• 4 تموز 2016
  • 28,818

الوحي وأنواعه - معلومات شيقة

من كتاب: الموسوعة القرآنية المتخصصة لمجموعة من الأساتذة والعلماء المتخصصين .

 

الإيمان بالوحي الإلهي ضرورة حتمية للإيمان بالقرآن وبالرسالة ؛ لأن الوحي هو وسيلة إنزال القرآن على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم كما صرح بذلك في قوله تعالى: ((وكذلك أوحينا إليك قُرآناً عربيًّا لتُنذر أُمّ القُرى ومن حولها ))  (سورة الشورى: الآية 7)

ومن ثم كانت قضية الوحي بأبعادها المختلفة لها عظيم الأهمية في مجال البحث القرآني مما يستلزم إلقاء الضوء عليها وإزالة اللبس المكتنف لها.

ويعرّف الوحي لغة: بأنه الإعلام في خفاء، وأصله كما قال الراغب: الإشارة السريعة. ومجمع القول في معناه اللغوي: أنه الإعلام الخفي السريع الخاص بمن يوجّه إليه بحيث يخفى على غيره ، ويتفرع عن هذا المدلول اللغوي عدة معان للوحي كالإشارة والكتاب والرسالة والأمر والتفهيم .

أما الوحي بمعناه الشرعي: فهو إعلام الله تعالى لنبي من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه بطريقة خفية غير معتادة للبشر .

وللوحي إطلاقات عديدة ورد بها في القرآن الكريم مفرعة عن المدلول اللغوي الأصلي لمادة «الوحي» و «الإيحاء»:

- فمن ذلك: إطلاق الوحي بمعنى الإلهام الفطري للإنسان كما في قوله تعالى:

(( وأوحينا إلى أُمّ مُوسى أن أرضعيه )) (سورة القصص: الآية 7)

وقوله تعالى: (( وإذ أوحيتُ إلى الحواريّين أن آمنُوا بي وبرسُولي )) (سورة المائدة: الآية 111 ).

- ومن ذلك: إطلاق الوحي بمعنى الإلهام الغريزي للحيوان؛ كما في قوله تعالى:

(( وأوحي ربُّك إلى النّحل أن اتّخذي من الجبال بُيُوتاً ومن الشّجر وممّا يعرشُون )) (سورة النحل: الآية 68 ).

- ومن ذلك: إطلاق الوحي مُراداً به الإشارة السريعة على سبيل الرمز والإيماء كما في قوله تعالى في حق نبي الله زكريا- عليه السلام-:

(( فخرج على قومه من المحراب فأوحي إليهم أن سبّحُوا بُكرةً وعشيًّا )) (سورة مريم: الآية 11).

- ومن ذلك: إطلاق الوحي بمعنى وسوسة الشيطان وتزيينه الشر للإنسان؛ كما في قوله تعالى: (( ... وإنّ الشّياطين ليُوحُون إلى أوليائهم ليُجادلُوكُم وإن أطعتُمُوهُم إنّكُم لمُشركُون ... )) (سورة الأنعام: الآية 121).

- وبنفس المعنى يأتي التعبير بالوحي لدلالة وسوسة شياطين الجن إلى شياطين الإنس أو بعض الجن إلى بعض، أو بعض الإنس إلى بعض، كما في قوله تعالى:

(( وكذلك جعلنا لكُلّ نبيٍّ عدُوًّا شياطين الإنس والجنّ يُوحي بعضُهُم إلى بعضٍ زُخرُف القول غُرُوراً ولو شاء ربُّك ما فعلُوهُ فذرهُم وما يفترُون ))  (سورة الأنعام: الآية 112) .

وكذلك ورد الوحي- في التنزيل- بمعنى الإلهام أو الرؤيا المنامية، كما في قوله تعالى:

(( إذ أوحينا إلى أُمّك ما يُوحي (38) أن اقذفيه في التّابُوت فاقذفيه في اليمّ فليُلقه اليمُّ بالسّاحل ))  (سورة طه الآية 38، وبعض الآية 39) .

- كما جاء إطلاق الوحي- في التنزيل، بمعنى الأمر والتعليم، كما في قوله تعالى:

(( فأوحينا إليه أن اصنع الفُلك بأعيُننا ووحينا )) (سورة المؤمنون: الآية 27).

- وجاء إطلاق الوحي مُراداً به إلقاء الله إلى الملائكة من أمره، وإجراء له مجرى القول، وذلك في قوله تعالى:

(( إذ يُوحي ربُّك إلى الملائكة أنّي معكُم فثبّتُوا الّذين آمنُوا )) (سورة الأنفال صدر الآية الكريمة 12).

- ثم لقد جاء إطلاق الوحي بمعناه الشرعي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وإلى غيره من الأنبياء في آيات عديدة كما في قوله تعالى:

(( إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نُوحٍ والنّبيّين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقُوب والأسباط وعيسى وأيُّوب ويُونُس وهارُون وسُليمان وآتينا داوُد زبُوراً )) (سورة النساء: الآية 163).

- كما جاء إطلاق الوحي إلى جميع الرسل السابقين في قوله عز شأنه:

(( وما أرسلنا من قبلك من رسُولٍ إلّا نُوحي إليه أنّهُ لا إله إلّا أنا فاعبُدُون ))  (سورة الأنبياء: الآية 25).

-  ونتوقف عند وحي الله تعالى إلى الملائكة لنتعرف حقيقته:

فقد جاء وحي الله إلى الملائكة في قوله تعالى:

(( إذ يُوحي ربُّك إلى الملائكة أنّي معكُم فثبّتُوا الّذين آمنُوا ))  ( سورة الأنفال: صدر الآية الكريمة 12).

كما صرح القرآن العزيز بأنه تعالى يوحي إلى ملك الوحي ما يوحيه الملك إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم، وذلك في قوله سبحانه:

(( فأوحى إلى عبده ما أوحى))  (سورة النجم: الآية 10)

أي: أوحى الله تعالى إلى عبده جبريل- عليه السلام- ما أوحاه جبريل إلى نبيّه سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم .

* ولأن وحي الله تعالى إلى ملائكته من الأمور الغيبية التي لا نعلم كيفيتها إلا بالتوقيف والنقل عن صحيح السنة ومقبولهاً، فإننا نعمد إلى ما روي من السنة الصحيحة في هذا الصدد:

- فيروي البخاري عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنه قال: «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئاً، فإذا فزّع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق، ونادوا ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق» .

ولا مرية في أن أهل السماوات هم الملائكة.

- كما أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن أبي معاوية أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله- عز وجل- إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجرّ السلسلة على الصفاء، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاء جبريل فزّع عن قلوبهم.

قال: ويقولون: يا جبريل ماذا قال ربكم؟

قال: فيقول: الحق. قال فينادون: الحقّ، الحقّ» .

هذا مع الأخذ في الاعتبار أن الملائكة ذواتهم نورانية علوية، ويعتريهم من أثر الوحي هذا الصعق، كما يعتري السماء ذاتها تلك الصلصلة، ولا عجب فإنه تجلي الحق تعالى بصفة الكلام القديم وأنّى للمحدثات بالصمود لسطوتها!! إنهم من فزعهم يحسبون أن الساعة قد حان مرساها.

فقد أخرج ابن مردويه من حديث ابن مسعود مرفوعا: «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان، فيفزعون، ويرون أنه من أمر الساعة» .

 

*  أنواع الوحي ومراتبه:

فنجد الأصل في معرفة ذلك- قرآنيا- قوله تعالى شأنه:

(( وما كان لبشرٍ أن يُكلّمهُ اللّهُ إلّا وحياً أو من وراء حجابٍ أو يُرسل رسُولًا فيُوحي بإذنه ما يشاءُ إنّهُ عليٌّ حكيمٌ )) (سورة الشورى: الآية 51).

فقد استنبط أساطين المفسرين منها جملة أنواع للوحي الإلهي إلى من اصطفاهم الله تعالى من البشر:

* النوع الأول: ما كان الوحي فيه إلقاء في القلب مناماً، وهو ما يعرف بوحي الرؤيا الصادقة، كرؤيا خليل الرحمن- عليه السلام- التي قصّها القرآن في قوله تعالى:

(( فلمّا بلغ معهُ السّعي قال يا بُنيّ إنّي أرى في المنام أنّي أذبحُك فانظُر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تُؤمرُ ستجدُني إن شاء اللّهُ من الصّابرين ))  (سورة الصافات: الآية 102).

وكرؤيا النبي صلّى الله عليه وسلم أنه يدخل المسجد الحرام، حيث قال تعالى:

(( لقد صدق اللّهُ رسُولهُ الرُّؤيا بالحقّ لتدخُلُنّ المسجد الحرام إن شاء اللّهُ آمنين  )) (سورة الفتح: الآية 27).

* النوع الثاني: ما كان الوحي فيه إلقاء في القلب يقظة، بالإلهام الذي يقذفه الله تعالى في قلب مصطفاه، على وجه من العلم الضروري الذي لا يستطيع له دفعا ولا يجد فيه شكا ولا إشكالا، ومن هذا النوع: ما رواه أبو نعيم عن أبي أمامة والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها» .

* النوع الثالث: ما كان الإيحاء فيه يقظة من غير طريق الإلهام. وذلك كإيحاء الزبور لنبي الله داود- عليه السلام- فقد روى عن مجاهد رضي الله عنه أن الزبور أوحي إليه في صدره إلقاء في اليقظة وليس بإلهام، والفرق في ذلك: أن الإلهام لا يستدعي صورة كلام نفسي حتما فقد وقد، وأما اللفظي: فلا.

وأما إيحاء الزبور فإنه يستدعيه .

* النوع الرابع: ما كان الوحي فيه بالتكليم مشافهة ومكافحة عيانا بغير حجاب ولا واسطة، كما وقع لنبينا صلّى الله عليه وسلم ليلة المعراج، فقد استشهد الأئمة من المفسرين لرؤية النبي صلّى الله عليه وسلم ربه عند تفسير قوله تعالى:

(( ولقد رآهُ نزلةً أُخرى )) (سورة النجم: الآية 13) بما في حديث أنس عند البخاري من قوله: « ... ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبّار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحي إليه فيما أوحي خمسين صلاة .... ». (أخرجه البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه)

ومناط هذا الاستدلال: إرجاع الضمائر في:

(( ثُمّ دنا فتدلّى (8) فكان قاب قوسين أو أدنى (9) فأوحى إلى عبده ما أوحى))(سورة النجم) ، وكذا الضمير المنصوب في ولقد رآهُ لله تعالى، ومن ثم يتقرر ثبوت الوحي المباشر مع الرؤية عيانا وهو أرفع أنواع الوحي.

* النوع الخامس: ما كان الوحي فيه من وراء حجاب، بغير واسطة ولكن لا بالمشافهة، بأن يسمع كلاماً من الله من غير رؤية السامع من يكلمه، كما سمع سيدنا موسى- عليه السلام- من الشجرة، ومن الفضاء في جبل الطور، قال تعالى:

(( فلمّا أتاها نُودي من شاطئ الواد الأيمن في البُقعة المُباركة من الشّجرة أن يا مُوسى إنّي أنا اللّهُ ربُّ العالمين )) (سورة القصص: الآية 30)

وليس المراد بالحجاب في قوله تعالى: أو من وراء حجابٍ: حجاب الله تعالى عن عبده حسّاً، إذ لا حجاب بينه وبين خلقه حساً، وإنما المراد: المنع من رؤية الذات الأقدس بلا واسطة .

* النوع السادس: هو ما كان الوحي فيه بواسطة ملك يرسله الله تعالى إلى مصطفاه من البشر، وهذا النوع هو المعروف بالوحي الجلي، وهو المذكور في قوله تعالى: أو يُرسل رسُولًا فيُوحي بإذنه ما يشاءُ.

هذا: ووجه انحصار هذه الأنواع الستة في الأقسام الثلاثة المذكورة في الآية الكريمة- التي صدرنا بها هذا المبحث- أن القسم الأول- المستنبط من قوله سبحانه: (( إلّا وحياً )) ينتظم الأنواع الأربعة الأولى، وهي:

الوحي المنامي، والإلهامي- بالنفث في الروع-، والإلقائي في الصدر بصورة الكلام النفسي، والتكليم مشافهة مع الرؤية.

والقسم الثاني: المذكور في قوله تعالى:

(( أو من وراء حجابٍ ))  يختص بالنوع الخامس. وكذلك القسم الثالث- المأخوذ من قوله تعالى: (( أو يُرسل رسُولًا ))  يختص بالنوع السادس الأخير.

* تلك هي الأنواع الرئيسية للوحي، على أن الإمام الحليمي قد ذكر أن الوحي كان يأتي النبي صلّى الله عليه وسلم على ستة وأربعين نوعاً، فذكرها، وغالبها من صفات حامل الوحي، ومجموعها يدخل فيما ذكر .

* وبناء على ما تقدم، فإن مراتب الوحي يمكن أن تصنّف باعتبارين:

فباعتبار المشافهة والتلقي من المصدر دون حجاب أو واسطة يكون ترتيب الأقسام في الآية الكريمة أولوية، حيث ذكر أولاً: الكلام بلا واسطة بل مشافهة، ويندرج تحته- أولوياً -: النوع الرابع- في تصنيفنا الآنف- ثم النوع الثالث، ثم النوع الثاني، ثم الأول.

ثم ذكر ما كان بغير واسطة ولكن لا بالمشافهة، بل من وراء الغيب، وهو النوع الخامس. ثم ذكر ثالثاً : الكلام بواسطة الإرسال.

وأما بالاعتبار الثاني- وهو باعتبار الجلاء والخفاء- فإن النوع السادس هاهنا وهو المصطلح على تسميته ب (الوحي الجلي) له الصدارة، إذ هو أشهر الأنواع وأكثرها.

ولذلك كان وحي القرآن الكريم جلّه- على المعتمد الراجح- من هذا النوع. ووجه تفضيله: أنه مخصوص بالأنبياء- عليهم السلام- وليس لأنه أشرف من وحي المشافهة.

ثم يليه الوحي في اليقظة بدون حجاب سواء كان إيحاء مع استدعاء صورة الكلام النفسي، أم إلهاما بالنفث في الروع، ثم الإلقاء المنامي في القلب- الذى أخرج فيه الشيخان- عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «رؤيا الأنبياء وحي» ، ثم التكليم من وراء حجاب.

انتهى ....

مقالات ذات صلة :