• 8 نيسان 2017
  • 3,516

سلسلة من نحب - الله تعالى - (14) الحَليم :

وهو اسم تكرَّر وروده في القرآن الكريم في عدة مواضع، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [فاطر: 41]، وقال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب: 51].

ومعناه: أي: الذي لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم ومعاصيهم، يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه، وهو يحلم عليهم فيؤخر وينظر ويؤجل ولا يعجل، ويوالي النعم عليهم مع معاصيهم وكثرة ذنوبهم وزلاتهم، فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم، ويمهلهم كي يتوبوا، ولا يعاجلهم بالعقوبة كي يُنيبوا ويرجعوا.

وحلمه سبحانه عمن كفر به وعصاه عن علم وقوّة وقدرة لا عن عجز، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر: 44].

وقد أخبر سبحانه عن حلمه بأهل المعاصي والذنوب وأنواع الظلم بأنه لو كان يؤاخذهم بذنوبهم أولاً بأوَّل لما أبقى على ظهر الأرض من دابة، كما قال سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61]، وقال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ۖ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ۚ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف: 58].

فمع ما يكون منهم من شرك به سبحانه، ووقوع في مساخطه واجتهاد في مخالفته ومحاربة دينه، ومعاداة لأوليائه يحلم عليهم، ويسوق إليهم أنواع الطّيبات، ويرزقهم ويعافيهم،

كما في "الصّحيح"(1) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربّه أنه قال: "يشتمني ابن آدم، وما ينبغي له أن يشتمني، ويكذِّبني، وما ينبغي له، أما شتمه فقوله: إنَّ لي ولداً، وأما تكذيبه فقوله: ليس يعيدني كما بدأني".

وفي "الصّحيحين"(2) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: "ليس أحدٌ أو ليس شيءٌ أصبرَ على أذى سمعه من الله، إنّهم ليدعون له ولداً، وإنّه ليعافيهم ويرزقهم".

قال ابن القيِّم رحمه الله: "وهو مع هذا الشتم له والتكذيب يرزق الشاتم المكذب، ويعافيه، ويدفع عنه، ويدعوه إلى جنته، ويقبل توبته إذا تاب إليه، ويبدله بسيئاته حسنات، ويلطف به في جميع أحواله، ويؤهله لإرسال رسله، ويأمرهم بأن يلينوا له القول ويرفقوا به"(3).

ومن ذلكم حلمه بفرعون مع شدة طغيانه وعلوه في الأرض وإفساده للخلق، قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43-44].

وحلمُه سبحانه بالذين نَسَبوا له الولد حيث دعاهم للتوبة، وفتح لهم أبوابها، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 73-74].

وحلمُه سبحانه بأصحاب الأخدود وهم قوم من الكفار، كان عندهم قوم مؤمنون، فراودوهم للدّخول في دينهم، فامتنعوا، فشق الكفار أُخدُودا في الأرض أجَّجوا فيه ناراً، ثم فتنوا المؤمنين وعرضوهم على النار، فمن استجاب لهم أطلقوه، ومن امتنع قذفوه في النار، وهذا في غاية المحاربة لله ولأوليائه المؤمنين، ومع هذا كله دعاهم سبحانه للتوبة.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10].

قال الحسن البصري رحمه الله: "انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التّوبة والمغفرة"(1).

ومن حلمه سبحانه إمساكه للسماء أن تقع على الأرض، وإمساكه لهما أن تزولا مع كثرة ذنوب بني آدم ومعاصيهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41].

قال العلَّامة ابن سعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "يخبر تعالى عن كمال قدرته، وتمام رحمته، وسعة حلمه ومغفرته، وأنه تعالى يمسك السموات والأرض عن الزوال، فإنهما لو زالتا ما أمسكهما أحد من الخلق، ولعجزت قدرتهم وقواهم عنهما، ولكنه تعالى قضى أن يكونا كما وجدا، ليحصل للخلق القرار والنفع والاعتبار، وليعلموا من عظيم سلطانه، وقوة قدرته ما به تمتلئ قلوبهم له إجلالا وتعظيما، ومحبة وتكريما، وليعلموا كمال حلمه ومغفرته بإمهال المذنبين، وعدم معاجلته للعاصين، مع أنه لو أمر السماء لحصبتهم، ولو أذن للأرض لابتلعتهم، ولكن وسعتهم مغفرته وحلمه وكرمه {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41]"(2).

وقد اقترن اسمه تبارك "الحليم" بالعليم في قوله تعالى: {لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج: 59]، واقترن بالغني في قوله: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263]، واقترن بالشكور في قوله: {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17]، واقترن بالغفور في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235].

وفي هذا دلالة على أنّ حلمه عن إحاطة بالعباد وأعمالهم، وعن غنى عنهم، فلا تنفعه طاعة من أطاع ولا تضره معصية من عصى، وعن شكر؛ فيشكر القليل من العمل ويثيب عليه الثواب العظيم، وعن مغفرة فيتجاوز عن التائب المنيب مهما عظم إثمه وكبر جرمه، فما أعظم حلمه، وما أوسع فضله، وما أجزل عطاءَه ومَنَّه، فلله الحمد شكراً، وله المنّ فضلاً، حمداً كثيراً طيّباً مُباركاً فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.

****

(1) "صحيح البخاري" (رقم: 3193).

(2) "صحيح البخاري" (رقم: 5748)، ومسلم (رقم: 2804).

(3) "شفاء العليل" (2/ 653).

(1) انظر: "تفسير ابن كثير" (8/ 393).

(2) "تيسير الكريم الرحمن" (ص/ 812).

مقالات ذات صلة :