• 8 نيسان 2017
  • 3,861

سلسلة من نحب - الله تعالى – (11) - الحكيم، الحكم :

وقد ورد اسم الله (الحَكيم) في القرآن الكريم ما يقرب من مائة مرّة، قال تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيْمُ الْخَبِيْرُ} [الأنعام: 18]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228]، وقال تعالى: {وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26]، وقال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130].

وهذا الاسم العظيم دال على ثبوت كمال الحكم لله وكمال الحكمة.

* أمَّا كمال الحكم فبثبوت أنَّ الحكم لله وحده يحكم بين عباده بما يشاء، ويقضي فيهم بما يريد، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8]، وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعم: 114]، وقال تعالى: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف: 87]، وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، وقال تعالى: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26]، وليس لأحد أن يراجع الله في حكمه كما يراجع الناس بعضهم بعضا في أحكامهم، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد: 41]، فحكمه في خلقه نافذ لا رادّ له.

وثبوت الحكم له سبحانه يتضمَّن ثبوت جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا؛ لأنه لا يكون حكماً إلَّا سميعاً بصيراً عليماً خبيراً متكلِّماً مدبِّراً، إلى غير ذلك من الأسماء والصفات.

وفي هذا إبطال لجعل الحكم لغير الله؛ لأنَّ الحكم لا يكون إلَّا لكامل الصفات، الذي له الأمر، وبيده التصرف، وتأمل هذا المعنى في قوله تعالى: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12]، وقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70]، وقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْء فَحُكْمه إِلَى اللَّه} [الشورى: 10]، ثم قال مبيِّناً صفات من له الحكم: {ذَلِكُمُ اللَّـهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴿١٠﴾ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿١١﴾ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى: 10-12]، أي: أن الذي له هذه الصفات هو الذي يستحقّ أن يشرع ويحلل ويحرم، وجعلُ ذلك لغيره أظلم الظلم وأعظم الجور {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

كما أنَّ في ذلك دلالة على أنَّ من هذا شأنه هو المستحق وحده أن يفرد بالذل والخضوع، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40]، وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88].

ومن أسماء الله: "الحَكَم"؛ ففي الحديث عن هانئ بن يزيد الحارثي: أنه لما وفد إلى رسول الله ﷺ مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم، فدعاه رسول الله ﷺ فقال: "إن الله تعالى هو الحكم وإليه الحكم، فلِمَ تكنى أبا الحكم؟" فقال: إنّ قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمتُ بينهم فرضي كلا الفريقين. فقال رسول الله ﷺ: "ما أحسن هذا فما لك من الولد ؟"، قال: لي شريح ومسلم وعبد الله، قال: "فمن أكبرهم؟"، قال: شريح، قال: "فأنت أبو شريح"، رواه أبو داود والنسائي والبخاري في "الأدب المفرط"(1).

أمَّا كمال الحكمة فبثبوت الحكمة له سبحانه في خلقه وفي أمره وشرعه، حيث يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها، ولا يتوجه إليه سؤال ولا يقدح في حكمته مقال.

أمَّا الحكمة في الخلق فإنه سبحانه خلق الخلق بالحق، ومشتملا على الحق، وكان نهايته وغايته الحق، أوجده بأحسن نظام، ورتبه بأكمل إتقان، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، بل أعطى كل جزءٍ من أجزاء المخلوقات، وكل عضو من أعضاء الحيوانات خلقته وهيئته اللائقة به، بحيث لا يُرى فيه شيء من التفاوت والخلل {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3-4]، ولو اجتمعت عقول الخلق على أن يقترحوا مثلا أو أحسن من هذه الموجودات لم يقدروا على ذلك {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].

وإذا كان من المتقرِّر أنَّ الله سبحانه له الكمال الذي لا يحيط به العباد، وأنه ما من كمال تفرضه الأذهان ويقدره المقدِّرون إلَّا والله أعظم من ذلك وأجلّ؛ فإن أفعاله وجميع ما أوصله إلى الخلق أكملُ الأمور وأحسنها وأنظمها وأتقنها، فالفعل يتبع في كمالِهِ وحسنِهِ فاعلَهُ، والتدبير منسوب إلى مدبره، والله تعالى كما لا يشبهه أحد في صفاته في العظمة والحسن والجمال، فكذلك لا يشبهه أحد في أفعاله.

وأمَّا الحكمة في أمره وشرعه فإنه تعالى شرع الشرائع، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل ليَعرِفَه العباد ويعبدوه، فلم يخلقهم هملا، ولم يوجدهم سُدىً، بل خلقهم لأكمل مقصد، وأوجدهم لأجلِّ غاية.

ومعرفته تعالى وعبادته وحده لا شريك له التي هي مقصود الخلق هي أفضل العطايا منه تعالى لعباده على الإطلاق، وأجلُّ الهبات وأشرف المنن لمن يمنّ الله عليه بها ويكرمه ببلوغها وتحقيقها، وهي أكمل السعادة والفلاح والسرور للقلوب والأرواح، بل هي السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية، والفلاح السرمدي.

إضافة إلى هذا فإن شرعه قد اشتمل على كل خير، فأخباره تملأ القلوب علما وعقائد صحيحة، وتستقيم بها القلوب ويزول انحرافها، ويحصل لها أفضل المعارف وأجلّ العلوم، وأوامره كلّها منافع ومصالح، وتثمر الأخلاق الجميلة والخصال الكريمة والأعمال الصالحة والطاعات الزاكية، والهدي الكامل، ونواهيه كلها موافقة للعقول الصحيحة والفطر السليمة، فلم ينهَ إلا عما يضر الناس في عقولهم وأخلاقهم وأعراضهم وأبدانهم وأموالهم.

ومن حكمه وحكمته سبحانه مجازاة المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، قال تعالى في شأن المحسن: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، وقال في شأن المسيء: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى} [الروم: 10]، فلا يسوّي سبحانه بين محسن ومسيء، لا في الدنيا ولا في الآخرة {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، وهذا من كمال عدله، وهو مناسب غاية المناسبة لحكمة أحكم الحاكمين سبحانه.

****

 

(1) "سنن أبي داود" (رقم: 4955)، و"سنن النسائي" (رقم: 5387)، و"الأدب المفرد" (رقم: 811). وصحّحه.

مقالات ذات صلة :