• 10 نيسان 2017
  • 6,687

سلسلة من نحب - الصالحين - (11) - سيدنا الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه :

فصل – الإمام أحمد بن حنبل :

حديثنا هذا اليوم عن الإمام أحمد بن حنبل، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الذهلي العراقي شيخ الإسلام في زمنه وبعد زمنه. أحمد بن محمد بن حنبل الذي إذا قيل الإمام انصرف اللفظ إليه، أحمد بن محمد بن حنبل الذى بزَّ أقرانه بل فاق كثيراً من شيوخه، وشيوخ شيوخه.

 

فصل – نشأته :

وُلِدَ سنة أربع وستين بعد المائة في القرن الثاني الهجري وولد يتيماً مات أبوه وهو صغير فاعتنت به أمه عناية طيبة، وكان ملازماً للكُتَّاب حتى حفظ كتاب الله تبارك وتعالى، وفي الخامسة عشرة من عمره اتجه إلى طلب الحديث فذهب إلى شيخه هشيم بن بشير فطلب عليه الحديث خمس سنوات، لم يفارقه إلى غيره أبداً ولم يرحل في طلب الحديث كل تلك السنوات عند شيخه هشيم وهكذا استمر معه حتى توفي الله تبارك وتعالى هشيم، عندها بدأت الرحلة.

 

فصل – طلبه للعلم :

وأحمد بن حنبل تميز عن أهل زمانه بكثرة رحلته، حيث رحل كثيراً في طلب الحديث وطاف كثيراً من البلاد وأول رحلة رحلها أحمد - رحمه الله تبارك وتعالى - كانت إلى الكوفة وكانت مشياً على الأقدام، من بغداد إلى الكوفة مشياً على الأقدام في أول رحلةٍ رحلها أحمد، ثم تتابعت الرحلات بعد ذلك فرحل إلى البصرة ورحل إلى عبادان وإلى مكة وإلى المدينة وإلى الشام وإلى مصر وإلى غيرها من البلاد، طوَّف كثيراً من البلاد كل ذلك في طلب حديث النبي ﷺ ، وتلقى الكثير من العلم عن كثير من الشيوخ ومن أشهر شيوخه الذين أخذ عنهم هشيم بن البشير، وقلنا لازمه خمس سنوات لم يأخذ عن غيره شيئاً حتى توفاه الله تبارك وتعالى، بعدها رحل إلى مكة ولَقِىَ هناك الإمام الشافعي، ثم لقيه كذلك في بغداد أثناء زيارة الشافعي بغداد وأخذ عن الشافعي كل كتبه، حَدَّثَ عن الشافعي بكل كتبه، ثم بعد ذلك رحل إلى عبد الرزاق في اليمن، عبد الرزاق بن همام الصنعاني، رحل إليه في اليمن ولازمه أكثر من عشرة شهور.

وكانت رحلته هذه لليمن يظهر فيها صدق نيته في الطلب، وذلك أنه خرج مع يحيى بن معين رفيق دربه إلى مكة للحجِّ ثم من مكة إلى اليمن لطلب العلم وزيارة العلماء وكانا قاصدين لعبد الرزاق بن همام الصنعاني في اليمن، فلما جاءا إلى مكة فوجئا بأن عبد الرزاق موجود في مكة، فجاءا وسلم عليه ثم انطلقا، فجاء يحيى بن معين وسأل عبد الرزاق أن يقرئ عليه وأن يأخذا عنه ما عنده من الحديث فوافق عبد الرزاق، فجاء يحيى يبشر أحمد، قال: قد كفانا الله الرحلة إلى اليمن، وقد أخذت موعداً من عبد الرزاق أن يحدثنا هنا، فقال أحمد: وماذا نصنع بنيتنا؟ إننا قد نوينا أن نذهب إليه إلى اليمن، استأذِنه وقل له نأتيك في اليمن، وفعلاً ذهب إليه يحيى بن معين واستأذنه، قال: بل نأتيك في اليمن، أنت أحق أن تؤتى، لم يأخذا عنه شيئاً في مكة، وسافرا إليه إلى اليمن، وأخذا عنه العلم هناك كل هذا حتى لا يغير نيته.

وفي اليمن هناك عند عبد الرزاق، وقع لأحمد - رحمه الله تعالى - أنه ضاقت عليه أمور المال حتى إنه كان يغيب عن الدرس أحياناً لأنه يؤجر نفسه للحمَّالين يحمل لهم بعض أغراضهم حتى يعطوه ما يأكل منه فبلغ ذلك الأمرُ عبد الرزاق شيخه، فقام عبد الرزاق ونادى أحمد وأعطاه بعضاً من المال حتى يحضُرَ الدرس ويترك العمل فأبى أن يأخذ منه فألزمه بأن يأخذه فقال أحمد: "والله لو كنت آخذاً من أحدٍ شيئاً لأخذتُ منك"، لن آخذ شيئاً، وامتنع عن الأخذ منه، واجتهد في العمل واجتهد ايضاً في الطلب، ولذلك كان عبد الرزاق شيخ أحمد يمدحه مدحاً عظيماً حتى إنه قال: "ما رأيت أورع من أحمد"، وهو شيخه.

ولذلك هذا الشيخ، أعني عبد الرزاق، والشيخ الثاني، أعنى الشافعي، والشيخ الثالث علي بن المديني، كل هؤلاء شيوخ أحمد، وتلاميذه في الوقت ذاته، فعبد الرزاق شيخ أحمد وروى عن أحمد إكراماً له، والشافعي شيخ أحمد وروى عن أحمد كذلك، وكان إذا حَدَّثَ الشافعي عن أحمد، يقول: "حَدَّثَني الثقة"، وكذا علي بن المديني حَدَّثَ عن أحمد تلميذه، وهذا يبين لنا منزلة أحمد عند شيوخه - رحمهم الله تبارك وتعالى جميعا -.

وكذا أخذ العلم عن غيرهم، كوكيع بن الجراح، فطلب عليه العلم، وإسماعيل بن علية، ويزيد بن هارون، وكان يزيد بن هارون يُعظِّم أحمد كثيراً حتى إنهم ذكروا أن يزيد بن هارون كانت فيه دعابة، يحب الضحك، فكان في مجلسه يوماً فقال كلمة أضحكت الحاضرين، فتنحنح أحمد فالتفت يزيد فإذا أحمد في المجلس فسكت وقال: لِمَ لم تخبروني أن أحمد هنا؟ ولم يضحك بعدها إكراماً لأحمد مع أنه من صغار تلاميذه لكن كان يرى فيه النجابة، والسمت.

وكذا صنع إسماعيل بن علية، إسماعيل بن إبراهيم بن علية، كذا كان في مجلس وفيه أحمد فضحك رجل فغضب إسماعيل بن علية وبعد أن مشى أحمد قال إسماعيل بن علية له: "كيف لك أن تضحك وأحمد في المجلس؟"، مع أن أحمد من تلاميذه، لكنهم كانوا يرون فيه السمت والهيبة التي ألقاها الله - تبارك وتعالى - في قلوبهم له، وتتلمذ على أحمد كثير من العلماء ومن أشهر من أخذ العلم عن أحمد: الإمام البخاري، والإمام مسلم، وأبو زرعة الرازي، وأبو حاتم الرازي، وأبو داود السبستاني وقد لازم أحمد كثيراً، وكذا أخذ عنه شيوخه كما قلنا عبد الرزاق، والشافعي، وعلي بن المديني، وقرينه يحيى بن معين، وأخذ عنه كذلك وأكثر ابنه عبد الله، وابنه صالح، وخلقٌ كثير ممن روى عن أحمد بن حنبل - رحم الله تبارك وتعالى الجميع - .

 

فصل – مكانة الإمام أحمد :

سُئِلَ الإمام الشافعي عن أحمد، فقال: "كان أحمد رأساً في السُّنَّة، رأساً في القرءان، رأساً في الحديث، رأساً في الورع، رأساً في الفقر، رأساً في الزهد"،  وكان من عادة الناس أن يمدح التلاميذ الشيوخ لا أن يمدح الشيوخ التلاميذ، فهكذا كان شيخه الشافعي يقول عنه مثل هذا الكلام وكان يرَى في أحمد - رحمه الله تبارك وتعالى ورحم الشافعي - حرصاً على علم الحديث، فكان يقول له: "إن صحّ عندكم الحديث فخبرونا به شامياً كان أو بصرياً أو كوفياً"، وكذا قال عنه أبو عبيد القاسم بن سلام: "ما رأيت رجلاً أعلم بالسُّنَّة من أحمد"، وكذا قال إسحاق بن راهوية قرين أحمد قال: "أحمد حجة بين الله وبين عبيده في الأرض"، وقال كتيبة بن سعيد: "أحمد بن حنبل إمام الدنيا".

هكذا كان هذا الرجل في عيون أقرانه بل إن بعضهم فضله على كثير من التابعين حتى قال قائلهم: "لو كان أحمد في زمن الثوريّ ومالك والأوزاعي والليث لقُدِّمَ عليهم"، إلى هذه الدرجة، وتكلم رجل وهو محمد بن عرعرة في رجل فقال: ضعفه أحمد، فقال له رجل: وما يضره إن كان ثقة؟ فقال: سبحان الله! والله لو تكلم أحمد في علقمة والأسود لضرهما ذلك. فهذا هو أحمد بن حنبل - رحمه الله تبارك وتعالى -.

 

فصل – مؤلفاته :

ألَّف أحمد كثيراً من الكتب، أهمها وأعظمها "المسند" وسيكون حديثنا عنه مفصلاً، وكذلك من مؤلفاته: "فضائل الصحابة" حيث جمع فيه الأحاديث الواردة في فضل أصحاب محمد ﷺ ، وله فضائل أهل البيت، وكذا له كتاب في الورع، وكتاب في الأشربة، وكتاب في الرد على الجهمية وغير ذلك كثير مما جمع أحمد بن حنبل من الحديث عن النبي ﷺ.

 

فصل - محنة القول بخلق القرءان :

وقع لأحمد - رحمه الله تعالى - أمر وابتلاء عظيم، ألا وهو ما يسمى بمحنة القول بخلق القرآن، وذلك أنه في سنة ثماني عشرة بعد المائتين أراد المأمون الخليفة العباسي بعد أن تبنى القول بخلق القرآن أن يجبر الناس جميعاً على هذا القول، وأن يقول جميعهم بأن القرآن مخلوق وعزم على هذا ولكنه منعه من ذلك وجود يزيد بن هارون حيث كان يخاف منه أن يثير عليه الناس، فذكروا أنه أرسل رجلاً إلى مجلس يزيد بن هارون لينظر كيف تكون ردة فعله فقال للذي أرسله: "إذا قدمت على يزيد في مجلسه فقل له إن أمير المؤمنين يريد أن يلزم الناس بالقول بخلق القرآن، وانظر ماذا يقول لك"، فجاء الرجل إلى مجلس يزيد بن هارون فحدَّث بهذا، وقال: "إن أمير المؤمنين المأمون يريد أن يلزم الناس بالقول بخلق القرآن" فقال أمام الناس: "كذبت على أمير المؤمنين لا والله لا يفعلها"، فرجع الرجل إلى المأمون، وذكر له قول يزيد فكتم المأمون الأمر.

وانتظر حتى مات يزيد بن هارون في سنة ثماني عشرة ومائتين عندها أعلن المأمون هذا القول، وألزم الناس به، وفتن العلماء في ذلك، فبلغه أن ممن أنكر هذا القول أحمد بن حنبل في بغداد، فأرسل إليه أن أحضروه إليّ، فلما جاء الرسول إلى أحمد، أخذه إلى المأمون مقيداً فذكروا أن أحمد دعا هناك وقال: "اللهم لا تُرِيني المأمون ولا تُرِيه وجهي"، لا أريد أن أراه، فجاءهم الخبر في الطريق أن المأمون قد مات، فلم يرَ أحمد ولم يره أحمد فسُجِنَ أحمد، تُرِكَ في السجن حتى يرى المعتصم ماذا يصنع به الذي تولى الخلافة بعد المأمون.

وكانت هذه خاتمة سوء للمأمون حيث ختم حياته بهذا القول الشنيع، وإلزام الناس به، فجاء المعتصم فكان أشد من المأمون في ذلك، وألزم الناس أن يقولوا إن القرآن مخلوق فاستجاب له خلقٌ خوفاً من القتل، حيث كان قد قتل أربعةً من العلماء، الذين امتنعوا عن القول بخلق القرآن وهم: أحمد بن نصر الخزاعي، ومحمد بن نوح، والبويطي صاحب الشافعي، ونعيم بن حماد، قُتِلَ هؤلاء لأنهم رفضوا أن يقولوا إن القرآن مخلوق.

فابتُلِي العلماء في ذلك الزمن ابتلاءً عظيماً، فمنهم من قالها على خوف، وتأوَّل أنه يجوز له أن يقول مثل ذلك، وبعضهم تأوَّل بأقاويل أراد بها أن يخرج من هذه العهدة، وبعضهم قال: تأولوا، فذكروا مثلا أن بعض أهل العلم قال لمن أراد أن يمتحنه من الأمراء قال له، وأشار بيده هكذا، القرآن والتوراة والإنجيل والزبور والصحف هذه الخمسة كلها مخلوقات، يريد أصابع يده، تأولاً حتى يخرج من هذه المحنة، وبعضهم قال القرآن مخلوق خوفاً من القتل، وبعضهم امتنع كالأربعة الذين قُتِلوا، ومنهم أحمد بن حنبل.

وما كان المعتصم يريد قتل أحمد، بل كان يريد بقائه، فلم يقتله، ولكنه سجنه ثلاثين شهراً، وضربه ضرباً عظيماً، حتى إنه كان يُضرَب حتى يغمى عليه، لا يدري ما حدث له، ثم يحمل وهو مضرَّج بالدماء من كثرة ما ضُرِبَ وجلد، ثم يرمى في السجن، ويعاد بعد أيام، ويُمتَحَن مرة ثانية ثم يُضرَب وهكذا ظل طوال هذه الأشهر يُضرَب وإذا عُفي قليلاً أوتي به ثم ضُرِب حتى يقول إن القرآن مخلوق وهو يمتنع، حتى إنه زاره بعض أهل العلم، وطلبوا منه أن يقول إن القرآن مخلوق، وإن الله قد عذره وهو مضطر وغير ذلك من الأمور إلا إنه رفض ذلك كله قال: "إذا أجبتُ أنا وأجاب فلان وأجاب فلان فمتى يعرف الناس الحق؟ متى يعرف الناس الحق؟"

فامتنع عن القول وكان مما قال أحمد - رحمه الله تعالى - إنه كان معه رجل في السجن، لص، قال: يا أحمد لا يهُمَّنَّك الضرب إنما هو أول سوط ثم تعتاد، أنا دخلت السجن أكثر من عشر مرات على أمر من أمور الدنيا وأنت تدخل السجن على أمور الدين، أنا لم أصبر على الدنيا فكيف أنت تترك الدين؟ فاصبر، يقول: "فصبرني الرجل"، وكذلك جاءه آخر وقال له أثناء قياده إلى السجن - رحمه الله تعالى - جاءه رجل أعرابي فقال له: "يا أحمد، اصبر، فإنك إن تُقتَل تُقتَل شهيداً، وإن لم تُقتَل عشتَ سعيداً، وإنك إن لم تُقتَل تموت". فقال أحمد: "ما شاء الله أَعِدَ عليّ" لأن هذا الكلام يثبت الإنسان ويحتاج الإنسان في مثل هذه الأوقات أن يُثَبَّت ويُصَبَّر، فكانت هذه الكلمات وقعت على قلب أحمد موقع القطر على الأرض وقت حاجتها فتقبل ذلك الكلام، وسَعِدَ به وصبر، واستمر على امتناعه عن القول بخلق القرآن، ثم بعد ثلاثين شهراً أخرجه المعتصم من السجن لأنه خشي أن يموت في السجن وتقوم عليه العامة، فخشي من ذلك فأخرج أحمد من السجن، ولما خرج أحمد من السجن وقع للمعتصم أمر عظيم ألا وهو ما كان من فتح عمورية، وكان المعتصم قد فتح عمورية وقهر الروم بدعوة امرأة لما قالت "وامعتصماه"، فلما بلغ الخبر أحمد بن حنبل قال: قد عفوتُ عن المعتصم ما أوقع بي لفتحه بلاد عمورية، فإني سامحته في كل ما وقع منه جزاء صنعه هذا.

ولم يستمر المعتصم كثيراً حيث توفي سنة سبع وعشرين ومائتين فجاء بعده الواثق، واستمر الواثق كذلك على القول بخلق القرآن، ولكنه لم يضرب أحمد ولم يسجنه بل إنه منعه من الجلوس مع الناس ومن الحديث معهم والتحديث، وأمره أن يلزم بيته إلا إلى الصلاة، وألا يتحدث مع أحد، فاستمر أحمد على ذلك حتى مات الواثق سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، فجاء بعد الواثق المتوكل، وظل الأمر كذلك لمدة سنتين حتى سنة أربع وثلاثين ومائتين، وفي هذه السنة، أعلن المتوكل إبطال القول بخلق القرآن، وعاد لأهل السُّنَّة مكانتهم، وأعزَّ الله تبارك وتعالى به السُّنَّة في ذلك الزمن، وبطل القول بخلق القرآن، وأرسل المتوكل إلى أحمد بن حنبل الدنانير تعويضاً عما وقع له فلما جاءت أحمد قال: "والله لهذه أشد من الأولى"، يعني هذه الفتنة فتنة المال أشد من فتنة السجن والضرب، فردها على المتوكل ولم يقبل منها شيئاً، فلما ردّت على المتوكل أبى المتوكل أن يقبلها، وردها إلى أحمد وأمره أن يأخذها، فلم يأخذها كذلك وقال لتلاميذه: "خذوها إن شئتم"، أما هو فلم يقبل منها شيئاً، وانتهت هذه المحنة العظيمة التي امتُحِنَ بها العلماء في ذلك الزمن، من سنة ثماني عشر ومائتين إلى سنة أربع وثلاثين ومائتين، ست عشرة سنة، ثم انقضى كل شيء.

 

فصل – علمه و ورعه :

أحمد بن حنبل كان من الحُفَّاظ الكبار، قال سعيد بن عمرو لأبى زرعة الرازي: أأنت أحفظ أم أحمد؟ قال: أحمد، قال: وكيف عرفت ذلك؟، كيف عرفت أن أحمد يحفظ أكثر منك؟ قال: وجدت كتبه ليس فيها ذكر أسماء شيوخه يحفظ كل حديث لمَن هذا الحديث، وأنا لا أستطيع ذلك، يعني في الحفظ. وكذلك أحمد مقَدَّم على غيره بالفهم كما قال إسحاق بن راهوية، قرين أحمد قال: "كنت أجالس أحمد وابن معين ونتذاكر فأقول ما فقهه؟ - أي هذا الحديث - ما تفسيره؟ فيسكت الجميع ويتكلم أحمد".

وأما ورعه فقال مصعب الزبيرى: "ومن أورع من أحمد، يرتفع عن جوائز السلطان، حتى يُظَنّ أنه الكِبر"، لا يقبل الجوائز حتى ولو كانت من السلطان حتى يُظنّ فيه أنه متكبر" قال: "ويكري نفسه مع الجمالين حتى يُظنّ أنه الذل"، ويقطع نفسه عن مباشرة عامة الناس وغشيان خاصتهم أنساً بالوحدة، هكذا كان أحمد قال: "فلا يراه الراعي إلا في مسجد يصلي، أو يعود مريضاً، أو يمشي خلف جنازة". هكذا كانت حياة أحمد بن حنبل.

وكان قوَّاماً لليل قارئاً القرآن، كان يختم في كل سبعة أيام ختمة، وقيل يختم ختمتين، ختمة في النهار وختمة في الليل، يعني يقرأ في النهار غير الذي يقرؤه في قيام الليل فيختم لليل ختمة ويختم للنهار ختمة وذلك في كل سبعة أيام. فإذا جاء رمضان ختم في كل يوم ختمة – رحمه الله تبارك وتعالى -.

وهذا عبد الوهاب الوراق يقول: "ما رأيت مثل أحمد، سئل عن ستين ألف مسألة ففي كلها يجيب بحدثنا وأخبرنا" لا يحدث إلا بالإسناد عن النبي ﷺ ، ذكروا أنه جاءه بعض العلماء، بعض الفقهاء في زمن الواثق لما أوذي أحمد - رحمه الله تبارك وتعالى -، فطلبوا من أحمد أن يخلع يدَ الطاعة عن الواثق ، ينزع عنه البيعة، فقال أحمد: عليكم بالنُكرة في قلوبكم ولا تخلعوا يداً من طاع، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دمائكم ودماء المسلمين"، وكان يقول: "لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لجعلتها في أمير المؤمنين ففي صلاحه صلاح الأمة" بعد هذا كله توفي أحمد بن حنبل - رحمه الله تبارك وتعالى - سنة إحدى وأربعين ومائتين.

يُكنى أحمد بأبي عبد الله مع أن أكبر أولاده صالح ويُكنى بأبي عبد الله وذلك لأنه تأخر في الزواج إلى سن الأربعين، فكانت هذه كُنيته قبل الزواج، فكان يقال له: أبو عبد الله قبل أن يتزوج، فلما تزوج ثم أنجبت له سمى أول أولاده صالح، ولكن جرى عليه كُنيته القديمة وهي أبو عبد الله، فسمى ولده الثاني عبد الله، فعبد الله ليس هو أكبر أولاده وإنما أكبر أولاده صالح.

 

فصل – كتاب "المسند" للإمام أحمد :

بعد هذا الحديث المختصر المعتصر عن الإمام أحمد - رحمه الله تبارك وتعالى - نأتي إلى كتابه العظيم الذي هو المسند. المسند كما ذكر أهل العلم، أي ما رتبه مؤلفه على المسانيد، والمسانيد كثيرة لأهل العلم ويختلف المسند عن السُّنَن والجوامع أن السُّنَن والجوامع كجامع البخاري وجامع مسلم وجامع الترمذي، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه. يختلف المسند عن الجامع والسنن أن الجامع والسنن تُرَتَّب كتبهم على الأبواب، باب العلم، باب الصلاة، باب الطهارة وهكذا على الأبواب الفقهية والعقدية والتفسير وما شابه ذلك، أما المسند فيُرَتَّب الحديث فيه على الرواة، وليس على المواضيع الفقهية، فتجد حديثاً في الطهارة مع حديث في الجهاد مع حديث في الرقاق مع حديث في الأمر بالمعروف وهكذا فتتشابك هذه الأحاديث لأنها كلها تجتمع عند شخص واحد وهو أبو بكر الصديق، أو علي بن أبي طالب، أو عثمان بن عفان، أو بلال بن رباح وهكذا.

فهذا هو المسند وهو الذى يرتب على المسانيد، وقد رتب أحمد بن حنبل مسنده على مسانيد الصحابة فبدأ أولاً بالعشرة المبشرين، فقدم الخلفاء الأربعة أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم بعد ذلك أتمّ بهم الستة، ثم أتى بأحاديث آل بيت النبي ﷺ وأمهات المؤمنين ثم بعد ذلك أتى بأحاديث البدريين وهكذا يقدم الأفضل فالأفضل ثم ذكر بقية الناس في روايته في مسنده. جمع أحمد بن حنبل في مسنده أكثر من ثلاثين ألف حديث وهو كما قال أهل العلم: "أجمع كتب السُّنَّة لحديث رسول الله ﷺ مما بقي في زماننا هذا"، فكتاب البخاري مثلا لا يزيد عن ثمانية آلاف مع المكرر وكذا صحيح مسلم مع المكرر يبلغ اثني عشر ألف حديث وغيرها كذلك لا تزيد ولا تصل إلى هذا العدد. فمسند أحمد أكثر من ثلاثين ألف حديث كلها جمعها في هذا الكتاب العظيم قال السبكي عن مسند أحمد: "أًصبح المسند أصلاً من أصول الأمة". وقال ابن الجزري: "لم يرو على وجه الأرض كتاب في الحديث أعلى منه"، أي أعلى من المسند كتاب ضم كل هذا الحديث، لا يوجد أعلى من المسند. ولأحمد - رحمه الله تبارك وتعالى - كثيراً من الثلاثيات، والثلاثيات تعنى أنه بينه وبين الرسول ﷺ ثلاثة رجال في كثير من الأحاديث حتى جمعها السفاريني في كتابه "ثلاثيات المسند"، ثلاثيات أي بينه وبين النبي ثلاثة فقط، شيخه وشيخ شيخه والصحابي والنبي ﷺ وهذه تسمى (أسانيد عالية) كلما اقترب الإنسان من النبي ﷺ أكثر كلما كان السند عالياً، وكلما ابتعد كلما كان السند نازلاً، فكانت لأحمد أسانيد عالية كثيرة إلى النبي ﷺ.

اعتنى كثير من أهل العلم في مسند أحمد في الذب عنه أو شرحه أو ترتيبه أو عمل فهارسه، والكلام على رجاله، عملت كتب كثيرة خدمة لمسند أحمد - رحمه الله تبارك وتعالى -، ومن أشهرها ما قام به ابن البنا الساعاتي والد حسن البنا - رحمهما الله تبارك وتعالى -، قام ابن البنا الساعاتي بترتيب مسند أحمد على أبواب الفقه، يعني أخذ المسند، وفصل أحاديثه، لم يرتبه على المسانيد كما هو، وإنما رتبه ككتب السنن: فجعل كتاب العلم لوحده، وكتاب التفسير لوحده، وكتاب الطهارة لوحده، وكتاب المعاملات وحده وهكذا. فرتبه على أبواب الفقه في أربعة وعشرين جزءا. وكذلك ممن خدمه السفاريني في ثلاثيات المسند، وتكلم الحافظ بن حجر في المصعد الأحمد لمسند الإمام أحمد وغير ذلك كثير كما قلنا ممن خدم رجال المسند وممن خدم أحاديث المسند وممن رتب المسند وممن تكلم عن أحاديثه ومن أفضل ذلك ما كان لأحمد شاكر - رحمه الله تبارك وتعالى -، ولكنه توفي وقد أكمل الثلث منه فقط ولم يتمه - رحمه الله تبارك وتعالى -

فهذه نبذة مختصرة عن مسند الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تبارك وتعالى -، وبهذا نكون أتممنا الحديث عن أحمد وعن مسنده والله أعلى وأعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

مقالات ذات صلة :