• 19 نيسان 2017
  • 5,254

سلسلة من نحب - الرسل والأنبياء - (10) سيدنا شعيب عليه الصلاة والسلام :

المقدمة :

أُرسل شعيب عليه الصلاة والسلام إلى مدين، والمشهور عند أهل التاريخ وأهل النسب أن شعيب أحد أبناء إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، وقوم شعيب من نسل هذا الرجل، أي: من نسل مدين بن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه.

وذُكر نبي الله شعيب في كتاب الله تبارك وتعالى إحدى عشرة مرة، أُرسل إلى أهل مدين، في مكان يُقال له: معان، في الأردن، قريب جداً من قرية قوم لوط عليه السلام.

والمشهور في لقبه: أنه خطيب الأنبياء، وذلك لحسن مراجعته لقومه، وظهوره بحجته عليهم، ودحضه لشبهاتهم.

لم يذكر الله - جلّ وعلا - المعجزة التي أُرسل بها شُعيب، ولكن بيّن أنه أُرسل ببينة من ربه، كما أُرسل غيره من الأنبياء، ولكن كما ذكرنا غير مرة أن القرآن الكريم ليس كتاب تاريخ بحيث يذكر لنا كل نبي، ومعجزته، وأولاده، وزوجته، وبلده، وغير ذلك، ولكنه كتاب هداية وبيان، وهو يوضح لنا أن شعيباً نبيٌ، وأنه أُرسل إلى قومه، ودعاهم إلى الله كما دعا غيره من الأنبياء، وأن هناك من تابعه، وهناك من صدَّ عنه، وكفَر به، ثم كيف أظهر الله تبارك وتعالى الحقَّ، وأبطل الباطل، فيَعْتَبر الناس من ذلك، هذا هو المقصود من ذكر قصص الأنبياء، ليعتبر من يعتبر، وليتسلى المؤمنون بهذا الأمر، وليعلموا علم اليقين أن العاقبة للتقوى.

 

فصل - شعيب عليه السلام يدعو قومه وينصح لهم:

أُرسل نبي الله شعيب - صلوات الله وسلامه عليه - إلى أهل مدين، وقد اشتهروا بأنهم:

أولاً: كفروا بالله - جلّ وعلا -.

ثانياً: يقطعون السبيل.

ثالثاً: يبخسون المكيال والميزان.

أما كفرهم: فالمشهور أنهم كانوا يعبدون شجرةً يُقال لها: الأيكة، قال الله تبارك وتعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٧٦﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 177:176]، والأيكة نوع من أنواع الشجر، يسجدون له، ويسألونه من دون الله - جلّ وعلا -.

ثم كذلك كانوا يقطعون السبيل على الناس ويأخذون أموالهم، وقيل: كانوا يأخذون العُشر من الناس، كلما مر رجل بتجارة قالوا له: ما تمرُّ من عندنا حتى تدع شيئاً من أموالك، وهي ما يُسمى الآن بالجمارك، وكانوا يطففون في الكيل، قال الله - جلّ وعلا -: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ﴿١﴾ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴿٢﴾ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3:1]، فإن كان الكيل لهم أخذوا الزيادة، وإن كان عليهم أنقصوا.

وكانوا يُفسدون في الأرض بشتى أنواع الفساد كما أطلق الله - جلّ وعلا -، وكانوا يصدون عن سبيل الله، قال الله - جلّ وعلا -: {وَإِلى مَديَنَ أَخاهُم شُعَيبًا قالَ يا قَومِ اعبُدُوا اللَّـهَ ما لَكُم مِن إِلـهٍ غَيرُهُ قَد جاءَتكُم بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكُم فَأَوفُوا الكَيلَ وَالميزانَ وَلا تَبخَسُوا النّاسَ أَشياءَهُم وَلا تُفسِدوا فِي الأَرضِ بَعدَ إِصلاحِها} [الأعراف: 85]، وقال لهم كذلك: {وَلا تَقعُدوا بِكُلِّ صِراطٍ توعِدونَ وَتَصُدّونَ عَن سَبيلِ اللَّـهِ مَن آمَنَ} [الأعراف: 86]، حذرهم نبي الله شعيب من كل هذه الأفعال المشينة، ثم قال لهم: {بَقِيَّتُ اللَّـهِ خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم مُؤمِنينَ وَما أَنا عَلَيكُم بِحَفيظٍ} [هود: 86]، قال أهل العلم في تفسير (بقية الله) أي: ما فَضُلَ من الربح - ولو كان قليلاً - خيرٌ من الربح الكثير إذا كان في حرام، قال الله - جلّ وعلا -: {لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100]، فالمال الحلال - ولو كان قليلاً - هو خيرٌ وأبقى عند الله - جلّ وعلا - من المال الحرام ولو كان كثيراً، قال الله - جلّ وعلا -: {يَمْحَقُ اللَّـهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276].

 

فصل - دعوة جميع الأنبياء إلى التوحيد وطريقتهم في ذلك:

دعوة شعيب ليست غريبة وإنما هي دعوة سائر الأنبياء، الدعوة إلى توحيد الله - جلّ وعلا -{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] كل الأنبياء إنما جاؤوا لتحقيق هذه القضية العظيمة، أن يعبد الله سبحانه وتعالى وحده قال - جلّ وعلا -: {وَما أَرسَلنا مِن قَبلِكَ مِن رَسولٍ إِلّا نوحي إِلَيهِ أَنَّهُ لا إِلـهَ إِلّا أَنا فَاعبُدونِ} [الأنبياء: 25] هذه دعوة جميع رسل الله صلوات الله وسلامه عليه، بل لأجلها قامت السماوات والأرض، ولأجلها كانت الجنة والنار، ولأجلها خلق الله العالمين {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

 

فصل - طرق شعيب في دعوته:

أولاً: الدعوة بالحسنى كما قال عنه - جلّ وعلا -: {قالَ يا قَومِ أَرَأَيتُم إِن كُنتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبّي وَرَزَقَني مِنهُ رِزقًا حَسَنًا } [هود: 88].

ثانياً: القدوة الحسنة في الدعوة إلى الله - جلّ وعلا - فقال: {وَما أُريدُ أَن أُخالِفَكُم إِلى ما أَنهاكُم عَنهُ} [هود: 88] وهكذا يجب على الداعي إلى الله - جلّ وعلا - أن يكون قدوة، ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، ما أنهاكم عن شيء ثم آتيه ولا آمركم بشيء ثم أتركه، بل أنا ملتزم بما أدعوكم إليه.

ثالثاً: الترغيب والتذكير بنعم الله - جلّ وعلا - فقال: {وَاذكُروا إِذ كُنتُم قَليلًا فَكَثَّرَكُم } [الأعراف: 86] فرغبهم في حسن عطاء الله لهم سبحانه وتعالى، كنتم قليلاً فكثركم سبحانه وتعالى.

رابعاً: استخدم الترهيب، فقال لهم: {وَيا قَومِ لا يَجرِمَنَّكُم شِقاقي أَن يُصيبَكُم مِثلُ ما أَصابَ قَومَ نوحٍ أَو قَومَ هودٍ أَو قَومَ صالِحٍ وَما قَومُ لوطٍ مِنكُم بِبَعيدٍ} [هود: 89].

خامساً: دعاهم كذلك إلى أصلين عظيمين:

الأصل الأول: عبادة الله - جلّ وعلا -.

الأصل الثاني: الوفاء بالحقوق، وعدم ظلم الناس، وعدم أخذ أموالهم بالباطل.

سادساً: بيّن لهم أنه لا يريد أجراً على هذه الدعوة أبداً {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 109].

سابعاً: بيّن لهم شرف مقصده صلوات الله وسلامه عليه فقال: {إِن أُريدُ إِلَّا الإِصلاحَ مَا استَطَعتُ} [هود: 88] لا أريد مُلكاً، ولا مالاً، ولا جاهاً {إِن أُريدُ إِلَّا الإِصلاحَ مَا استَطَعتُ} [هود: 88] و"إن" هنا نافية بمعنى "ما".

وقوله صلوات الله وسلامه عليه: {وَما قَومُ لوطٍ مِنكُم بِبَعيدٍ} [هود: 89] ماذا يقصد بهذا؟ قال أهل العلم بالتفسير: وما قوم لوط منكم ببعيد من حيث المكان، معان قريبة من سديم "بلد لوط"، وقيل: من حيث الزمان، ولذلك في كتاب الله - جلّ وعلا - في سورة هود والشعراء والحجر، وغيرها بعدما يذكر الله تبارك وتعالى قصة قوم لوط يذكر بعدها مباشرة قصة مدين، إذاً هم ليسوا بعيدين بالمكان وليسوا بعيدين كذلك بالزمان، فهم قريبون مكاناً وقريبون زماناً ثم كذلك هم قريبون من حيث الصفات والأفعال والإجرام والإفساد، {وَما قَومُ لوطٍ مِنكُم بِبَعيدٍ} [هود: 89] وكيف صنع الله بهم، فأنتم ماشون على جادتهم وعلى طريقتهم فسيصيبكم مثل ما أصابهم.

 

فصل - قوم شعيب عليه السلام يردون دعوته بالسخرية والتكذيب:

وجاء الجواب من قومه: {قالوا يا شُعَيبُ ما نَفقَهُ كَثيرًا مِمّا تَقولُ} [هود: 91] مع أنه خطيب الأنبياء، أُوتي من الفصاحة والبلاغة وإقامة الحجة ورد الشبهات الشيء العظيم، ومع هذا يقول له قومه {قالوا يا شُعَيبُ ما نَفقَهُ كَثيرًا مِمّا تَقولُ} [هود: 91]، وهذا زور وبهتان منهم على نبي الله شعيب صلوات الله وسلامه عليه، وهو قريب مما قاله كفار مكة لرسول الله ﷺ: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] وقال لهم نبي الله شعيب صلوات الله وسلامه عليه: {وَإِن كانَ طائِفَةٌ مِنكُم آمَنوا بِالَّذي أُرسِلتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَم يُؤمِنوا} [الأعراف: 87] إذاً هما طائفتان، طائفة آمنت بشعيب صلوات الله وسلامه عليه وطائفة أخرى لم تؤمن قال: {فَاصبِروا حَتّى يَحكُمَ اللَّـهُ بَينَنا وَهُوَ خَيرُ الحاكِمينَ} [الأعراف: 87] وهذا هو المطلوب، الصبر حتى يحكم الله، هذه دعوة شعيب لقومه صلوات الله وسلامه عليه فلننظر كيف كان رد قومه عليه:

أولاً: السخرية والاستهزاء، قالوا له: {أَصَلاتُكَ تَأمُرُكَ أَن نَترُكَ ما يَعبُدُ آباؤُنا أَو أَن نَفعَلَ في أَموالِنا ما نَشاءُ إِنَّكَ لَأَنتَ الحَليمُ الرَّشيدُ} [هود: 87] يستهزئون، ويسخرون منه، صلوات الله وسلامه عليه، {أَصَلاتُكَ تَأمُرُكَ أَن نَترُكَ ما يَعبُدُ آباؤُنا} [هود: 87] نترك الأيكة التي كان يعبدها آباؤنا، أصلاتك تأمرك بهذا، أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء، أتمنعنا من أكل أموال الناس بالباطل، أتمنعنا من البخس، أتمنعنا من المكوس، أتمنعنا من السرقة؟! دعنا نفعل في أموالنا ما نشاء، ثم قالوا له كلمة: {إِنَّكَ لَأَنتَ الحَليمُ الرَّشيدُ} [هود: 87] يريدون السخرية منه صلوات الله وسلامه عليه.

ثانياً: التهديد بالنفي والرجم: {قالَ المَلَأُ الَّذينَ استَكبَروا مِن قَومِهِ لَنُخرِجَنَّكَ يا شُعَيبُ وَالَّذينَ آمَنوا مَعَكَ مِن قَريَتِنا أَو لَتَعودُنَّ في مِلَّتِنا} وقالوا له كذلك: {وَلَولا رَهطُكَ لَرَجَمناكَ} [هود: 91].

ثالثاً: اتهموه بالسحر، فقالوا: {إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء: 153].

رابعاً: الكذب، فقالوا: {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [الشعراء: 186]، {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 187].

خامساً: حاولوا صد الناس عنه، قالوا: {لَئِنِ اتَّبَعتُم شُعَيبًا إِنَّكُم إِذًا لَخاسِرونَ} [الأعراف: 90].

وفي قولهم: {وَلَولا رَهطُكَ لَرَجَمناكَ} [هود: 91] تحتاج إلى وقفة، لأن معنى هذا أن رهط شعيب كانوا سينصرونه فيما لو أراد الكفار أن يضروه، وهذا كما وقع من رهط النبي محمد ﷺ إذ كانوا ينصرونه ويدفعون عنه، وكان أبو طالب يدافع عن النبي ﷺ أشد الدفاع بل لما مات أبو طالب تعرض النبي ﷺ للأذى من قريش أكثر مما كان يتعرض له في زمن أبي طالب، ففي زمن أبى طالب كانت قريش تذهب لأبي طالب وتقول له: امنع ابن أخيك، وكان يقول لمحمد ﷺ:

واللَّه لن يصلوا إليك بجمعهم              حتى أُوَسَّدَ في التراب دفيناً

أدفع عنك وإن كنت لست على ديني ولكني أدفع عنك حمية، يحامي عن النبي ﷺ ولما خرج النبي ﷺ ومن معه من المؤمنين إلى شعب أبي طالب ثلاث سنوات، خرج معه الكفار من بني هاشم والكفار من بني المطلب، عدا عم النبي ﷺ أبي لهب، هذه العصبية القبلية قد تنفع، وقد تكون طيبة ويستفيد منها المؤمن، ولكن لا يجوز أبداً أن ينادى بها وأن يقدم الكافر القريب في النسب على المؤمن البعيد في النسب، فتلك كما قيل: قرابة طين، وقرابة المؤمن للمؤمن: قرابة دين.

ولقد قال لهم نبي الله شعيب وهو يدعوهم إلى الله - جلّ وعلا -: {وَما أُريدُ أَن أُخالِفَكُم إِلى ما أَنهاكُم عَنهُ} [هود: 88] الداعي إلى الله - جلّ وعلا - يكون قدوة، بل هذه هي صفات الأنبياء والمرسلين وعكسها تماماً صفات الكافرين والمنافقين، قال نوح صلوات الله وسلامه عليه: {وَما أُريدُ أَن أُخالِفَكُم إِلى ما أَنهاكُم عَنهُ} [هود: 88] وقال الله لمحمد ﷺ: {وَأمُر أَهلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصطَبِر عَلَيها} [طه: 132] هذه صفات المتقين، وصفات الأنبياء، وأما أعداؤهم وأعداء الصالحين فقال الله لهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] وقال الله - جلّ وعلا -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿٢﴾ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3:2]

وقال النبي ﷺ: ": ((يُؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار فتندلقُ أقتابُ بطنه فيدورُ بها كما يدورُ الحمارُ في الرحى, فيجتمع إليه أهلُ النار فيقولون: يا فُلان ما لك ألم تكُن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى, كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه "(1) وذُكر أن رجلاً جاء إلى عبد الله بن العباس رضي الله عنه فقال: إني أريد أن أُذَكِّر الناس فقال له عبد الله بن عباس: إذا لم تخش أن تُفتضح بثلاث آيات فافعل وهي: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 44]، {وَما أُريدُ أَن أُخالِفَكُم إِلى ما أَنهاكُم عَنهُ} [هود: 88]، {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3](2).

وقد قيل:

يا واعظ الناس عما أنت فاعله       يا من يُعد عليه العمر بالنفس

احفظ لشيبك من عيب يدنسه         إن البياض قليل الحمل للدنس

كحامل لثياب الناس يغسلها            وثوبه غارق في الرجس والنجس

تبغي النجاة ولم تسلك طريقتها        إن السفينة لا تجري على اليبس

 

(1) أخرجه البخاري (3267)، ومسلم (2989) من حديث أسامة بن زيد

(2) "تفسير ابن كثير" (1/249).

 

فصل - تهديد ووعيد:

قال الله تعالى على لسان قوم شعيب: {لَنُخرِجَنَّكَ يا شُعَيبُ وَالَّذينَ آمَنوا مَعَكَ مِن قَريَتِنا أَو لَتَعودُنَّ في مِلَّتِنا} [الأعراف: 88] ابتلاء، نخرجكم من قريتنا أو تعودون في ملتنا.

وهنا قولهم: {لَتَعودُنَّ في مِلَّتِنا} [الأعراف: 88] لا يعني أبداً أن شعيباً كان كافراً يوماً من الأيام أبداً، بل إن الله - جلّ وعلا - أعلم حيث يجعل رسالته، وما كان نبي من الأنبياء كافراً قط في يوم من الأيام، ولكنهم يريدون مَنْ مع شعيب ممن آمن.

قال لهم شعيب: {أَوَلَو كُنّا كارِهينَ ﴿٨٨﴾ قَدِ افتَرَينا عَلَى اللَّـهِ كَذِبًا إِن عُدنا في مِلَّتِكُم بَعدَ إِذ نَجّانَا اللَّـهُ مِنها} [الأعراف: 89:88] ويتكلم هنا بلسان قومه الذين آمنوا به، وذلك أن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب فإنه لا يخرج منها أبداً، ولذلك قال النبي ﷺ لخباب: "قد كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيُنشر بالمنشار نصفين من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه لا يرده ذلك عن دينه أبداً"(1)، وقال هرقل لأبي سفيان: "وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب فإنه لا يخرج منها أبداً"(2)، عبد الله بن حذافة لما طلب منه قيصر أن يترك دينه ويعطيه نصف ملكه أبى وقتل أمام عينيه بعض أصحابه فأبى أن يرجع عن دينه فلما أخذوه ليقتلوه دمعت عينه فقال قيصر: ردوه لعله يريد أن يكفر، فقال: ما لك بكيت؟ قال بكيت أنه لا نفس لي إلا واحدة وتموت وينتهي الأمر، وقد تمنيت أن لو تكون أكثر من نفس كلها تموت في سبيل الله - جلّ وعلا -.

 

(1) أخرجه البخاري (3612) من حديث خباب بن الأرت

(2) أخرجه البخاري (7)، ومسلم (1773) من حديث ابن عباس.

 

فصل - شعيب يطلب النصر من الله:

قال شعيب عليه السلام: {وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيءٍ عِلمًا عَلَى اللَّـهِ تَوَكَّلنا رَبَّنَا افتَح بَينَنا وَبَينَ قَومِنا بِالحَقِّ وَأَنتَ خَيرُ الفاتِحينَ} [الأعراف: 89] أي: انصرنا على قومنا، افصل بين الحق والباطل، قال الله تبارك وتعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 189]، وقال: {وَلَمّا جاءَ أَمرُنا نَجَّينا شُعَيبًا وَالَّذينَ آمَنوا مَعَهُ بِرَحمَةٍ مِنّا وَأَخَذَتِ الَّذينَ ظَلَمُوا الصَّيحَةُ فَأَصبَحوا في دِيارِهِم جاثِمينَ} [هود:94]، فهلك قوم شعيب، وبعد هلاكهم مرَّ عليهم شعيب، خاطبهم وهم أموات كما خاطب النبي ﷺ أهلَ قليبِ بدر، وقال: "هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإنا قد وجدنا ما وعد ربنا حقاً"(1)، فقال شعيب: {يا قَومِ لَقَد أَبلَغتُكُم رِسالاتِ رَبّي وَنَصَحتُ لَكُم فَكَيفَ آسى عَلى قَومٍ كافِرينَ} [الأعراف: 93].

 

(1) أخرجه البخاري (3976)، ومسلم (2875) من حديث أنس رضي الله عنه.

 

فصل - صنوف العذاب على أهل مدين:

ذكر الله - جلّ وعلا - أنه عذبهم بثلاثة أنواع:

النوع الأول: الرجفة.

النوع الثاني: الصيحة.

النوع الثالث: عذاب يوم الظلة.

قال الله تبارك وتعالى عن الرجفة: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [العنكبوت: 37].

وقال عن الصيحة: {وَأَخَذَتِ الَّذينَ ظَلَمُوا الصَّيحَةُ} [هود: 94].

وقال عن عذاب يوم الظلة: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء: 189]. قال الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللهُ: "أصابهم حرٌ شديد، وأسكن الله

هبوب الهواء عنهم سبعة أيام، فكان لا ينفعهم مع ذلك ماء ولا ظل، ولا دخولهم في الأسراب، فهربوا من محلتهم إلى البرية، فأظلتهم سحابة، فاجتمعوا تحتها ليستظلوا بظلها، فلما تكاملوا فيه، أرسلها الله ترميهم بشرر وشهب، ورجفت بهم الأرض، وجاءتهم صيحة من السماء، فأزهقت الأرواح، وخربت الأشباح"(1).

وهذه سنة الله - جلّ وعلا - مع أنبيائه وأتباعهم وأعدائهم، وذلك أن الله - جلّ وعلا - ذكر أن أنبياءه ينقسمون إلى قسمين في دعوتهم أقوامهم:

قسم من الأنبياء من يأمرهم الله بالجهاد ضد الطغاة، وهؤلاء ينصرهم الله في معاركهم ويهزم أعداءهم، كما قال - جلّ وعلا -: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّـهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] وقال - جلّ وعلا -: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿٢٥٠﴾ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّـهِ} [البقرة: 251:250] وقال - جلّ وعلا -: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ﴿١٧١﴾ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ﴿١٧٢﴾ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173:171]، ولنا في سيرة نبينا محمد ﷺ أعظم العبرة في هذا الأمر.

القسم الثاني: الذين لم يؤمروا بقتال الأعداء من الكفار، بل أُمروا بالصبر والصفح، وهذا القسم ينصره الله - جلّ وعلا - بهلاك عدوه كما فعل الله تبارك وتعالى مع نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وغيرهم، فإن الله تبارك وتعالى ينزل العذاب العام على أقوامهم.

وليس نبي الله شعيب هو صاحب موسى - كما يظن البعض - الذي زوّجه ابنته، لأن بين شعيب وموسى مئات السنين، إن لم تكن آلاف، فالمشهور أن شعيباً عليه السلام بعد لوط مباشرة، قريب وقته من وقت لوط عليه السلام.

واشتهر عند الناس كثيراً: "عسى عمرك عمر شعيب النبي"، والمشهور أن نوحاً صلوات الله وسلامه عليه هو الذي كان ذا عمر طويل، أما شعيب فلم يُذكر شيء من ذلك.

أولاً: أن الصبر والإيمان عاقبته النصر والنجاة كما فعل الله بشعيب ومن آمن معه.

ثانياً: مدة الظالم في الأرض قصيرة - وإن طالت فيما يظهر للناس - لكنها في النهاية قصيرة جداً.

ثالثاً: مِلَّةُ الكفر واحدة، فلو نظرنا إلى ردِّ قوم شعيب عليه، ثم إلى رد قوم لوط عليه، وقوم صالح، وقوم هود، وقوم نوح، وهكذا، لوجدنا أن ملةَ الكفر واحدة في ردها على أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

رابعاً: أن المعصية  التي تقع من الإنسان، والتي لا يكون لها مبرر ولا داعي لها في نفسه أشدَّ عقوبة عند الله - جلّ وعلا -، وأشد جرماً، ولذلك قال النبي ﷺ: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب عظيم، قال: ملكٌ كذاب، وعائل مستكبر، وشيخٌ زانٍ"(1)، فالملك لا يحتاج إلى الكذب، والغني المستكبر له دافع، والناس تريد رضاه، فيدفعه هذا إلى الكبر، أما الفقير لا دافع له، والشاب يزني،    وكذلك قوم شعيب: أغنياء {إِنّي أَراكُم بِخَيرٍ} [هود: 84]، ومع هذا يأخذون أموال الناس بالباطل، فصار عقابهم أشدَّ من عقاب غيرهم، لأنه لا داعي لأكل أموال الناس بالباطل كما فعلوا.

لأن عنده شهوة، أما الشيخ، فإما أنه ذاق الحلال أو ضعفت شهوته، ولذلك كان عذاب هؤلاء الثلاثة أشد من عذاب غيرهم.

خامساً: أن الصلاة تنهى عن الفحشاء {أَصَلاتُكَ تَأمُرُكَ أَن نَترُكَ ما يَعبُدُ آباؤُنا أَو أَن نَفعَلَ في أَموالِنا ما نَشاءُ} [هود: 87] إذاً صلاته هي التي أمرته بهذا {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45].

سادساً: الداعية إلى الله يجب أن يكون قدوة، وهذا عمر رضي الله عنه لما كانت سنة المجاعة في زمنه، منع أهله، وقال: لا والله، لا يذوق أهل عمر الطعام حتى يذوقه الناس، ولا يأكل أهل عمر اللحم حتى يأكله الناس، حتى قيل: إنه صار في وجهه لون سواد من كثرة ما يأكل الزيت مع الخبز.

سابعاً: الأنبياء جميعاً بُعثوا للصلاح والإصلاح، إصلاح المجتمعات، وإصلاح ما بينهم وبين الله وإصلاح ما بينهم وبين الناس.

وأخيراً: من يدعو إلى الله تبارك وتعالى يحتاج أن يكون حليماً حسنَ الخلق مع قومه كما كان أمر شعيب صلوات الله وسلامه عليه.

 

(1) "البداية والنهاية" (1/219).

مقالات ذات صلة :