• 9 نيسان 2017
  • 4,692

سلسلة من نحب - الله تعالى – (8) – البَرّ :

وقد ورد في القرآن الكريم في موضع واحد، وهو قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28]، ومعناه: أي: الذي شمل الكائنات بأسرها ببره ومنِّه وعطائه، فهو مولي النعم، واسع العطاء، دائم الإحسان، لم يزل ولا يزال بالبر والعطاء موصوفاً، وبالمنِّ والإحسان معروفاً، تفضل على العباد بالنعم السابغة، والعطايا المتتابعة، والآلاء المتنوعة، ليس لجوده وبره وكرمه مقدار، فهو سبحانه ذو الكرم الواسع والنوال المتتابع، والعطاء المدرار.

وبرُّه سبحانه بعباده نوعان: عام وخاص.

فالعام: وَسِعَ الخلق كلَّهم، فما من شخص إلا وسعه منُّ الله تعالى وفاض عليه إحسانه، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، وهذا التكريم يدخل فيه خلق الإنسان على هذه الهيئة الحسنة والصورة الجميلة، والقامة الطيبة، وجعل له سمعا وبصرا وفؤادا، وجعله يمشي قائما منتصبا على رجليه، ويأكل بيده، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع، ويأكل بفمه، وخصه بأنواع من المطاعم والمشارب والملابس، إلى غير ذلك مما خص به بني آدم وكرمهم به.

والخاصّ: هو هدايته من شاء منهم لهذا الدين القويم، وتوفيقهم لطاعة ربّ العالمين، ونيل ما يترتب على ذلك من السّعادة في الدّنيا والآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13]، أي: في دورهم الثلاثة: في الدنيا، والبرزخ، ويوم القيامة، وتفاصيل بره بعباده وأصفيائه أمر لا يمكن حصره، ولا سبيل إلى استقصائه.

فمِن برِّه بهم أنه تبارك وتعالى يريد بهم اليسر، ولا يريد بهم العسر، يتقبل منهم القليل من العمل، ويثيب عليه الثواب الكثير، ويعفو عن كثير من سيئاتهم، ولا يؤاخذهم بجميع جناياتهم، ويجزيهم بالحسنة عشر أمثالها، ويضاعف لمن يشاء، ولا يجزي بالسيِّئة إلَّا مثلها، ويكتب لهم الهم بالحسنة، ولا يكتب عليهم الهم بالسيئة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "مَن همَّ بحسنة فلم يعملها كُتبت له حسنة، ومن همَّ بحسنة فعملها كُتبت له عشراً إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيِّئةٍ فلم يعملها لم تُكتب، وإن عملها كُتبت"، رواه مسلم(1).

ومِن برِّهِ بعباده فتحه أبواب الإنابة والتوبة والأوبة إليه مهما كثرت الذنوب وتعددت الآثام، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

وفي الحديث القدسي يقول تعالى: "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أُبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة"(2).

ومن برِّهِ بهم معاملتهم بالصفح والعفو وستر الذنوب والتجاوز عنها، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه، ويستره، فيقول: أتعرفُ ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي ربّ، حتى إذا قرَّره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال الله: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: {هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]" متفق عليه(3).

ومطالعة العبد لهذا البرّ العظيم من سيده ومولاه نافع له غاية النفع؛ إذ به يعرف عزة الله في قضائه، وبره في ستره، وحلمه في إمهاله، وكرمه في تيسيره لعبده التوبة والإنابة، وفضله في مغفرته، وهذا يسوق العبد إلى حُسن الإقبال على مولاه خضوعاً وتذلُّلاً، رغباً ورهباً، رجاءً وطمعاً.

قال ابن القيِّم رحمه الله: "... يعرف برّه سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له، ولو شاء لَفضَحه بين خلقه فحَذِرُوه، وهذا من كمال برِّه، ومن أسمائه: "البرّ"، وهذا البر من سيِّده عن كمال غناه عنه، وكمال فقر العبد إليه، فيشتغل بمطالعة هذه المنة ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم، فيذهل عن ذكر الخطيئة، فيبقى مع الله سبحانه، وذلك أنفع له من الاشتغال بجنايته، وشهود ذل معصيته، فإن الاشتغال بالله والغفلة عما سواه هو المطلب الأعلى والمقصد الأسنى"(1).

وما نبَّه عليه رحمه الله أمرٌ يغفل عنه كثير من التائبين، فينشغلون بعظم الذنوب التي ارتكبوها وكثرتها ويغفلون عن ذكر سَعَة برِّ الله وعِظَم مَنِّه وجزيل كَرمه.

ومِن عظيم برِّه بعباده أنه سبحانه - مع كمال غناه - يفرح بتوبة التائبين وإنابة المنيبين، ففي "صحيح مسلم"(2) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "لله أشدُّ فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلة بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأَيِسَ منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلِّها قد أَيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدَّة الفَرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربُّك، أخطأ مِن شدَّة الفَرَح".

ولهذا الفرح شأنٌ لا ينبغي للعبد إهماله والإعراض عنه؛ إذ إن مطالعته من أعظم ما يُكسب القلب طمأنينة وشوقا إلى الله ولهجا بذكره وشهودا لبره ولطفه وكرمه وإحسانه، وأنه سبحانه أجود الأجودين وأكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.

ومما ينبغي أن يعلم هنا أنَّ البَرَّ سبحانه يحب أهل البِرِّ، فيقرب قلوبهم منه بحسب ما قاموا به من البر، ويحب أعمال البر، فيجازي عليها بالهدى والفلاح والرفعة في الدنيا والآخرة، والبر أصله التوسع في فعل الخيرات، وأجمع الآيات لخصاله قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

وقال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 192]، قال قتادة رحمه الله: "لن تنالوا برَّ ربِّكم حتى تنفقوا مما يعجبكم ومما تَهْوَوْنَ من أموالكم"(1).

ألهمنا الله جميعا رشد أنفسنا، ورزقنا من فضله وبره وجوده ما لا نحتسب، إنه سميع مجيب.

****

 

(1) (رقم: 130).

(2) سبق تخريجه.

(3) رواه البخاري (رقم: 2309) - واللفظ له -، ومسلم (رقم: 2768).

(1) "مدارج السالكين" (1/ 206).

(2) (رقم: 2747).

(1) انظر: "تفسير ابن جرير الطبري" (3/ 666).

 

مقالات ذات صلة :