• 10 نيسان 2017
  • 5,020

سلسلة من نحب - الله تعالى – (15) - الحميد :

وقد تكرَّر ورود هذا الاسم في القرآن الكريم سبع عشرة مرَّة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، وقال تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24]، وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267]، وقال تعالى: {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12]، أي: الذي له الحمد كله، المحمود في ذاته وأسمائه وصفاته، فله من الأسماء أحسنها، ومن الصفات أكملها، فالحمد أوسع الصفات وأعم المدائح، وأعظم الثناء؛ لأن جميع أسماء الله تبارك وتعالى حمدٌ، وصفاته حمد، وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أعدائه حمد، وفضله وإحسانه إلى أوليائه حمد، والخلق والأمر إنما قام بحمده ووجد بحمده وظهر بحمده، وكان الغاية منه هي حمده، فحمده سبحانه سبب ذلك وغايته ومظهره، فحمده روح كل شيء، وقيام كل شيء بحمده، وسريان حمده في الموجودات وظهور آثاره أمر مشهود بالبصائر والأبصار.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأيضاً فإنَّ الله سبحانه أخبر أنّه له الحمد، وأنّه حميد مجيد، وأنّ له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم، ونحو ذلك من أنواع المحامد.

والحمد نوعان: حمد على إحسانه إلى عباده، وهو من الشّكر.

وحمد لما يستحقه هو بنفسه من نعوت كماله، وهذ الحمد لا يكون إلَّا لمن هو متَّصف بصفات الكمال"(1).

أما حمده سبحانه على إحسانه إلى عباده فلأن النعمة موجبة لحمد المنعِم، والنِّعم كلُّها من الله، وهذا النّوع من الحمد مشهود للخليقة برِّها وفاجرها، مؤمنها وكافرها من جزيل مواهبه، وسعة عطاياه، وكريم أياديه، وجميل صنائعه، وحسن إكرامه لعباده، وسعة رحمته لهم، وبره ولطفه، وإجابته لدعوات المضطرين، وكشف كربات المكروبين، وإغاثة الملهوفين، ورحمته للعالمين، وابتدائه بالنّعم قبل السؤال، ومن غير استحقاق، بل ابتداءً منه بمجرَّد فضله وكرمه وإحسانه، ودفع المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها، وصرفها بعد وقوعها، ولطفه تعالى في ذلك إلى ما لا تبلغه الآمال، وهدايته خاصته وعباده إلى سبيل دار السلام، ومدافعته عنهم أحسن الدفاع، وحمايتهم من الوقوع في الآثام، وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من الراشدين، وفتح لهم أبواب الهداية، وعرفهم الأسباب التي تدنيهم من رضاه وتبعدهم عن غضبه، إلى غير ذلك من نعمه التي لا تحصى، وآلائه التي لا تستقصى، ومن أراد مطالعة أصول النعم وما توجبه من حمد الله وذكره وشكره وحسن عبادته فلْيُدِمْ سرحَ الذِّكر في رياض القرآن الكريم، وليتأمّلْ ما عدَّد الله فيه من نعمه وتعرَّف بها إلى عباده من أوّل القرآن إلى آخره.

فلله الحمد شكراً، وله الحمد فضلاً، له الحمد بالإسلام، وله الحمد بالإيمان، وله الحمد بالقرآن، وله الحمد بالأهل والمال والمعافاة، له الحمد بكل نعمة أنعم بها في قديم أو حديث، أو سرٍّ أو علانية، أو خاصّة أو عامة، حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.

وأمّا حمده سبحانه لما له من الأسماء والصفات ولما يستحقه من كمال النُّعوتِ فأمرٌ متواترٌ؛ فإنه سبحانه قد حمد نفسه في كتابه على ربوبيته للعالمين، وحمد نفسه على تفرده بالإلهية، وحمد نفسه على كمال أسمائه وعظمة صفاته، وحمد نفسه على امتناع اتصافه بما لا يليق به من اتخاذ الولد والشريك وموالاة أحد من خلقه لحاجته إليه، كما قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ۖ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].

وحمد نفسه على عظمته وكبريائه، كما قال سبحانه: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية: 36-37]، وحمد نفسه في الأولى والآخرة، وأخبر عن سريان الحمد في العالم العلوي والسفلي ونبَّه على ذلك كله في كتابه في آيات عديدة تدلّ على تنوّع حمده سبحانه وتعدد أسباب حمده، وقد جمعها الله في مواطن من كتابه وفرقها في مواطن أخرى ليتعرف إليه عباده، وليعرفوا كيف يحمدونه وكيف يثنون عليه، وليتحبب إليهم بذلك، ويحبهم إذا عرفون وأحبُّوه وحمدوه.

وقد ورد الحمد في القرآن الكريم في أكثر من أربعين موضعا، جمع في بعضها أسباب الحمد، وفي بعضها ذكرت أسبابه مفصلة.

فمن الآيات التي جُمع فيها أسباب الحمد قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، وقوله: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ} [القصص: 70]، وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 1].

ومن الآيات التي ذكر فيها أسباب الحمد مفصلة قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، ففيها حمده على نعمة دخول الجنة، وقوله تعالى: {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 28]، ففيها حمده على النصر على الأعداء والسّلامة من شرّهم، وقوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۗ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65]، ففيها حمده على نعمة التوحيد وإخلاص العبادة له وحده، وقوله تعالى: {الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَر إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق إِنَّ رَبِّي لَسَمِيع الدُّعَاء} [إبراهيم: 39]، ففيها حمده سبحانه على هبة الولد، وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا} [الكهف: 1]، ففيها حمده سبحانه على نعمة إنزال القرآن الكريم قيما لا عوج فيه، وقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ ۖ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]، ففيها حمده سبحانه لكماله وجلاله وتنزهه عن النقائص والعيوب.

والآيات في هذا المعنى كثيرة، والله تعالى قد افتتح كتابه بالحمد، وافتتح بعض سور القرآن بالحمد، وافتتح خلقه بالحمد، واختتمه بالحمد، فله الحمد أوَّلا وآخراً، وله الشكر ظاهراً وباطناً، وهو الحميد المجيد.

****

 

(1) "مجموع الفتاوى" (6/ 83-84).

مقالات ذات صلة :