليل أن الناس عندما يأتون آدم في حديث الشفاعة المشهور، ويقولون له:" يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته، اشفه لنا عدن ربك، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة غيري" (2). فالظاهرـ والعلم عند الله ـ أن الجنة التي أخرج منها آدم هي الجنة التي سندخلها جميعاً إن شاء الله تبارك وتعالى ، آمين.
(1) أخرجه مسلم (854) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
(2) أخرجه البخاري (3340)، ومسلم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
فصل - خصائص اختص الله بها آدم عليه السلام :
واختص الله آدم عليه السلام بأربع خصائص ، وهي:
أولاً: خلقه بيده الكريمة، ولا يصح قول من يقول: (خلقه بقدرته)، لأن الله عاب على إبليس، وقال: { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص: 75] فثناهما، ولو كان المقصود القدرة والقوة لكان إبليس يرد على الله، ويقول: وأنا أيضاً خلقتني بيدك، لأنك خلقتني بقوتك وقدرتك، ولكن إبليس أعلم من الذين أنكروا أن يكون الله خلق آدم بيديه وهما يدان حقيقيتان تلقيان بالله ليست كأيدينا أبدًا لقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
ثانيًا: نفخ الله تعالى فيه من روحه.
ثالثًا: أسجد له ملائكته.
رابعًا: أعلمه الله أسماء الأشياء كلها.
وقد ذَكَر الله تبارك وتعالى آدم عليه السلام في القرآن الكريم ست عشرة مرة.
وفى ختام هذه القصة نذكر العبر والدروس التي نخرج بها من قصة آدم صلوات الله وسلامه عليه:
أولاً: ظهر من خلال هذه القصة مدى الضعف البشري، وذلك لما حرص آدم صلوات الله وسلامه عليه على الأكل من الشجرة، وكيف كان ذلك سبباً في خروجه من الجنة.
ثانياً: بيان مدى رحمة الله تبارك وتعالى لما تاب على آدم عندما تاب إلى الله.
ثالثاً: إنّ الإنسان إذا زلَّت قدمه، فإن ملجأه إلى الله تبارك وتعالى، كما كان الحال منه عليه السلام : {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
رابعاً: فضيلة العلم، فما عرف الملائكة فضل آدم إلا بالعلم الذي فضله الله به.
خامساً: بيان فضل الملائكة وأدبهم الجم مع الله تبارك وتعالى لما قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } [البقرة: 32].
سادساً: بيان خطورة الحسد والكبر، حيث أخرج هذا الحسد والكبر إبليس بعد أن كان من الملائكة إلى أن صار في الأرض، ثم بعد ذلك إلى جهنم وساءت مصيراً.
سابعاً: إنّ العبد إذا وقع منه الذنب، فعليه أن يبادر بالتوبة إلى الله تبارك وتعالى اقتداءَ بأبيه آدم عليه السلام .
ثامنا: إثبات اليدين لله تبارك وتعالى لما قال: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص: 75]
تاسعاً: الحذر من الشيطان الرجيم، لأنه أقسم بالله، فقال: { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83]، فخواص ذرية آدم من الأنبياء وأتباعهم حماهم الله تبارك وتعالى من الشيطان، وأقام عليهم سوراً منيعاً، وزاد على ذلك بأن أعطاهم السلاح الذي يستطيعون أن يقاوموا به ذلك العدو، وهذا السلاح متمثل في إنزال الكتب، وإرسال الرسل، وفي بيان محابِّهِ ومساخطه، حتى يفعل الإنسان محابَّ الله، ويتجنب مساخطَه، وأن يعلم علم اليقين أن كيد الشيطان ضعيف.
عاشراً: خطورة الحرص وكيف أنه أخرج أبانا وأمنا من الجنة، فكل شجر الجنة كان مباحاً إلا شجرة واحدة فحرصا عليها فأُخْرِجا.