( سيأتيكم عكرمة مؤمناً مهاجراً ، فلا تسبوا أباه ، فإنَّ سَبَّ الميت يؤذي الحيَّ ولا يبلغ الميت ) [سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم]
(مرحباً بالراكب المهاجر) [ من تحية النبي لعكرمة ]
كان في أواخر العِقد الثالث من عمره ، يوم صَدَعَ(1) نبي الرحمة بدعوة الهدى والحق.
وكان من أكرم قريش حسباً ، وأكثرهم مالآ وأعزِّهِم نسباً.
وكان جديراً به أن يُسلِم كما أسلم نظراؤه ، من أمثال سعد بن أبي وقَّاص ومُصعب بن عمير وغيرهما من أبناء البيوتات المرموقة في مكة لولا أبوه .
فمن يكون هذا الأب يا ترى ؟
إنه جبار مكة الأكبر ، وزعيم الشرك الأول ، وصاحب النكال(2) الذي امتحن الله ببطشه إيمان المؤمنين فثبتوا ، واختبر بكيده صدق الموقنين فصدقوا ...
إنه أبو جهل ، وكفى ...
هذا أبوه ، أما هو فعكرمة بن أبي جهل المخزومي ، أحد صناديد قريش المعدودين وأبرز فرسانها المرموقين .
وجد عكرمة بن أبي جهل نفسه مدفوعاً بحكم زعامة أبيه إلى مناوأة(3) محمد عليه الصلاة والسلام ؛ فعادى الرسول أشد العداء ، وآذى أصحابه أفدح الإيذاء ، وصبَّ على الإسلام والمسلمين من النكال ما قرَّت به عين أبيه(4).
ولما قاد أبوه معركة الشِّرك يوم بدر ، وأقسم باللات والعُزَّى(5) ألاَّ يعود إلى مكة إلا إذا هَزَمَ محمداً ، ونزل ببدر وأقام عليها ثلاثاً ينحر الجزور ، ويشرب الخمور ، وتعزف له القيان بالمعازف ...
لما قاد أبو جهل هذه المعركة كان ابنه عكرمة عَضُده الذي يعتمد عليه ، ويده التي يبطش بها .
ولكن اللاَّت والعُزَّى لم يلبيا نداء أبي جهل لأنهما لا يسمعان ...
ولم ينصراه في معركته لأنهما عاجزان ...
فَخَرَّ صريعاً دون بدر ، ورآه ابنه عكرمة بعينيه ، ورماح المسلمين تنهل(1) من دمه ، وسمعه بأذنيه وهو يطلق آخر صرخة انفرجت عنها شفتاه .
عاد عكرمة إلى مكة بعد أن خَلَّف جثة سيد قريش في بدر ؛ فقد أعجزته الهزيمة عن أن يظفر بها ليدفنها في مكة ، وأرغمه الفرار على تركها للمسلمين ؛ فألقوها في القليب(2) مع العشرات من قتلى المشركين ، وأهالوا عليها الرمال .
ومنذ ذلك اليوم أصبح لعكرمة بن أبي جهل مع الإسلام شأن آخر ...
فقد كان يعاديه في بادئ الأمر حَمِيَّة لأبيه فأصبح يعاديه اليوم ثأراً له .
ومن هنا انبرى عكرمة ونفرٌ ممن قُتِل آباؤهم في بدر ، يُؤرِّثون(3) نار العداوة في صدور المشركين على محمد ، ويُضرمون جذوة(4) الثأر في قلوب الموتورين(5) من قريش ، حتى كانت وقعة أُحُد .
خرج عكرمة بن أبي جهل إلى أُحُد ، وأخرج معه زوجه أم حكيم لتقف مع النسوة الموتورات في بدر وراء الصفوف ، وتضرب معهن على الدفوف ، تحريضاً لقريش على القتال ، وتثبيتاً لفرسانها إذا حدَّثتهم أنفسهم بالفرار.
وجعلت قريش على ميمنة فرسانها خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ،
وأبلى الفارسان المشركان في ذلك اليوم بلاء رَجَّح كفة قريش على محمد وأصحابه ، وحقق للمشركين النصر الكبير ؛ مما جعل أبا سفيان يقول : هذا بيوم بدر .
وفي يوم الخندق ، حاصر المشركون المدينة أياماً طويلة فنفد صبر عكرمة بن أبي جهل ، وضاق ذرعاً بالحصار(1) ، فنظر إلى مكان ضيق من الخندق ، وأقحم(2) جواده فيه فاجتازه ، ثم اجتازه وراءه بضعة نفر في أجرأ مغامرة ذهب ضحيَّتها عمرو بن عبد وُدٍّ العامريُّ ...
أما هو فلم ينجِّه إلا الفرار .
وفي يوم الفتح رأت قريش ألا قِبَلَ لها بمحمد وأصحابه ، فأزمعت(3) على أن تُخَلِّي له السبيل إلى مكة ، وقد أعانها على اتخاذ قرارها هذا ما عرفته من أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر قواده ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم من أهل مكة .
لكن عكرمة بن أبي جهل ونفراً معه خرجوا على إجماع قريش ، وتصدَّوا للجيش الكبير ، فهزمهم خالد بن الوليد في معركة صغيرة قُتِل فيها من قُتِل منهم ولاذ بالفرار من أَمْكَنَهُ الفرار ، وكان في جملة الفارِّين عكرمة بن أبي جهل .
عند ذلك أُسقِط(4) في يد عكرمة ...
فمكة نبت به(5) بعد أن خضعت للمسلمين .
والرسول صلوات الله عليه عفا عما سلف من قريش تجاهه ...
لكنه استثنى منهم نفراً سماهم وأمر بقتلهم وإن وُجِدُوا تحت أستار الكعبة .
وكان في طليعة هؤلاء النفر عكرمة بن أبي جهل ؛ لذا تسلل متخفياً من مكة ، ويَمَّم وجهه شطر اليمن(1) ، إذ لم يكن له ملاذ(2) إلاَّ هناك .
عند ذلك مضت أم حكيم زوج عكرمة بن أبي جهل وهند بنت عتبة(3) إلى منزل رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ومعهما عشر نسوة ليبايعن النبي عليه السلام ، فدخلن عليه ، وعنده اثنتان من أزواجه وابنته فاطمة ونساء من نساء بني عبد المطلب ، فتكلمت هند وهي متنقِّبة(4) وقالت :
يا رسول الله ، الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه ، وإني لأسألك أن تمسَّني رَحِمُك بخير(5) ، فإني امرأةٌ مؤمنةٌ مُصَدِّقةٌ ، ثم كشفت عن وجهها وقالت :
هند بنت عتبة يا رسول الله . فقال لها الرسول عليه الصلاة والسلام :
( مرحباً بك ) .
فقالت : والله يا رسول الله ما كان على وجه الأرض بيت أحب إليَّ أن يَذِلَّ من بيتك ، ولقد أصبحت وما على وجه الأرض بيتٌ أُحَبُّ إليَّ أن يَعِزَّ من بيتك.
فقال رسول الله : (وزيادة أيضاً).
ثم قامت أم حكيم زوج عكرمة بن أبي جهل فأسلمت وقالت :
يا رسول الله ، قد هرب منك عكرمة إلى اليمن خوفاً من أن تقتله فأمِّنه أمَّنك الله ، فقال عليه السلام :
(هو آمِن).
فخرجت من ساعتها في طلبه ، ومعها غلام لها روميٌّ ، فلما أوغلا في الطريق راودها الغلام عن نفسه ، فجعلت تُمَنِّيه وتماطله حتى قدمت على حيّ من العرب فاستعانتهم عليه فأوثقوه وتركوه عندهم .
ومضت هي إلى سبيلها حتى أدركت عكرمة عند ساحل البحر في منطقة تِهامة(1) ، وهو يفاوض نوتياً(2) مسلماً على نقله ، والنُّوتيُّ يقول له :
أخلص حتى أنقلك .
فقال له عكرمة :
وكيف أُخلِص ؟
قال : تقول أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله .
فقال عكرمة : ما هربت إلا من هذا .
وفيما هما كذلك إذ أقبلت أم حكيم على عكرمة وقالت :
يا ابن عم ، جئتك من عند أفضل الناس ، وأَبَرِّ الناس ، وخير الناس ....
من عِند محمد بن عبد الله ...
وقد استأمنت لك منه فأمَّنَك فلا تُهلِك نفسك . فقال :
أنت كلَّمتِه ؟
قالت : نعم ، أنا كلمته فأمَّنك . وما زالت به تُؤَمِّنُهُ وتطمئنه حتى عاد معها.
ثم حدَّثته حديث غلامهما الرومي فمرَّ به وقتله قبل أن يُسلم .
وفيما هما في منزل نزلا به في الطريق أراد عكرمة أن يخلو بزوجه ، فأبت ذلك أشدَّ الإباء وقالت :
إني مسلمة وأنت مشرك ...
فتملكه العجب وقال : إن أمراً يحول دونك ودون الخلوة بي لأمرٌ كبير.
فلما دنا عكرمة من مكة ، قال الرسول عليه الصلاة والسلام لأصحابه :
(سيأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً ، فلا تسُبُّوا أباه ؛ فإن سبّ الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت).
وما هو إلا قليل حتى وصل عكرمة وزوجه إلى حيث يجلس رسول الله ﷺ ، فلما رآه النبي صلوات الله عليه وثب إليه من غير رداء(1) فَرَحاً به ... ولما جلس رسول الله وقف عكرمة بين يديه وقال :
يا محمد ، إن أم حكيم أخبرتني أنك أمَّنتني ... فقال النبي عليه الصلاة والسلام :
(صَدَقَت ، فأنت آمن).
فقال عكرمة : إلام تدعو يا محمد؟
قال : (أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني عبد الله ورسوله ، وأن تقيم الصلاة وأن تؤتي الزكاة..) حتى عدَّ أركان الإسلام كُلَّها.
فقال عكرمة : والله ما دعوت إلا إلى حق ، وما أمرت إلا بخير ، ثم أردف يقول :
قد كنت فينا - والله - قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثاً وأبرُّنا بِرّاً ...
ثم بسط يده وقال : إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك عبده ورسوله ، ثم قال :
يا رسول الله علمني خير شيء أقوله .
فقال : (تقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله).
فقال عكرمة : ثم ماذا؟
قال رسول الله ﷺ : (تقول : أُشهِدُ الله ، وأُشهِدُ من حَضَر أنّي مسلم مجاهد مهاجر). فقال عكرمة ذلك.
عند هذا قال له الرسول صلوات الله عليه : (اليوم لا تسألني شيئاً أعطيه أحداً إلا أعطيتك إياه) ، فقال عكرمة :
إني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها ، أو مقام لقيتك فيه ، أو كلام قلته في وجهك أو غيبتك.
فقال الرسول عليه الصلاة والسلام : (اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها ، وكل مسيرٍ سار فيه إلى موضع يريد به إطفاء نورك ، واغفر له ما نال من عِرضِي في وجهي أو أنا غائب عنه).
فتهلل وجه عكرمة بشراً وقال :
أما والله ، يا رسول الله ، لا أدع نفقة كنت أنفقتها في صدٍّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله ، ولا قتالاً قاتلته صداً عن سبيل الله إلا قاتلت ضِعفَه في سبيل الله.
ومنذ ذلك اليوم انضمَّ إلى موكب الدعوة فارس باسل في ساحات القتال ، عَبَّاد قوَّام قَرَّاء لكتاب الله في المساجد ؛ فقد كان يضع المصحف على وجهه ويقول :
كتاب ربي ... كلام ربي ... وهو يبكي من خشية الله.
بَرَّ عكرمة بما قطعه للرسول من عهد ، فما خاض المسلمون معركة بعد إسلامه إلا وخاضها معهم ، ولا خرجوا في بعث إلا كان طليعتهم.
وفي يوم اليرموك أقبل عكرمة على القتال إقبال الظَّامئ على الماء البارد في اليوم القائظ.
ولما اشتد الكرب على المسلمين في أحد المواقف ، نزل عن جواده وكسر غِمدَ سيفه ، وأوغل(1) في صفوف الروم ، فبادر إليه خالد بن الوليد وقال :
لا تفعل يا عكرمة فإن قَتْلَك سيكون شديداً على المسلمين ، فقال :
إليك عني(2) يا خالد ... فلقد كان لك مع رسول الله ﷺ سابقة ، أما أنا وأبي فقد كنا من أشد الناس على رسول الله ، فدعني أُكَفِّر عما سلف مني . ثم قال :
لقد قاتلت رسول الله ﷺ في مواطن كثيرة وأَفِرُّ من الروم اليوم ؟!.
إن هذا لن يكون أبداً.
ثم نادى في المسلمين : من يبايع على الموت ؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام ، وضرار بن الأزور في أربعمائة من المسلمين ، فقاتلوا دون فسطاط(1) خالد رضي الله عنه أشد القتال ، وذادوا عنه أكرم الذَّود.
ولما انجلت معركة اليرموك عن ذلك النصر المؤزَّر(2) للمسلمين ؛ كان يتمدد على أرض اليرموك ثلاثة مجاهدين أثخنتهم الجراح(3) هم :
الحارث بن هشام ، وعَيَّاش بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، فدعا الحارث بماء ليشربه فلما قُدِّم له نظر إله عكرمة فقال :
ادفعوه إليه .
فلما قربوه منه نظر إليه عيَّاش فقال :
ادفعوه إليه. فلما دنوا من عياش وجدوه قد قضى نحبه(4) ...
فلما عادوا إلى صاحبيه وجدوهما قد لحقا به .
رضي الله عنهم أجمعين ...
وسقاهم من حوض الكوثر شربة لا يظمأون بعدها ...
وحباهم خضراء الفردوس يرتعون فيها أبداً ...(*).
(*) للاستزادة من أخبار عكرمة بن أبي جهل انظر :
1- الإصابة (الترجمة 5640).
2- تهذيب الأسماء : 1/338.
3- خلاصة التذهيب : 228.
4- ذيل المذيل : 45.
5- تاريخ الإسلام للذهبي : 1/380.
6- رغبة الآمل : 7/224.
عكرمة بن أبي جهل
(1) صدع : جهر . (2) النكال : العذاب الشديد . (3) المناوأة : المعاداة .
(4) قرت عين الرجل : يعني أنه سر وفرح . (5) اللاَّت والعزى : صنمان لقريش.
(1) تنهل من دمه : تشرب من دمه . (4) الجذوة : الجمرة الملتهبة.
(2) القليب : بئر ألقيت فيها جثث المشركين من قتلى بدر . (5) الموتور : من قُتل له قتيل فلم يأخذ بثأره .
(3) يؤرثون : يوقدون .
(1) ضاق ذرعاً بالحصار : لم يستطع الصبر عليه وأصابه منه ضيق .
(2) أقحم جواده : أدخله بعنف .
(3) أزمعت : قررت .
(4) أُسقط في يد عكرمة : تحير وندم .
(5) نبت به : لم يبق له فيها قرار .
(1) يمم وجهه شطر اليمن : اتجه نحو اليمن .
(2) ملاذ : ملجأ .
(3) هند بنت عتبة : زوج أبي سفيان ، وهي أم معاوية رضي الله عنه .
(4) متنقبة : أي واضعة النقاب على وجهها خجلاً من رسول الله ﷺ لتمثيلها بعمه حمزة بن عبد المطلب يوم أُحد.
(5) أن تمسني رحمك بخير : أن تحسن معاملتي لما بيني وبينك من قرابة .
(1) تهامة : هو السهل الساحلي المحاذي للبحر الأحمر ، بينه وبين سلسلة جبال السراة.
(2) النوتي : البحار.
(1) الرداء : ما يلبس فوق الثياب من عباءة وجبة ونحوهما .
(1) أوغل في صفوف الروم : دخل بعيداً في صفوفهم.
(2) إليك عني : دعني واتركني.
(1) الفسطاط : بيت من شعر ، والمراد به مكان قيادة الجيش.
(2) النصر المؤزر : النصر القوي العظيم .
(3) أثخنتهم الجراح : أضعفتهم وأوهنت قواهم.
(4) قضى نحبه : فارق الحياة.