• 8 نيسان 2017
  • 3,200

سلسلة من نحب - صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم - (19) - سيدنا عمرو بن الجموح رضي الله عنه :

 

 (( شيخٌ عزم على أن يطأ بعرجته الجنة )) [سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم]

عمرو بن الجموح زعيم من زعماء يثرب في الجاهلية، وسيد بني سلمة المُسوَّد، وواحد من أجواد المدينة وذوي المروءات فيها ...

وقد كان من شأن الأشراف في الجاهلية أن يتخذ كل واحد منهم صنماً لنفسه في بيته، ليتبرَّك به عند الغدُوِّ والرَّواح ... وليذبح له في المواسم ... وليلجأ إليه في المُلِمَّات !!!

وكان صنم عمرو بن الجموح يُدعَى "مناة"، وقد اتخذه من نفيس الخشب ...

وكان شديد الإسراف في رعايته، والعناية به وتضميخه(1) بنفائس الطيب.

كان عمرو بن الجموح قد جاوز الستين من عمره حين بدأت أشعَّة الإيمان تغمر بيوت يثرب بيتاً فبيتاً على يد المبشِّر الأول مصعب بن عُمَير، فآمن على يديه أولاده الثلاثة مُعَوَّذ ومعاذ وخلاَّد، وتربٌ لهم يُدعَى معاذ بن جبل ..

وآمنت مع أبنائه الثلاثة أمهم هند، وهو لا يعرف من أمر إيمانهم شيئاً.

رأت هند زوجة عمرو بن الجموح، أن يثرب غلب على أهلها الإسلام، وأنه لم يبق من السادة الأشراف أحد على الشِّرك سوى زوجها ونفر قليل معه.

وكانت تحبه وتُجِلُّه، وتشفق عليه من أن يموت على الكفر، فيصير إلى النار.

وكان هو في الوقت نفسه يخشى على أبنائه أن يرتدُّوا عن دين آبائهم وأجدادهم، وأن يتبعوا هذا الدّاعية مصعب بن عمير، الذي استطاع في زمن قليل أن يحوِّل كثيراً من الناس عن دينهم، وأن يدخلهم في دين محمد.

فقال لزوجته: يا هند احذري أن يلتقي أولادك بهذا الرجل (يعني مصعب بن عمير) حتى نرى رأينا فيه.

فقالت: سمعاً وطاعة، ولكن هل لك أن تسمع من ابنك معاذ ما يرويه عن هذا الرجل؟

فقال: ويحك، وهل صبأ معاذ عن دينه وأنا لا أعلم ؟! فأشفقت المرأة الصالحة على الشيخ وقالت:

كلا، ولكنه حضر بعض مجالس هذا الداعية، وحفظ شيئاً مما يقوله.

فقال: ادعوه إليَّ، فلما حضر بين يديه قال: أسمعني شيئاً مما يقوله هذا الرجل ؛ فقال:

{بِسْمِ اللَّـهِ الرحمن الرَّحِيمِ ﴿١﴾ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٢﴾ الرحمن الرَّحِيمِ ﴿٣﴾ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴿٤﴾إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴿٥﴾ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴿٦﴾صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴿٧﴾} [الفاتحة: 1-7].

فقال: ما أحسن هذا الكلام وما أجمله ؟! أو كُلُّ كلامه مثل هذا ؟!

فقال معاذ: وأحسن من هذا يا أبتاه، فهل لك أن تبايعه، فقومك جميعاً قد بايعوه.

سكت الشيخ قليلاً ثم قال: لست فاعلاً حتى أستشير "مناة" فأنظر ما يقول.

فقال له الفتى: وما عسى أن يقول "مناة" يا أبتاه، وهو خشب أصمُّ لا يعقل ولا ينطق، فقال الشيخ - في حِدَّة -: قلت لك لن أقطع أمراً دونه.

ثم قام عمرو بن الجموح إلى "مناة"- وكانوا إذا أرادوا أن يكلِّموه جعلوا خلفه امرأة عجوزاً، فتجيب عنه يما يُلهمها إياه - في زعمهم -، ثم وقف أمامه بقامته الممدودة، واعتمد على رجله الصحيحة، فقد كانت الأخرى عرجاء شديدة العرج، فأثنى عليه أطيب الثناء، ثم قال:

يا "مناة" لا ريب أنك قد علمت بأن هذا الداعية الذي وفد علينا من مكة لا يريد أحداً بسوء سواك ...

وأنه إنما جاء لينهانا عن عبادتك ... وقد كرهت أن أبايعه - على الرغم مما سمعته من جميل قوله - حتى أستشيرك، فأشِر عليَّ، فلم يرُدَّ عليه "مناة" بشيء.

فقال: لعلك قد غضبت... .

وأنا لم أصنع شيئاً يؤذيك بعد ...

ولكن لا بأس، فسأتركك أياماً حتى يسكت عنك الغضب.

كان أبناء عمرو بن الجموح يعرفون مدى تعلق أبيه بصنمه "مناة" وكيف أنه غدا مع الزمن قطعة منه، ولكنهم أدركوا أنه بدأت تتزعزع مكانته في قلبه، وأن عليهم أن ينتزعوه من نفسه انتزاعاً، فذلك سبيله إلى الإيمان.

أدلج أبناء عمرو بن الجموح مع صديقهم معاذ بن جبل(1) إلى مناة في الليل، وحملوه من مكانه، وذهبوا به إلى حفرة لبني سلمة يرمون بها أقذارهم، وطرحوه هناك، وعادوا إلى بيوتهم دون أن يعلم بهم أحد، فلما أصبح عمرو دلف(2) إلى صنمه لتحيته، فلم يجده فقال:

ويلكم، من عدا على إلهنا هذه الليلة ؟!

فلم يجبه أحد بشيء.

فطفق يبحث عنه في داخل البيت وخارجه، وهو يُرغي ويزبد(3) ويتهدد ويتوعد حتى وجده مُنَكَّساً على رأسه في الحفرة، فغسله، وطهَّره وطيَّبه وأعاده إلى مكانه وقال له:

أما والله لو أعلم من فعل هذا لأخزيته.

فلما كانت الليلة الثانية عدا الفِتية على "مناة" ففعلوا فيه مثل فعلهم بالأمس فلما أصبح الشيخ التمسه فوجده في الحفرة مُلَطَّخاً بالأقذار، فأخذه وغسله وطيبه وأعاده إلى مكانه.

وما زال الفتية يفعلون بالصنم مثل ذلك كل يوم، فلما ضاق بهم ذرعاً ؛ راح إليه قبل منامه، وأخذ سيفه فعلَّقه برأسه وقال له:

يا مناة، إني والله ما أعلم من يصنع بك هذا الذي ترى، فإن كان فيك خير فادفع الشر عن نفسك، وهذا السيف معك، ثم أوى إلى فراشه.

فما إن استيقن الفتية من أن الشيخ قد غطَّ في نومه حتى هبُّوا إلى الصنم ؛ فأخذوا السيف من عنقه وذهبوا به خارج المنزل، وقرنوه(4) إلى كلب ميت بحبل . وألقوا بهما في بئر لبني سلمة تسيل إليها الأقذار وتتجمع فيها.

فلما استيقظ الشيخ ولم يجد الصنم خرج يلتمسه فوجده مُكِبَّاً على وجهه في البئر، مقروناً إلى كلب ميتٍ، وقد سُلِبَ منه السيف، فلم يخرجه هذه المرة من الحفرة، وإنما تركه حيث ألقوه، وأنشأ يقول:

والله لو كنت إلهاً لم تكن                                    أنت وكلبٌ وسط بئر في قرن

ثم ما لبث أن دخل في دين الله.

تذوَّق عمرو بن الجموح من حلاوة الإيمان، ما جعله يعضُّ بنان الندم على كل لحظة قضاها في الشرك، فأقبل على الدين الجديد بجسده وروحه، ووضع نفسه وماله وولده في طاعة الله وطاعة رسوله.

وما هو إلا قليل حتى كانت أُحُدٌ، فرأى عمرو بن الجموح أبناءه الثلاثة يتجهزون للقاء أعداء الله، ونظر إليهم غادين رائحين كأسد الشَّرى(1)، وهم يتوهجون شوقاً إلى نيل الشهادة والفوز بمرضاة الله، فأثار الموقف حميَّته، وعزم على أن يغدو معهم إلى الجهاد تحت راية رسول الله ﷺ.

لكن الفتية أجمعوا على منع أبيهم مما عزم عليه ...

فهو شيخ كبير طاعن في السن، وهو إلى ذلك أعرج شديد العرج، وقد عذره الله عزَّ وجلَّ فيمن عذرهم.

فقالوا له: يا أبانا إن الله عذرك، فعلام تكلف نفسك ما أعفاك الله منه ؟!.

فغضب الشيخ من قولهم أشد الغضب، وانطلق إلى رسول الله ﷺ يشكوهم فقال:

يا نبي الله، إن أبنائي هؤلاء يريدون أن يحبسوني عن هذا الخير وهم يتذرعون(2) بأني أعرج، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة.

فقال الرسول عليه الصلاة والسلام لأبنائه: (دعوه ؛ لعل الله عزَّ وجلَّ يرزقه الشهادة ...).

فَخَلَّوا عنه إذعاناً لأمر رسول الله.

وما إن أزف(1) وقت الخروج، حتى ودَّع عمرو بن الجموح زوجته وداع مُفارقٍ لا يعود ...

ثم اتجه إلى القبلة ورفع كفيه إلى السماء وقال: اللهمَّ ارزقني الشهادة ولا ترُدَّني إلى أهلي خائباً.

ثم انطلق يحيط به أبناؤه الثلاثة، وجموع كبيرة من قومه بني سلمة.

ولما حَمِيَ وطيس(2) المعركة، وتفرق الناس عن رسول الله صلوات الله عليه، شوهد عمرو بن الجموح يمضي في الرعيل الأول، ويثب على رجله الصحيحة وثباً وهو يقول:

إني لمشتاق إلى الجنة، إني لمشتاق إلى الجنة ... وكان وراءه ابنه خلاَّدٌ.

وما زال الشيخ وفتاه يجالدان عن رسول الله ﷺ حتى خرَّا صريعين شهيدين على أرض المعركة، ليس بين الابن وأبيه إلاَّ لحظات.

وما إن وضعت المعركة أوزارها(3) حتى قام رسول الله ﷺ إلى شهداء أُحُدٍ ليواريهم ترابهم، فقال لأصحابه:

(خَلُّوهُم بدمائهم وجراحهم، فأنا الشهيد عليهم )، ثم قال:

(ما من مسلم يُكْلَمُ(4) في سبيل الله، إلا جاء يوم القيامة يسيل دماً، اللون كلون الزعفران ،والريح كريح المسك)، ثم قال:

(ادفنوا عمرو بن الجموح مع عبد الله بن عمرو ؛ فقد كانا مُتحابَّين متصافيين في الدنيا).

رضي الله عن عمرو بن الجموح وأصحابه من شهداء أُحُد، ونوَّر لهم في قبورهم(*).

(*) للاستزادة من أخبار عمرو بن الجموح انظر.

  1. الإصابة الترجمة: 5799.
  2. صفة الصفوة: 1/265.

عمرو بن الجموح

 

(1) ضمخ الشيء بالطيب: دهنه به.

(1) انظر سيرته ص 497.

(2) دلف: مشى في هدوء.

(3) يرغي ويزبد: كناية عن شدة الغضب وهيجان النفس.

(4) قرنون إلى كلب: ربطوه معه.

(1) أسد الشَّرى: أسد الغاب.

(2) يتذرعون: يحتجون.

(1) أزف: حان.                                       

(2) الوطيس: التنور، ووطيس المعركة نارها.  

(3) وضعت المعركة أوزارها: توقفت وانتهت.

(4) يكلم: يجرح.

مقالات ذات صلة :