• 10 نيسان 2017
  • 4,694

سلسلة من نحب - الله تعالى – (18) - اللّطيف، الخبير :

وهما اسمان تكرَّر ورودهما مجتمعين في عدَّة آيات من القرآن الكريم، قال الله تعالى: {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ۗ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج: 63]، وقال تعالى في ذكر وصية لقمان الحكيم لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان: 16]، وقال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34].

أمَّا الخبير: فمعناه: الذي أدرك علمُه السرائر، واطّلع على مكنون الضّمائر، وعلم خفيات البذور، ولطائف الأمور، ودقائق الذّرّات، فهو اسم يرجع في مدلوله إلى العلم بالأمور الخفية التي هي في غاية اللطف والصغر، وفي غاية الخفاء، ومن باب أولى وأحرى علمه بالظواهر والجليات.

وقد مضى الكلام عن صفة العلم وإحاطة علمه سبحانه بكلِّ شيء، وأنّه عزّ وجلّ أحاط بكلِّ شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً.

وأمّا اللّطيف فله معنيان:

أحدهما: بمعنى الخبير، وهو أن علمه دقَّ ولطُف حتّى أدرك السّرائر والضّمنائر والخفيات.

والمعنى الثاني: الذي يوصل إلى عباده وأوليائه مصالحهم بلطفه وإحسانه من طرق لا يشعرون بها.

قال ابن القيّم رحمه الله في "نونيته"(1):

(1) (ص / 244- ط. دار ابن خزيمة).

وهو اللّطيفُ بعبده ولعبدِه                  واللُّطفُ في أَوْصافه نَوْعان

إدراكُ أسرارِ الأمورِ بخبرةٍ                واللّطفُ عند مواقع الإحسان

فيُريكَ عزَّته ويُبدي لُطْفه                   والعبد في الغفلات عن ذا الشان

فلطف الله بعبده هو من الرّحمة، بل هو رحمة خاصّة، فالرّحمة التي تصل إلى العبد من حيث لا يشعر بها أو لا يشعر بأسبابها هي اللّطف.

يقال: لَطَف الله بعبده، ولَطَف له: أي تولاَّه ولايةً خاصّة، بها تصلح أحواله الظاهرة والباطنة، وبها تندفع عنه جميع المكروهات من الأمور الدّاخلية، والأمور الخارجيّة، فالأمور الدّاخلية لطفٌ بالعبد، والأمور الخارجية لطف للعبد، فإذا يسّر الله أمور عبده وسهّل له طرق الخير وأعانه عليها فقد لطف به، وإذا قيّض له أسباباً خارجيّةً غير داخلةٍ تحت قدرة العبد فيها صلاحه فقد لطف له؛ ولهذا في قصّة يوسف عليه السّلام حيث قدر الله أموراً كثيرة خارجيّة عادتْ عاقبتُه الحميدة إلى يوسف وأبيه، وكانت في مبادئها مكروهة للنّفوس، ولكن صارتْ عواقبها أحمد العواقب، وفوائدها أجلّ الفوائد؛ ولذا قال عليه السلام: {إِنَّ رَ‌بِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ} [يوسف: 100]، أي: إنّ هذه الأشياء التي حصلت، لطفٌ لطفه الله له، فاعترف بهذه النّعمة.

ولُطف الله بعبده وله بابٌ واسع، ويتفضّل الله بما شاء منه على من يشاء من عباده ممن يعلمه محلاًّ لذلك وأهلاً له، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

ومن لطفه بعباده المؤمنين أنه يتولاهم بلطفه فيخرجهم من الظّلمات إلى النّور، من ظلمات الجهل والكفر والبدع والمعاصي إلى نور العلم والإيمان والطّاعة.

ومن لطفه بهم أنه يقيهم طاعةَ أنفسهم الأمّارة بالسُّوء التي هذا طبعها فيوفقهم لنهي النفس عن الهوى، ويصرف عنهم السوء والفحشاء مع توافر أسباب الفتنة وجواذب المعاصي والشّهوات، فيمنُّ عليهم ببرهان لطفه ونور إيمانهم الذي منَّ عليهم به، فَيَدَعونها مطمئنةً لتركها نفوسُهم، منشرحة للبعد عنها صدورُهم.

ومن لطفه بعباده أنه يقدر أرزاقهم بحسب علمه بمصلحتهم، لا بحسب مراداتهم، فقد يريدون شيئاً وغيره أصلح، فيقدّر لهم الأصلح وإن كرهوه لطفاً بهم، {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [الشورى: 19].

ومن لطفه بهم أنه يقدر عليهم أنواعاً من المصائب وضروباً من البلايا والمحن سوقاً لهم إلى كمالهم وكمال نعيمهم.

ومن لطفه بعبده أن يقدِّر له أن يتربَّى في ولاية أهل الصّلاح والعلم والإيمان، وبين أهل الخير، ليكتسب من أدبهم وتأديبهم، وأن ينشأ كذلك بين أبوين صالحين، وأقارب أتقياء وفي مجتمع صالح، فهذا من أعظم اللطف بالعبد؛ فإنّ صلاح العبد موقوف على أسباب كثيرة من أعظمها نفعاً هذه الحالة.

ومن لطف الله بعبده أن يجعل رزقه حلالاً في راحة وقناعة يحصل به المقصود، ولا يشغله عمّا خلق له من العبادة والعلم والعمل به، بل يعينه على ذلك.

ومن لطف الله بعبده أن يقيّض له إخواناً صالحين ورفقاء متّقين يعينونه على الخير، ويشدّون من أزره في سلوك سبيل الاستقامة، والبعد عن سبل الهلاك والانحراف.

ومن لطف الله بعبده أن يبتليه ببعض المصائب فيوفقه للقيام بوظيفة الصّبر فيها، فيُنِيلُه رفيع الدّرجات وعالي الرّتب، وأن يكرمه بأن يوجد في قلبه حلاوة روح الرّجاء وتأميل الرّحمة وانتظار الفرج وكشف الضّر، فيخف ألمه وتنشط نفسه.

قال ابن القيِّم رحمه الله: "فإنَّ انتظاره ومطالعته وترقّبه يخفّف حمل المشقّة، ولا سيما عند قوّة الرَّجاء أو القطع بالفرج فإنه يجد في حشو البلاء من روح الفرج ونسيمه وراحته ما هو من خفي الألطاف وما هو فرج معجّل، وبه وبغيره يفهم معنى اسمه اللطيف"(1) اهـ.

وكم هو نافع للعبد أن يعرف معنى هذا الاسم العظيم ودلالته، وأن يجاهد نفسه على تحقيق الإيمان به والقيام بما يقتضيه من عبودية لله عزّ وجلّ، فيمتلئ قلبه رجاء وطمعاً في نيل فضل الله والظفر بنعمه وعطاياه، متحرّياً في كلّ أحواله الفوز بالعواقب الحميدة والمآلات الرّشيدة، واثقاً بربِّه اللّطيف، ومولاه الكريم، ذي النِّعم السوابغ والعطاء والنوال، ومن يتحرَّ الخير يُعطَه، ومن يتوقَّ الشّرَّ يوقَه، والفضل بيد الله وحده يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

****

 

(1) "مدارج السالكين" (2 / 167).

مقالات ذات صلة :