فصل – الإمام النسائي :
حديثنا أخوتي هذا اليوم عن الإمام الخامس في ترتيب الأئمة الستة: البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. نتكلم في هذه الليلة عن الإمام النسائي - رحمه الله تعالى -، وهو أحمد بن شعيب بن على بن سنان أبو عبد الرحمن النسائي نسبة إلى [نسا] من مدن خراسان.
ولد الإمام النسائي سنة خمس عشرة ومائتين وهو إمام مقدم كما سيأتي ذكر ثناء أهل العلم عليه، وهو آخر الأئمة الستة وفاةً، توفي في أول القرن الرابع سنة ثلاث وثلاثمائة من الهجرة وعمّر وانتفع الناس به كثيراً وصار في زمنه من أعلى الناس إسناداً حيث إنه رحل كثيراً في طلب الحديث بل لعله أكثر الأئمة الستة رحلة، أكثرهم رحلة، رحل إلى الحجاز: مكة، والمدينة، وإلى الشام بجميع مدنها، والعراق بجميع مدنها: الكوفة، والبصرة، وبغداد، ورحل إلى خراسان، ورحل إلى الري وهراة ومصر وبها مات - رضى الله عنه ورحمه -.
فصل – علم الأمام النسائي :
الإمام النسائي - رحمه الله تعالى - جمع بين علمين عظيمين واشتهر بهما .
أما الأول: فهو علم القراءات، فهو أحد القراء والذين كان يرحل إليهم في علم القراءة.
واشتهر كذلك بعلم الحديث، وهو إمام مقدم في علم علل الحديث.
قال الذهبي - رحمه الله تعالى - عن الإمام النسائي: "لم يكن أحدٌ في رأس الثلاثمائة أحفظ من النسائي وهو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم وأبى داود ومن أبى عيسى الترمذي"، وهو في علل الرجال وعلل الحديث مقدم على مسلم وعلى أبى داود وعلى الترمذي، قال "وهو يجرى مجرى البخاري وأبى زرعة في علم علل الحديث" - رحمه الله تبارك وتعالى -.
طالما أنه رحل كثيراً إذن استفاد من كثير من أهل العلم، ومن شيوخه الذين استفاد منهم: إسحاق بن راوية، و عمرو بن علي الفلاس وأكثر بالأخذ عنه، وعلى بن حجر، وهناد بن الثرى، ونصر بن علي الجهضمي، وغيرهم.
وأخذ عنه العلم أمم، ولذا قلنا صار رَحَلة العلماء، يرحلون إليه، يقصدونه، فكان من أعلى الناس إسناداً في زمنه، فالناس كانوا يرحلون للإمام النسائي يطلبون العلم عنده، ويطلبون علوّ إسناده.
وكان - رحمه الله تبارك وتعالى - من العبّاد، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان دائماً يخرج في الجهاد ويخرج للحجّ، لا يفوّت جهاداً ولا حجّاً، وكان صواماً قواماً - رحمه الله تبارك وتعالى -.
قال الدارقطني في حقه وكان الدارقطني من المعجبين جداً بالإمام النسائي، قال الدارقطني: "هو أعلم بالحديث من مسلم وكان أفقه مشايخ مصر في عصره وأعلمهم بالحديث والرجال"، وقال أبو بكر بن الحداد، أبو بكر بن الحداد مُحدِّث، وسمع حديثاً كثيراً، لكنه لم يسمع إلا من النسائي فقط، ما سمع من شيخ غير النسائي، وقال: "رضيت به حجة بيني وبين الله"، رضيت بهذا الرجل أن يكون حجة بيني وبين الله، ما أسمع حديث إلا من هذا الرجل، فكان مكثراً عن الإمام النسائي - رحمه الله تعالى -.
قال الذهبي كذلك عنه: "كان من بحور العلم مع الفهم والإتقان والبصر ونقد الرجال وحسن التأليف ورحل الحفاظ إليه ولم يبق له نظير في هذا الشأن"، يعنى في زمنه.
ألف النسائي - رحمه الله تعالى - مؤلفات كثيرة خاصة في علم الحديث والرجال، وأعظم مؤلفاته "السنن الكبرى"، وسيأتي الحديث عليه. ألف "السنن الكبرى" ثم اختصرها في "المجتبى" وهو المشهور الآن ب"سنن النسائي"، فعندما يقول الناس "سنن النسائي" يريدون "المجتبى" الذى هو مختصر "السنن الكبرى"، هو المتداول بين الناس هو كتاب "المجتبى" الذى انتقاه الإمام النسائي من سننه الكبرى، وسيأتي كما قلنا الحديث عن كتابه بالتفصيل.
له كذلك من المؤلفات كتاب في التفسير، فهو إمام مفسر، وكذلك له كتب في الرجال ككتاب "الضعفاء" للإمام النسائي، وله كتاب "الأسماء والكنى"، وله "عمل اليوم والليلة"، وله كتاب "خصائص على" وهذا الكتاب له قصة تدل على قضية مهمة كان أهل العلم يلتزمونها. في زمن من الأزمان الكوفة والبصرة، الكوفة كان فيها الشيعة يحبون عليّ ويغالون في حبه رضى الله عنه ، وفي البصرة عثمانية يكرهون عليّ رضي الله عنه وأرضاه .
وكان أهل العلم في ذلك الوقت يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويظهرون ذلك جلياً، فكان الواحد منهم إذا دخل البصرة حدَّث بفضائل عليّ رضى الله عنه ينكر على الناس بغضهم لعلي وابتعادهم عنه، وإذا دخل العالِم الكوفة حدَّث بفضائل عثمان ينكر عليهم بغضهم لعثمان وهكذا كانوا يفعلون.
وصنف النسائي رحمه الله كتاب "خصائص علي" في الشام حيث كان الناس هناك فيهم من يبغض عليّ رضى الله عنه، دخل الشام ففوجئ أن بعض الناس ما زالُوا في قلوبهم على عليّ حيث كانت معركة صفّين كما هو معلوم، وقُتل من قُتل من أهل الشام فهم يتذكرون مَنْ قُتل مِن أجدادهم والعهد قريب، حتى أن بعض العلماء أحد رواة الحديث كان يقول: لا أحب عليّ، فقيل له: ولِمَ؟ قال: قتل أبائي، يعنى في معركة صفين، يقول قتل أبائي، فلما دخل النسائي - رحمه الله تعالى - الشام وجد ميلاً عند الناس عن علي - رضي الله عنه - فألف كتابه "خصائص علي"، يعني جمع فضائل علي ونشرها في كتابه.
وهذه شجاعة وإلا من يصنع مثل ذلك؟ يذهب إلى بلد يرى فيهم ميلاً عن شيء فيخالفهم في إظهار سنة النبي ﷺ ، والدفاع عن أوليائه، فألف كتابه "خصائص علي"، فلما ألف هذا الكتاب، جاءه بعض الصالحين فقالوا له: لماذا خصصت عليّ؟ يعني بهذا الكتاب، والصحابة كُثُر لم تؤلف في فضائل أبي بكر، وعمر، وألفت في فضائل علي، حتى إن البعض قال: فيه تشيُّع وليس كذلك، قالوا: ألفت في فضائل علي ولم تؤلف في فضائل أبو بكر وعمر. قال: دخلت الشام فرأيت فيهم ميلاً عن علي فأردت أن أُظهر مكانته - رضي الله عنه -، ثم رأى أن يجمع كتاباً كذلك في فضائل الصحابة مطلقا فألف كتاب "فضائل الصحابة".
وعندما سمع أهل الشام وانتشر صيت هذا الكتاب عند العامة الجهلة جاؤوا إلى الإمام النسائي وقالوا له: قد ألفت في فضائل عن علي، قال: نعم، قالوا: فاذكر لنا فضائل معاوية، لأنهم يحبون معاوية كثيراً - رضي الله عنه -، قالوا: ألف في فضائل معاوية، قال: أما يرضى معاوية أن يكون رأساً برأس حتى إنه يريد أن يُفَضَّل كذلك؟ يعني ما يكفي أن يكون رأساً برأس يكفي؟ وتريدون فضائل كذلك؟ فغضبوا من هذه الكلمة وضربوه ضرباً شديداً - رحمه الله تعالى - حتى قالوا إن هذا الضرب كان سبب وفاته، لما ضُرِبَ - رضي الله عنه - في سنة ثلاثمائة وثلاثة، يعني في السنة التي توفي فيها وله من العمر ثمان وثمانون سنة عندما آذاه أهل الشام.
وقد يقول قائل: أليس في كلامه "ألا يرضى أن يكون رأساً برأس حتى إنه يريد أن يُفَضَّل"، أليس فيه طعناً في معاوية؟
نقول: لا، ليس فيه طعن في معاوية - رضي الله عنه -، ولكن أراد أن يبين لهم أن معاوية - رضي الله عنه - مهما بلغ لا يصل إلى درجة علي - رضى الله عنه -.
وأين معاوية من علي - رضى الله عنهما -؟ فعلي - رضي الله عنهم - من الذين قال الله فيهم {لَا يَسْتَوِي مَّنْ أَنفَقَ منكم مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]
فعلي - رضي الله عنه - سبق إسلامه إسلام معاوية بقريب من عشرين سنة، فكيف يستويان؟ غير أن الأحاديث الواردة في فضل علي - رضي الله عنه - كثيرةٌ جداً، بل إن معاوية - رضي الله عنه - ما كان يرى ذلك، وذلك أنه لما صار الصلح في صفِّين، قال لكاتب الصلح: "ابدأ باسم علي قبل اسمي"، اكتب اسمه قبل اسمي، لسابقته وفضله، فما كان يرى أنه ندٌّ لعلي - رضي الله عنهم أجمعين -.
على كل حال ما كان النسائي - رحمه الله تعالى - يريد الطعن في معاوية ولكن أراد أن يبين لهم قدر علي بالتخفيض من غلوهم في معاوية - رضي الله عنه وأرضاه -، ولذلك سئل النسائي عن معاوية فقال: "إنما الإسلام كدار لها باب فباب الإسلام الصحابة فمن آذى الصحابة إنما أراد الإسلام كمن نقر الباب إنما يريد الدخول فمن أراد معاوية إنما أراد الإسلام"، يعني الذي يطعن في معاوية إنما يريد الطعن في الإسلام.
وكان النسائي - رحمه الله تعالى - كذلك قد تولى القضاء، كان قاضياً لسنوات كثيرة، ثم كما قلنا مات من أثر الضرب بعد أن ضُرِبَ وحُمِلَ وطلب منهم أن يؤخذ إلى مكة، ودُفِنَ في مكة - رضي الله عنه - حتى إنهم قالوا: إنه دفن بين الصفا والمروة، والله أعلم، لكن على كل حال المشهور أنه دُفِنَ في مكة - رحمه الله تعالى -.
فصل – كتاب المجتبى :
أما كتابه كتاب السنن للإمام النسائي - رحمه الله تعالى - فإن النسائي صنف أولاً كما يصنف غيره حيث جمع الأحاديث التي بلغته، أو التي جمعها من الشيوخ، وصنع "السنن الكبرى" الذي طُبع حديثاً، ما كان موجوداً قبل فترة، وجمع فيه سبعون وسبعمائة حديث وأحد عشر ألف حديثاً، يعني أحاديث "السنن الكبرى" قريبة من اثني عشر ألف حديث، والمكرر فيها قليل وهو أكبر كتاب في السنن بعد "مسند أحمد".
فبعد أن جمع هذا الكتاب كلمه أمير مدينة "الرملة" في الشام، كلم النسائي فقال له: أكل ما في هذا الكتاب صحيح؟، هذا الحين قريب من اثني عشر ألف حديث كلها صحيحة هذه الأحاديث؟ قال: "لا"، وما قصد الصحيح، قال "لا"، قال: "فاجمعلي كتاباً في الصحيح"، أريد كتاباً ليس فيه إلا الصحيح، فجمع كتابه "المجتبى" الذي هو "السنن الصغرى" الذي هو مشهور الآن لما يقولون "سنن النسائي" يقصدون به "المجتبى" اللي هو "السنن الصغرى"، وليس الكبرى، وهو الذي يعزو إليه العلماء، عندما يقولون "أخرجه النسائي" يريدون "السنن الصغرى"، يريدون "المجتبى".
هذا الكتاب "المجتبى" اختلف فيه أهل العلم، فأكثر أهل العلم على أن هذا "المجتبى" من انتقاء النسائي، يعني النسائي - رحمه الله تعالي - هو الذي انتقى كتاب "المجتبى"، انتقاه من كتابه "السنن الكبرى" على القصة التي ذكرناها. أمير الرملة لما طلب منه ذلك.
وهناك قول آخر لبعض أهل العلم يقولون: هذا انتقاه تلميذه ابن السنى صاحب كتاب "عمل اليوم والليلة" هو الذي انتقى كتاب "المجتبى" من سنن النسائي الكبرى. ولكن المشهور أن النسائي هو الذى انتقاه - رحمه الله تبارك وتعالى -.
والإمام النسائي بعد أن انتقى هذا الكتاب أُعجب به كثير من أهل العلم، حتى قال عنه ابن رشيد: "كتاب السنن أبدع الكتب المصنفة في السنن تصنيفاً وأحسنها ترصيفاً وكأن كتابه جمع بين طريقتي البخاري ومسلم مع حظ كبير في بيان العلل".
يعنى الإمام النسائي تميز في كتابه هذا بثلاثة أمور:
أولاً: جمع طريقة البخاري حيث بوّب للكتب وعلّق أحياناً كما يصنع البخاري.
ثم التزم طريقة مسلم في عدم تقطيع الأحاديث وعدم الرواية بالمعنى والحرص على ألفاظ الحديث "حدثنا وأخبرنا" وغير ذلك وهذا سيأتينا الكلام عليه إن شاء الله تعالى. لكن على كل حال أن النسائي - رحمه الله تعالى - في كتابه السنن جمع فيه طريقة البخاري وطريقة مسلم.
وأضاف إليهما أنه بيّن علل الحديث.
وتبيينه للعلل على طريقتين:
الطريقة الأولى: أن ينص على العلة، أن يقول "وهذا الحديث معلول"، وعلته كيت وكيت ويذكر العلة.
ولذا بعض أهل العلم يسمى "سنن النسائي" ب"الصحيح" كالإمام الدارقطني مثلاً، الإمام الدارقطني يقول "صحيح النسائي"، يسميه "الصحيح"، وكذا الحاكم والسمعاني وغيرهما يسمون "سنن النسائي" ب"صحيح النسائي" وذلك لأن الأحاديث الصحيحة فيه كثيرة، والضعيفة بالجملة في الغالب تقريباً يبينها النسائي، يبين ضعفها، فهذه قد بينها وأوضحها فلا عهدة على الإمام النسائي - رحمه الله تبارك وتعالى - بعد ذلك.
عدد أحاديث "السنن الصغرى" أربع وسبعون وسبعمائة وخمسة آلاف، والكبرى كم قلنا؟ أحد عشر ألفاً وسبعمائة وسبعون حديثاً. إذن قريب من النصف وهو ما اختصره أو ما انتقاه النسائي من سننه الكبرى.
اعتنى العلماء قليلاً ب"سنن النسائي"، كتاب "سنن النسائي" لم ينل العناية يعني التي تليق به كما قيل، فهناك "حاشية" للسندي على سنن النسائي، وهناك "زهر الربى" للسيوطي على سنن النسائي.
وفي الفترة الأخيرة الآن في هذه السنوات تمت العناية بهذا الكتاب، في كتاب "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" للولوي الأثيوبي وهو في أربعين مجلداً وهو كتاب قيم جداً وله مقدمة حافلة ويعني لقي سنن النسائي حقيقة عناية عظيمة من هذا الرجل - حفظه الله تبارك وتعالى – وهو كتاب "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" للولَّوي الأثيوبي.
فصل – تلاميذ النسائي :
تتلمذ على يدي الإمام النسائي - رحمه الله تعالى - كبار الأئمة فمنهم: الطحاوي أبو جعفر الطحاوي صاحب "الطحاوية" وصاحب معاني الآثار "شرح معاني الآثار"، وتتلمذ على يديه كذلك الطبراني الإمام الطبراني أحمد بن سليمان أبو القاسم صاحب المعاجم المشهورة: معجم الكبير والأوسط والصغير، وأبو بشر الدولابي صاحب "الكنى والأسماء"، وكذلك أبو جعفر النحاس القارئ نحوي كذلك أخذ العلم عن الإمام النسائي، والإمام ابن حبان أبو حاتم بن حبان صاحب الكتب الكثيرة ك"الثقات والمجروحين" وكتاب "الصحيح" وغيره تتلمذ كذلك على الإمام النسائي، وغيرهم كثير من الأئمة الذين أخذوا عنه - رحمه الله تبارك وتعالى -.
وهذه أبيات نختم بها قالها الإمام العراقي عن النسائي وسننه قال:
وكُلُّهــم من رسول الله مَشْربُهُ من مورد طَيّب صافي الوُروُد هَنْي
منهــمُ إمامُ نَسَا أحمدٌ الثِّقَةُ الـ ـجَوّالُ في طَلَب الآثَار والسُّنن
أعظم به من تَقيٍّ قَانت وَرع إمَام صدْق عَلَى الأخْبَار مُؤتَمَن
كتَابُهُ السُّنن المشهورُ إنَّ له في القلب وقعَا على ما صحَّ من سُنن
وكَمْ لَه من تَصَانيف زَكَتْ وَسَمَتْ أتَى بها باختْرَاع مٌبْدَع حَسَن
هذا قاله الإمام العراقي أبو الفضل - رحمه الله تبارك وتعالى - عن الإمام النسائي وكتابه "السنن". هذه نبذة مختصرة عن الإمام النسائي - رحمه الله تعالى - وعن كتابه "السنن"، فرحمه الله تبارك وتعالى وأجزل مثوبته والله أعلى وأعلم.