• 8 نيسان 2017
  • 7,235

سلسلة من نحب - صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم - (13) - سيدنا عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه :

 ( سيأتيكم عكرمة مؤمناً مهاجراً ، فلا تسبوا أباه ، فإنَّ سَبَّ الميت يؤذي الحيَّ ولا يبلغ الميت ) [سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم]

(مرحباً بالراكب المهاجر) [ من تحية النبي لعكرمة ]

كان في أواخر العِقد الثالث من عمره ، يوم صَدَعَ(1) نبي الرحمة بدعوة الهدى والحق.

وكان من أكرم قريش حسباً ، وأكثرهم مالآ وأعزِّهِم نسباً.

وكان جديراً به أن يُسلِم كما أسلم نظراؤه ، من أمثال سعد بن أبي وقَّاص ومُصعب بن عمير وغيرهما من أبناء البيوتات المرموقة في مكة لولا أبوه .

فمن يكون هذا الأب يا ترى ؟

إنه جبار مكة الأكبر ، وزعيم الشرك الأول ، وصاحب النكال(2) الذي امتحن الله ببطشه إيمان المؤمنين فثبتوا ، واختبر بكيده صدق الموقنين فصدقوا ...

إنه أبو جهل ، وكفى ...

هذا أبوه ، أما هو فعكرمة بن أبي جهل المخزومي ، أحد صناديد قريش المعدودين وأبرز فرسانها المرموقين .

وجد عكرمة بن أبي جهل نفسه مدفوعاً بحكم زعامة أبيه إلى مناوأة(3) محمد عليه الصلاة والسلام ؛ فعادى الرسول أشد العداء ، وآذى أصحابه أفدح الإيذاء ، وصبَّ على الإسلام والمسلمين من النكال ما قرَّت به عين أبيه(4).

ولما قاد أبوه معركة الشِّرك يوم بدر ، وأقسم باللات والعُزَّى(5) ألاَّ يعود إلى مكة إلا إذا هَزَمَ محمداً ، ونزل ببدر وأقام عليها ثلاثاً ينحر الجزور ، ويشرب الخمور ، وتعزف له القيان بالمعازف ...

لما قاد أبو جهل هذه المعركة كان ابنه عكرمة عَضُده الذي يعتمد عليه ، ويده التي يبطش بها .

ولكن اللاَّت والعُزَّى لم يلبيا نداء أبي جهل لأنهما لا يسمعان ...

ولم ينصراه في معركته لأنهما عاجزان ...

فَخَرَّ صريعاً دون بدر ، ورآه ابنه عكرمة بعينيه ، ورماح المسلمين تنهل(1) من دمه ، وسمعه بأذنيه وهو يطلق آخر صرخة انفرجت عنها شفتاه .

عاد عكرمة إلى مكة بعد أن خَلَّف جثة سيد قريش في بدر ؛ فقد أعجزته الهزيمة عن أن يظفر بها ليدفنها في مكة ، وأرغمه الفرار على تركها للمسلمين ؛ فألقوها في القليب(2) مع العشرات من قتلى المشركين ، وأهالوا عليها الرمال .

ومنذ ذلك اليوم أصبح لعكرمة بن أبي جهل مع الإسلام شأن آخر ...

فقد كان يعاديه في بادئ الأمر حَمِيَّة لأبيه فأصبح يعاديه اليوم ثأراً له .

ومن هنا انبرى عكرمة ونفرٌ ممن قُتِل آباؤهم في بدر ، يُؤرِّثون(3) نار العداوة في صدور المشركين على محمد ، ويُضرمون جذوة(4) الثأر في قلوب الموتورين(5) من قريش ، حتى كانت وقعة أُحُد .

خرج عكرمة بن أبي جهل إلى أُحُد ، وأخرج معه زوجه أم حكيم لتقف مع النسوة الموتورات في بدر وراء الصفوف ، وتضرب معهن على الدفوف ، تحريضاً لقريش على القتال ، وتثبيتاً لفرسانها إذا حدَّثتهم أنفسهم بالفرار.

وجعلت قريش على ميمنة فرسانها خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ،

وأبلى الفارسان المشركان في ذلك اليوم بلاء رَجَّح كفة قريش على محمد وأصحابه ، وحقق للمشركين النصر الكبير ؛ مما جعل أبا سفيان يقول : هذا بيوم بدر .

وفي يوم الخندق ، حاصر المشركون المدينة أياماً طويلة فنفد صبر عكرمة بن أبي جهل ، وضاق ذرعاً بالحصار(1) ، فنظر إلى مكان ضيق من الخندق ، وأقحم(2) جواده فيه فاجتازه ، ثم اجتازه وراءه بضعة نفر في أجرأ مغامرة ذهب ضحيَّتها عمرو بن عبد وُدٍّ العامريُّ ...

أما هو فلم ينجِّه إلا الفرار .

وفي يوم الفتح رأت قريش ألا قِبَلَ لها بمحمد وأصحابه ، فأزمعت(3) على أن تُخَلِّي له السبيل إلى مكة ، وقد أعانها على اتخاذ قرارها هذا ما عرفته من أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر قواده ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم من أهل مكة .

لكن عكرمة بن أبي جهل ونفراً معه خرجوا على إجماع قريش ، وتصدَّوا للجيش الكبير ، فهزمهم خالد بن الوليد في معركة صغيرة قُتِل فيها من قُتِل منهم ولاذ بالفرار من أَمْكَنَهُ الفرار ، وكان في جملة الفارِّين عكرمة بن أبي جهل .

عند ذلك أُسقِط(4) في يد عكرمة ...

فمكة نبت به(5) بعد أن خضعت للمسلمين .

والرسول صلوات الله عليه عفا عما سلف من قريش تجاهه ...

لكنه استثنى منهم نفراً سماهم وأمر بقتلهم وإن وُجِدُوا تحت أستار الكعبة .

وكان في طليعة هؤلاء النفر عكرمة بن أبي جهل ؛ لذا تسلل متخفياً من مكة ، ويَمَّم وجهه شطر اليمن(1) ، إذ لم يكن له ملاذ(2) إلاَّ هناك .

عند ذلك مضت أم حكيم زوج عكرمة بن أبي جهل وهند بنت عتبة(3) إلى منزل رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ومعهما عشر نسوة ليبايعن النبي عليه السلام ، فدخلن عليه ، وعنده اثنتان من أزواجه وابنته فاطمة ونساء من نساء بني عبد المطلب ، فتكلمت هند وهي متنقِّبة(4) وقالت :

يا رسول الله ، الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه ، وإني لأسألك أن تمسَّني رَحِمُك بخير(5) ، فإني امرأةٌ مؤمنةٌ مُصَدِّقةٌ ، ثم كشفت عن وجهها وقالت :

هند بنت عتبة يا رسول الله . فقال لها الرسول عليه الصلاة والسلام :

( مرحباً بك ) .

فقالت : والله يا رسول الله ما كان على وجه الأرض بيت أحب إليَّ أن يَذِلَّ من بيتك ، ولقد أصبحت وما على وجه الأرض بيتٌ أُحَبُّ إليَّ أن يَعِزَّ من بيتك.

فقال رسول الله : (وزيادة أيضاً).

ثم قامت أم حكيم زوج عكرمة بن أبي جهل فأسلمت وقالت :

يا رسول الله ، قد هرب منك عكرمة إلى اليمن خوفاً من أن تقتله فأمِّنه أمَّنك الله ، فقال عليه السلام :

(هو آمِن).

فخرجت من ساعتها في طلبه ، ومعها غلام لها روميٌّ ، فلما أوغلا في الطريق راودها الغلام عن نفسه ، فجعلت تُمَنِّيه وتماطله حتى قدمت على حيّ من العرب فاستعانتهم عليه فأوثقوه وتركوه عندهم .

ومضت هي إلى سبيلها حتى أدركت عكرمة عند ساحل البحر في منطقة تِهامة(1) ، وهو يفاوض نوتياً(2) مسلماً على نقله ، والنُّوتيُّ يقول له :

أخلص حتى أنقلك .

فقال له عكرمة :

وكيف أُخلِص ؟

قال : تقول أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله .

فقال عكرمة : ما هربت إلا من هذا .

وفيما هما كذلك إذ أقبلت أم حكيم على عكرمة وقالت :

يا ابن عم ، جئتك من عند أفضل الناس ، وأَبَرِّ الناس ، وخير الناس ....

من عِند محمد بن عبد الله ...

وقد استأمنت لك منه فأمَّنَك فلا تُهلِك نفسك . فقال :

أنت كلَّمتِه ؟

قالت : نعم ، أنا كلمته فأمَّنك . وما زالت به تُؤَمِّنُهُ وتطمئنه حتى عاد معها.

ثم حدَّثته حديث غلامهما الرومي فمرَّ به وقتله قبل أن يُسلم .

وفيما هما في منزل نزلا به في الطريق أراد عكرمة أن يخلو بزوجه ، فأبت ذلك أشدَّ الإباء وقالت :

إني مسلمة وأنت مشرك ...

فتملكه العجب وقال : إن أمراً يحول دونك ودون الخلوة بي لأمرٌ كبير.

فلما دنا عكرمة من مكة ، قال الرسول عليه الصلاة والسلام لأصحابه :

(سيأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً ، فلا تسُبُّوا أباه ؛ فإن سبّ الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت).

وما هو إلا قليل حتى وصل عكرمة وزوجه إلى حيث يجلس رسول الله ﷺ ، فلما رآه النبي صلوات الله عليه وثب إليه من غير رداء(1) فَرَحاً به ... ولما جلس رسول الله وقف عكرمة بين يديه وقال :

يا محمد ، إن أم حكيم أخبرتني أنك أمَّنتني ... فقال النبي عليه الصلاة والسلام :

(صَدَقَت ، فأنت آمن).

فقال عكرمة : إلام تدعو يا محمد؟

قال : (أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني عبد الله ورسوله ، وأن تقيم الصلاة وأن تؤتي الزكاة..) حتى عدَّ أركان الإسلام كُلَّها.

فقال عكرمة : والله ما دعوت إلا إلى حق ، وما أمرت إلا بخير ، ثم أردف يقول :

قد كنت فينا - والله - قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثاً وأبرُّنا بِرّاً ...

ثم بسط يده وقال : إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك عبده ورسوله ، ثم قال :

يا رسول الله علمني خير شيء أقوله .

فقال : (تقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله).

فقال عكرمة : ثم ماذا؟

قال رسول الله ﷺ : (تقول : أُشهِدُ الله ، وأُشهِدُ من حَضَر أنّي مسلم مجاهد مهاجر). فقال عكرمة ذلك.

عند هذا قال له الرسول صلوات الله عليه : (اليوم لا تسألني شيئاً أعطيه أحداً إلا أعطيتك إياه) ، فقال عكرمة :

إني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها ، أو مقام لقيتك فيه ، أو كلام قلته في وجهك أو غيبتك.

فقال الرسول عليه الصلاة والسلام : (اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها ، وكل مسيرٍ سار فيه إلى موضع يريد به إطفاء نورك ، واغفر له ما نال من عِرضِي في وجهي أو أنا غائب عنه).

فتهلل وجه عكرمة بشراً وقال :

أما والله ، يا رسول الله ، لا أدع نفقة كنت أنفقتها في صدٍّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله ، ولا قتالاً قاتلته صداً عن سبيل الله إلا قاتلت ضِعفَه في سبيل الله.

ومنذ ذلك اليوم انضمَّ إلى موكب الدعوة فارس باسل في ساحات القتال ، عَبَّاد قوَّام قَرَّاء لكتاب الله في المساجد ؛ فقد كان يضع المصحف على وجهه ويقول :

كتاب ربي ... كلام ربي ... وهو يبكي من خشية الله.

بَرَّ عكرمة بما قطعه للرسول من عهد ، فما خاض المسلمون معركة بعد إسلامه إلا وخاضها معهم ، ولا خرجوا في بعث إلا كان طليعتهم.

وفي يوم اليرموك أقبل عكرمة على القتال إقبال الظَّامئ على الماء البارد في اليوم القائظ.

ولما اشتد الكرب على المسلمين في أحد المواقف ، نزل عن جواده وكسر غِمدَ سيفه ، وأوغل(1) في صفوف الروم ، فبادر إليه خالد بن الوليد وقال :

لا تفعل يا عكرمة فإن قَتْلَك سيكون شديداً على المسلمين ، فقال :

إليك عني(2) يا خالد ... فلقد كان لك مع رسول الله ﷺ سابقة ، أما أنا وأبي فقد كنا من أشد الناس على رسول الله ، فدعني أُكَفِّر عما سلف مني . ثم قال :

لقد قاتلت رسول الله ﷺ في مواطن كثيرة وأَفِرُّ من الروم اليوم ؟!.

إن هذا لن يكون أبداً.

ثم نادى في المسلمين : من يبايع على الموت ؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام ، وضرار بن الأزور في أربعمائة من المسلمين ، فقاتلوا دون فسطاط(1) خالد رضي الله عنه أشد القتال ، وذادوا عنه أكرم الذَّود.

ولما انجلت معركة اليرموك عن ذلك النصر المؤزَّر(2) للمسلمين ؛ كان يتمدد على أرض اليرموك ثلاثة مجاهدين أثخنتهم الجراح(3) هم :

الحارث بن هشام ، وعَيَّاش بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، فدعا الحارث بماء ليشربه فلما قُدِّم له نظر إله عكرمة فقال :

ادفعوه إليه .

فلما قربوه منه نظر إليه عيَّاش فقال :

ادفعوه إليه. فلما دنوا من عياش وجدوه قد قضى نحبه(4) ...

فلما عادوا إلى صاحبيه وجدوهما قد لحقا به .

رضي الله عنهم أجمعين ...

وسقاهم من حوض الكوثر شربة لا يظمأون بعدها ...

وحباهم خضراء الفردوس يرتعون فيها أبداً ...(*).

(*) للاستزادة من أخبار عكرمة بن أبي جهل انظر :

1- الإصابة (الترجمة 5640).

2- تهذيب الأسماء : 1/338.

3- خلاصة التذهيب : 228.

4- ذيل المذيل : 45.

5- تاريخ الإسلام للذهبي : 1/380.

6- رغبة الآمل : 7/224.

عكرمة بن أبي جهل

 

(1) صدع : جهر .                     (2) النكال : العذاب الشديد .            (3) المناوأة : المعاداة .

(4) قرت عين الرجل : يعني أنه سر وفرح .                    (5) اللاَّت والعزى : صنمان لقريش.

(1) تنهل من دمه : تشرب من دمه .                             (4) الجذوة : الجمرة الملتهبة.

(2) القليب : بئر ألقيت فيها جثث المشركين من قتلى بدر .  (5) الموتور : من قُتل له قتيل فلم يأخذ بثأره .

(3) يؤرثون : يوقدون .

(1) ضاق ذرعاً بالحصار : لم يستطع الصبر عليه وأصابه منه ضيق .

(2) أقحم جواده : أدخله بعنف .

(3) أزمعت : قررت .

(4) أُسقط في يد عكرمة : تحير وندم .

(5) نبت به : لم يبق له فيها قرار .

(1) يمم وجهه شطر اليمن : اتجه نحو اليمن .

(2) ملاذ : ملجأ .

(3) هند بنت عتبة : زوج أبي سفيان ، وهي أم معاوية رضي الله عنه .

(4) متنقبة : أي واضعة النقاب على وجهها خجلاً من رسول الله ﷺ لتمثيلها بعمه حمزة بن عبد المطلب يوم أُحد.

(5) أن تمسني رحمك بخير : أن تحسن معاملتي لما بيني وبينك من قرابة .

(1) تهامة : هو السهل الساحلي المحاذي للبحر الأحمر ، بينه وبين سلسلة جبال السراة.

(2) النوتي : البحار.

(1) الرداء : ما يلبس فوق الثياب من عباءة وجبة ونحوهما .

(1) أوغل في صفوف الروم : دخل بعيداً في صفوفهم.

(2) إليك عني : دعني واتركني.

(1) الفسطاط : بيت من شعر ، والمراد به مكان قيادة الجيش.

(2) النصر المؤزر : النصر القوي العظيم .

(3) أثخنتهم الجراح : أضعفتهم وأوهنت قواهم.

(4) قضى نحبه : فارق الحياة.

مقالات ذات صلة :