• 9 نيسان 2017
  • 27,995

سلسلة من نحب - صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم – (11) – سيدنا عبد الله بن جحش رضي الله عنه :

(( أول من دعي بأمير المؤمنين ))

الصحابي الذي نسوق عنه الحديث - الآن - وثيق الصلة برسول الله ﷺ، وواحد من أصحاب الأوَّليَّات في الإسلام.

فهو ابن عمة رسول الله ﷺ، ذلك لأن أمه أميمة بنت عبد المطلب كانت عمة النبي عليه الصلاة والسلام.

وهو صهر رسول الله ﷺ، ذلك لأن أخته زينب بنت جحش كانت زوجة النبي الكريم، وإحدى أمهات المؤمنين.

وهو أول من عُقِد له لواء في الإسلام ...

وهو بعد ذلك أول من دُعِيَ أمير المؤمنين.

إنه عبد الله بن جحش الأسديُّ.

أسلم عبد الله بن جحش، قبل أن يدخل النبي عليه الصلاة والسلام دار الأرقم، فكان من السابقين إلى الإسلام.

ولما أُذِنَ النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه بالهجرة إلى المدينة، فراراً بدينهم من أذى قريش، كان عبد الله بن جحش ثاني المهاجرين إذ لم يسبقه إلى هذا الفضل إلا أبو سلمة.

على أن الهجرة إلى الله، ومفارقة الأهل والوطن في سبيله، لم تكن أمراً جديداً على عبد الله بن جحش، فقد هاجر هو وبعض ذويه قبل ذلك إلى الحبشة.

لكن هجرته هذه المرة كانت أشمل وأوسع، فقد هاجر أهله وذووه، وسائر بني أبيه رجالاً ونساءً، وشيباً وشُبّاناً وَصِبيَةً وصبيَّات، فقد كان بيته بيت إسلام، وقبيله قبيل إيمان.

فما إن فصلوا(1) عن مكة حتى بدت ديارهم حزينة كئيبة، وغدت خواءً خلاءً كأن لم يكن فيها أنيس من قبل، ولم يسمر في ربوعها سامر.

ولم يمض غير قليل على هجرة عبد الله ومن معه حتى خرج زعماء قريش يطوفون في أحياء مكة، لمعرفة من رحل عنها من المسلمين ومن بَقِيَ منهم، وكان فيهم أبو جهل وعُتبَة بن ربيعة.

فنظر عتبة إلى منازل بني جحش تتناوح فيها الرياح السافيات(1)، وتخفق(2) أبوابها خفقاً وقال:

أصبحت ديار بني جحش خلاء تبكي أهلها ...

فقال أبو جهل: ومَن هؤلاء حتى تبكيهم الديار ؟!!

ثم وضع أبو جهل يده على دار عبد الله بن جحش، فقد كانت أجمل هذه الدور وأغناها، وجعل يتصرَّف فيها وفي متاعها كما يتصرف المالك في ملكه.

فلما بلغ عبد الله بن جحش ما صنع أبو جهل بداره، ذكر ذلك لرسول الله ﷺ، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام:

(ألا ترضى يا عبد الله، أن يعطيك الله بها داراً في الجنة؟).

قال: بلى يا رسول الله.

قال: (فذلك لك).

فطابت نفس عبد الله وقرَّت عينه.

ما كاد عبد الله بن جحش يستقر في المدينة بعدما تكبَّده من نَصَبٍ في هجرتيه الأولى والثانية.

وما كاد يذوق شيئاً من طعم الراحة في كنف الأنصار، بعدما ناله من أذىً على يد قريش، حتى شاء الله أن يتعرَّض لأقسى امتحان عرفه في حياته، وأن يعاني أعنف تجربة لَقِيَها منذ أسلم.

فلنرهف السمع لقصة تلك التجربة القاسية المُرَّة.

انتدب الرسول صلوات الله عليه ثمانيةً من أصحابه للقيام بأول عمل عسكريٍّ في الإسلام، فيهم عبد الله بن جحش وسعد بن أبي وقَّاص وقال: (لأُؤَمِرَنَّ عليكم أصبركم على الجوع والعطش)، ثم عقد لواءهم(1) لعبد الله بن جحش، فكان أول أمير أُمِّرَ على طائفة من المؤمنين(2).

حدَّد الرسول الكريم لعبد الله بن جحش وِجهَتَه وأعطاه كتاباً، وأمره ألاَّ ينظر فيه إلاَّ بعد مسيرة يومين.

فلما انقضى على مسيرة السَّرِيَّة يومان نظر عبد الله في الكتاب فإذا فيه:

(إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل "نخلة" بين الطائف ومكة، فترصَّد بها قُرَيشاً، وقِفْ لنا على أخبارهم ...).

وما إن أتَمَّ عبد الله الكتاب حتى قال: سمعاً وطاعة لنبي الله، ثم قال لأصحابه:

إن رسول الله ﷺ أمرني أن أمضي إلى "نخلة" لأَرصُدَ قريشاً حتى آتيه بأخبارهم، وقد نهاني عن أن أَستَكرِه أحداً منكم على المُضِيِّ معي، فمن كان يريد الشهادة ويرغب فيها فليصحبني، ومن كره ذلك فليرجع غير مذموم.

فقال القوم: سمعاً وطاعة لرسول الله ﷺ، إنما نمضي معك حيث أمرك نبي الله.

ثم سار القوم حتى بلغوا "نخلة" وطفقوا يجوسون(3) خلال الدروب لِيَتَرَصَّدوا أخبار قريش.

وفيما هم كذلك أبصروا عن بعد قافلة لقريش فيها أربعة رجال هم عمرو ابن الحضرميِّ، والحكم بن كَيسان، وعثمان بن عبد الله، وأخوه المُغَيرة ومعهم تجارة لقريش فيها جلود وزبيب ونحوها مما كانت تَتَّجِرُ به قريش.

عند ذلك أخذ الصحابة يتشاورون فيما بينهم، وكان اليوم آخر يوم من الأشهر الحُرُم(1)، فقالوا:

إن قتلناهم فإنما نقتلهم في الشهر الحرام، وفي ذلك ما فيه من إهدار حُرمةِ هذا الشهر والتعرض لسُخط العرب جميعاً ...

وإن أمهلناهم حتى ينقضي هذا اليوم دخلوا في أرض الحَرَم(2) وأصبحوا في مأمن مِنَّا.

وما زالوا يتشاورون حتى أجمعوا رأيهم على الوثوب عليهم وقتلهم وأخذ ما في أيديهم غنيمة ... وفي لحظات قتلوا واحداً منهم وأسروا اثنين، وفرَّ الرابع من أيديهم.

استاق عبد الله بن جحش وصَحبُه الأسيرين والعير متوجهين إلى المدينة، فلما قَدِموا على رسول الله ﷺ، ووقف على ما فعلوه استنكره أشدَّ الاستنكار، وقال لهم:

(والله ما أمرتكم بقتال، وإنما أمرتكم أن تقفوا على أخبار قريش، وأن ترصدوا حركتها ...).

وأوقف الأسيرين حتى ينظر في أمرهما ... وأعرض عن العير فلم يأخذ منها شيئاً.

عند ذلك سُقِطَ في أيدي عبد الله بن جحش وأصحابه، وأيقنوا أنهم هلكوا بمخالفتهم لأمر رسول الله ﷺ.

وزاد عليهم الأمر ضيقاً أن إخوانهم من المسلمين طفقوا يكثرون عليهم من اللوم، ويَزْوَرُّون عنهم كلَّما مروا بهم ويقولون:

خالَفُوا أمر رسول الله ﷺ.

وقد ازدادوا حرجاً على حرج حين علموا أن قريشاَ اتخذت من هذه الحادثة ذريعة(3) للنَّيل من رسول الله ﷺ، والتشهير به بين القبائل، فكانت تقول:

إن محمداً قد استحلَّ الشهر الحرام، فسفك فيه الدم، وأخذ المال، وأسر الرجال ...

فلا تَسَلْ عن مبلغ حزن عبد الله بن جحش وأصحابه على ما فرط(1) منهم، ولا عن خجلتهم من رسول الله ﷺ لما أوقعوه فيه من الحرج.

ولما اشتدَّ عليهم الكرب وثقل عليهم البلاء، جاءهم البشير يبشِّرهم بأن الله سبحانه قد رضي عن صنيعهم، وأنه أنزل على نبيه في ذلك قرآناً ...

فلا تَسَلْ عن مدى فرحتهم، وقد طفق الناس يُقبِلون عليهم معانقين مبشِّرين مهنِّئين وهم يتلون ما نزل في عملهم من قرآنٍ مجيدٍ.

فلقد نزل على النبي قول الله علت كلمته:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّـهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}(2).

فلمَّا نزلت الآيات الكريمات طابت نفس الرسول الكريم صلوات الله عليه، فأخذ العير وفدى الأسيرين، ورضي عن صنيع عبد الله بن جحش وأصحابه إذ كانت غزوتهم هذه حدثاً كبيراً في حيات المسلمين، فغنيمتها أول غنيمة أُخِذَت في الإسلام، وقتيلها أول مشرك أراق المسلمون دمه، وأسيراها أول أسيرين وقعا في أيدي المسلمين، ورايتها أول راية عقدتها يدُ رسول الله صلوات الله عليه، وأميرها عبد الله بن جحش أول من دُعِي بأمير المؤمنين.

ثم كانت بدر فأبلى فيها عبد الله بن جحش من كريم البلاء ما يليق بإيمانه.

ثم جاءت أُحدٌ فكان لعبد الله بن جحش وصاحبه سعد بن أبي وقَّاص معها قصة لا تُنسى، فلنترك الكلام لسعد ليروي لنا قصته وقصة صاحبه.

قال سعد بن أبي وقاص: لما كانت أُحدٌ لَقِيني عبد الله بن جحش وقال: ألا تدعو الله ؟ فقلت: بلى.

فخلونا في ناحية فدعوت فقلت:

يا ربِّ إذا لقيت العدوَّ فَلَقِّني رجلاً شديداً بأسُه، شديداً حَرَده(1) أقاتله ويقاتلني، ثم ارزقني الظَّفَرَ عليه حتى أقتله وآخذ سلبه، فأمَّن عبد الله بن جحش على دعائي، ثم قال:

اللهم ارزقني رجلاً شديداً حَرَدُه شديداً بأسه أقاتله فيك ويقاتلني ثم يأخُذُني فيجدعُ أنفي وأذني فإذا لقيتك غداً قلت:

فيم جُدِع أنفُك وأُذُنك ؟

فأقول: فيك وفي رسولك فتقول:

صدقت ...

قال سعد بن أبي وقَّاص: لقد كانت دعوة عبد الله بن جحش خيراً من دعوتي، فلقد رأيته آخر النهار، وقد قُتِلَ ومُثِّل به، وإن أنفه وأذنه لمُعَلَّقان على شجرة بخيط.

استجاب الله دعوة عبد الله بن جحش، فأكرمه بالشهادة كما أكرم بها خاله سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب.

فواراهما الرسول الكريم معاً في قبر واحد، ودموعه الطاهرة تُرَوِّي ثراهُما المضمَّخَ بطيوب الشهادة(*).

(*) للاستزادة من أخبار عبد الله بن جحش انظر:

1- الإصابة: الترجمة 4574.

2- إمتاع الأسماع: 1/55.

3- حلية الأولياء: 1/108.

4- حسن الصحابة: 300.

5- مجموعة الوثائق السياسية: 8.

 

(1) فصلوا عن مكة: خرجوا عن مكة.

(1) السافيات: التي تثير التراب.                                      (2) وتخفق: تقرَع.

(1) عقد لواءهم: أمَّر عليهم.

(2) وروي أن أول لواء عقد في الإسلام كان لحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وقيل غير ذلك.

(3) يجوسون: يدورون ويبحثون.

(1) الأشهر الحُرُم: ذو القعدة وذو الحجة ومحرَّمُ ورجب، وكانت العرب تحرِّم فيها القتال.

(2) دخلوا في أرض الحرم: أي أصبح قتالهم محرَّماً علينا بسبب دخولهم في أرض الحرم المِكي.

(3) الذريعة: الوسيلة.

(1) فرط منهم: وقع منهم.    (2) البقرة: 217.

(1) حرده: غضبه وثورته.

 

مقالات ذات صلة :