• 4 تموز 2016
  • 9,670

علوم القرآن الكريم

البحث مقتطف من كتاب: الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية

لقد اتسع القول في احتواء القرآن كل العلوم ما كان منها وما يكون، فالقرآن في نظر أصحاب هذه الطريقة يشمل إلى جانب العلوم الدينية ال اعتقادية، والعملية سائر علوم الدنيا على اختلاف أنواعها، وتعدد ألوانها. وممن توسعوا في التفسير العلمي الإمام الغزالي. الإمام الغزالي كان إلى عهده أكثر من استوفى بيان هذا القول في تفسير القرآن الكريم، وأهم من أيده وعمل على ترويجه في الأوساط العلمية الإسلامية على رغم ما قرر فيها من قواعد فهم عبارات القرآن الكريم.

وكتاب (الإحياء في علوم الدين) ينقل فيه عن بعض العلماء أن القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم، إذ كل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف، إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع. ثم يروي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن"، ثم يقول بعد ذلك كله: "وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله -عز وجل- وصفاته. وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها وفي القرآن إشارة إلى مجامعها، ثم يزيد على ذلك فيقول: بل كل ما أشكل فهمه على النظار، واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات في القرآن، إليه رمز ودلالات عليه. يختص أهل الفهم بدركها"، ثم لو تصفحنا كتاب الغزالي (جواهر القرآن)، الذي ألفه بعد (إحياء علوم الدين)، فنجده يزيد هذا الذي قرره في الإحياء بيانًا وتفصيلًا، فيعقد الفصل الرابع منه لكيفية انشعاب العلوم الدينية كلها، وما يتصل بها من القرآن عن تقسيمات وتفصيلات تولاها.

ونكتفي بأن نقول: إن الغزالي قسم علوم القرآن إلى قسمين: الأول: علم القشر يعني السطحيات، وجعل من مشتملاته علم اللغة وعلم النحو وعلم القراءات وعلم مخارج الحروف وعلم التفسير الظاهر. والقسم الثاني: علم اللباب وجعل من مشتملاته علم قصص الأولين، وعلم الكلام وعلم الفقه وعلم أصول الفقه والعلم بالله واليوم الآخر والعلم بالصراط المستقيم وطريق السنة، ثم بعد ذلك يعقد الفصل الخامس من كتابه (جواهر القرآن) لكيفية انشعاب سائر العلوم من القرآن الكريم. فيذكر علم الطب والنجوم، وهيئة العالم، وهيئة أجسام الحيوان وتشريح أعضائه، وعلم السحر وغير ذلك، ثم يقول: "ووراء ما عددته علوم أخرى يعلم تراجمها ولا يخلو العالم عمن يعرفها. ثم بعد ذلك يقول: ولا حاجة لي إلى ذكرها بل أقول: ظهر لنا بالبصيرة الواضحة، التي لا يتمارى فيها أن في الإمكان والقوة أصنافًا من العلوم بعد لم تخرج من الوجود، وإن كان في قوة الآدمي الوصول إليها. وعلوم كانت قد خرجت من الوجود واندثرت الآن، فلن يوجد في هذه الأمصار على بسيط الأرض من يعرفها. وعلوم أخر ليس في قوة البشر أصلًا إدراكها والإحاطة بها، ويحظى بها بعض الملائكة المقربين، فإن الإمكان في حق الآدمي محدود، والإمكان في حق الملك محدود إلى غاية من النقصان، وإنما الله -سبحانه- هو الذي لا يتناهى العلم في حقه.

ثم يقول بعد ذلك: ثم هذه العلوم ما عددناه وما لم نعدده ليست أوائلها خارجة من القرآن، فإن جميعها مقترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى، وهو بحر الأفعال يقول: وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مدادًا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد. فمن أفعال الله تعالى وهو بحر الأفعال مثلًا الشفاء والمرض، كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم: {وإذا مرضتُ فهُو يشفين} (الشعراء: 80)، وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا من عرف الطب بكماله. إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته، ومعرفة الشفاء وأسبابه، ومن أفعاله تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان، وقد قال الله تعالى: {الشّمسُ والقمرُ بحُسبانٍ} (الرحمن: 5). وقال تعالى: {وقدّرهُ منازل لتعلمُوا عدد السّنين والحساب} (يونس: 5)، وقال تعالى: {وخسف القمرُ * وجُمع الشّمسُ والقمرُ} (القيامة: 8، 9)، وقال تعالى: {يُولجُ اللّيل في النّهار ويُولجُ النّهار} (الحج: 61). وقال تعالى: {والشّمسُ تجري لمُستقرٍّ لها ذلك تقديرُ العزيز العليم} (يس: 38)، ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان وخسوفهما وولوج الليل في النهار، وكيفية تكور أحدهما على الآخر إلا من عرف هيئات تركيب السموات والأرض.

وهو علم برأسه ولا يعرف كمال معنى قوله تعالى: {يا أيُّها الإنسانُ ما غرّك بربّك الكريم * الّذي خلقك فسوّاك فعدلك * في أيّ صُورةٍ ما شاء ركّبك} (الانفطار: 6 - 8)، إلا من عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرًا وباطنًا وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها. وقد أشار في القرآن مجامع علم الأولين والآخرين، وكذلك لا يعرف معنى قوله تعالى: {سوّيتُهُ ونفختُ فيه من رُوحي} (الحجر: 29) ما لم يعلم التسوية والنفخ والروح، ووراءها علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق، وربما لا يفهمونها إن سمعوها من العالم بها. يقول الغزالي: ولو ذهبت أفصل ما تدل عليه آيات القرآن من تفاصيل الأفعال لطال، ولا يمكن الإشارة إلا إلى مجامعها، فتفكر في القرآن والتمس غرائبه لتصادف فيه مجامع علم الأولين والآخرين". بهذا نعرف أن الغزالي كان من المكثرين في القول بالتفسير العلمي، ومن المؤيدين له.

بعد ذلك نذهب إلى إمام آخر نحى منحى الغزالي في القول بالتفسير العلمي وهو الجلال السيوطي، فنجده يقرر ذلك بوضوح وتوسع في كتابه (الإتقان) في النوع الخامس والستين منه. كما يقرر ذلك أيضًا بمثل هذا الوضوح والتوسع في كتابه (الإكليل في استنباط التنزيل)، ونجده يسوق من الآيات والأحاديث والآثار ما يستدل به على أن القرآن مشتمل على كل العلوم.

فمن الآيات نجد قول الله تعالى في الآية 38 من سورة الأنعام: {ما فرّطنا في الكتاب من شيءٍ } (الأنعام: 38) وقوله في الآية 89 من سورة النحل: {ونزّلنا عليك الكتاب تبيانًا لكُلّ شيء} (النحل: 89). ومن الأحاديث التي ساقها، ويستدل بها على أن القرآن مشتمل على كل العلوم: ما أخرجه الترمذي وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ستكون فتن قيل: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم)). وكذلك أيضًا ما أخرجه أبو الشيخ عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله لو أغفل شيئًا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة)) ومن الآثار ما أخرجه سعيد بن منصور عن ابن مسعود أنه قال: "من أراد العلم فعليه بالقرآن، فإن فيه خبر الأولين والآخرين". وما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "أنزل الله في القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء، لكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن".

ثم نجد السيوطي بعد أن يسوق هذه الأدلة وغيرها، يذكر لنا عن بعض العلماء أنه استنبط أن عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاث وستون سنة، من قوله تعالى في الآية الحادية عشرة من سورة المنافقون يقول: {ولن يُؤخّر اللّهُ نفسًا إذا جاء أجلُها} (المنافقون: 11). فإنها رأس ثلاث وستين سورة وعقبها أي ذكر بعدها سورة التغابن؛ ليظهر التغابن في فقد النبي -صلى الله عليه وسلم .

بعد أن ذكرنا الجلال السيوطي وكثرته من القول في التفسير العلمي نأتي بعد ذلك إلى عالم آخر يقرر ما قرره السيوطي وما قرره الغزالي، هذا العالم هو أبو الفضل المرسي. لقد ذكر عن أبي الفضل المرسي أنه قال في تفسيره: "جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علمًا حقيقة إلا المتكلم به، وهو الله سبحانه، ثم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - خلا ما استأثر به -سبحانه وتعالى-. ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم مثل: الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى، ثم ورث عنه التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم، وفترت العزائم. وتضاءل أهل العلم، وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوعوا علومه وقامت كل طائفة بفن من فنونه. فاعتنى قوم بضبط لغاته، وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه وعددها وعدد كلماته وآياته وسوره، وأحزابه وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته والتعليم عند كل عشر آيات إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة من غير تعرض لمعانيه. ولا تدبر لما أودع فيه فسموا القراء، واعتنى النحاة بالمعرب منه، والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العاملة وغيرها، وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها وضروب الأفعال واللازم والمتعدي، ورسوم خط الكلمات وجميع ما يتعلق به.

حتى إن بعضهم أعرب مشكله وبعضهم أعربه كلمة كلمة، واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظًا يدل على معنى واحد، ولفظًا يدل على معنين، ولفظًا يدل على أكثر، فأجروا الأول على حكمه وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين والمعاني. وأعمل كل منهم فكره، وقال بما اقتضى نظره، واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة القطعية، والشواهد الأصلية والنظرية مثل قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهةٌ إلّا اللّهُ لفسدتا} (الأنبياء: 22) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. فاستنبطوا منها أدلة على وحدانية الله ووجوده وبقائه وقدمه وقدرته وعلمه وتنزيهه عما لا يليق به، وسموا هذا العلم بأصول الدين، وتأملت طائفة منهم معاني خطابه فرأت منها ما يقتضي العموم، ومنها ما يقتضي الخصوص إلى غير ذلك. فاستنبطوا منها أحكام اللغة من الحقيقي والمجاز، وتكلموا في التخصيص والإضمار والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي والنسخ إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة.

واستصحاب الحال والاستقراء، وسموا هذا الفن أصول الفقه، وأحكمت طائفة صحيح النظر، وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام، فأسسوا الأصول وفرعوا فروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطًا حسنًا، وسموه بعلم الفروع وبالفقه أيضًا. وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة والأمم الخالية، ونقلوا أخبارهم، ودونوا آثارهم ووقائعهم حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الأشياء، وسموا ذلك بالتاريخ. وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ، التي تقلقل قلوب الرجال، وتكاد تدكدك الجبال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير، وذكر الموت والمعاد، والنشر والحشر، والحساب والعقاب والجنة والنار. استنبطوا من ذلك فصولًا من المواعظ وفصولًا من الزواجر، فسموا بذلك الخطباء والوعاظ، واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير، يعني تفسير الرؤيا مثل ما ورد في قصة يوسف في البقرات السمان، وفي منامي صاحبي السجن. وفي رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة، وسموه تعبير الرؤيا، واستنبطوا تأويل كل رؤيا من الكتاب، فإن عز عليهم إخراجها منه، فمن السنة التي هي شارحة للكتاب، فإن عز فمن الحكم والأمثال. ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطباتهم، وعرف عاداتهم الذي أشار إليه القرآن بقوله: {وأمُر بالمعرُوف} (لقمان: 17).

وأخذ قوم مما في آيات المواريث من ذكر السهام وأربابها وغير ذلك، أخذوا علم الفرائض، واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث والربع والسدس والثمن حساب الفرائض، ومسائل العدل، واستخرجوا منه أحكام الوصايا. ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالات على الحكم الباهرة في الليل والنهار، والشمس والقمر ومنازله والبروج وغير ذلك، فاستخرجوا منه علم المواقيت. ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ وبديع النظم، وحسن السياق، والمبادئ والمقاطع والمخالص والتلوين في الخطاب والإطناب والإيجاز وغير ذلك، واستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع. ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة، فلاح لهم من ألفاظه معاني ودقائق جعلوا لها أعلامًا اصطلحوا عليها، مثل الفناء والبقاء والحضور والخوف والهيبة والأنس والوحشة والقبض والبسط، وما أشبه ذلك.

هذه الفنون أخذتها الملة الإسلامية منه، وقد احتوى على علوم أخر من علوم الأوائل، مثل الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة وغير ذلك من العلوم، أما الطب فمداره على نظام الصحة واستحكام القوة. وذلك إنما يكون باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة، وقد جمع ذلك في آية واحدة، وهي قوله تعالى: {وكان بين ذلك قوامًا} (الفرقان: 67)، وعرفنا فيه ما يفيد نظام الصحة بعد اختلالها. وحدوث الشفاء للبدن بعد اعتلاله في قوله تعالى: {شرابٌ مُختلفٌ ألوانُهُ فيه شفاءٌ للنّاس} (النحل: 69)، ثم زاد على طب الأجسام بطب القلوب وشفاء الصدور. وأما الهيئة ففي تضاعيف سوره من الآيات، التي ذكر فيها ملكوت السموات والأرض وما بث في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات. وأما الهندسة ففي قوله تعالى: {انطلقُوا إلى ظلٍّ ذي ثلاث شُعبٍ * لا ظليلٍ ولا يُغني من اللّهب} (المرسلات: 30، 31)، فإن فيه قاعدة هندسية وهو أن الشكل المثلث لا ظل له. وأما الجدل فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج، والقول بالموجب والمعارضة وغير ذلك شيئًا كثيرًا، ومناظرة إبراهيم نمرود ومحجته قومه أصل في ذلك عظيم. وأما الجبر والمقابلة: فقد قيل: إن أوائل السور فيها ذكر مدد وأعوام وأيام التواريخ لأمم سالفة، وإن فيها بقاء هذه الأمة وتاريخ مدة أيام الدنيا، وما مضى وما بقي مضروب بعضها في بعض.

وفي القرآن أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليه، كالخياطة في قوله تعالى: {وطفقا يخصفان} (الأعراف: 22)، والحدادة في قوله تعالى: {آتُوني زُبر الحديد} (الكهف: 96). والبناء في آيات والنجارة في قوله تعالى: {واصنع الفُلك بأعيُننا} (هود: 37)، والغزل في قوله تعالى: {نقضت غزلها} (النحل: 92)، والنسج في قوله تعالى: {كمثل العنكبُوت اتّخذت بيتًا} (العنكبوت: 41). والفلاحة في قوله تعالى: {أفرأيتُم ما تحرُثُون} (الواقعة: 63)، والصيد ذكر في آيات، وكذلك الغوص وذلك في قوله تعالى: {والشّياطين كُلّ بنّاءٍ وغوّاصٍ} (ص: 37)، وقوله تعالى: {وتستخرجُوا منهُ حليةً} (النحل: 14). والصياغة في قوله تعالى: {واتّخذ قومُ مُوسى من بعده من حُليّهم عجلًا جسدًا لهُ خُوارٌ} (الأعراف: 148)، والزجاج في قوله: {المصباحُ في زُجاجةٍ} (النور: 35)، وقوله تعالى: {مُمرّدٌ من قوارير} (النمل: 44). والفخار في قوله تعالى: {فأوقد لي يا هامانُ على الطّين} (القصص: 38)، والملاحة في قوله تعالى: {أمّا السّفينةُ} (الكهف: 79)، والكتابة في قوله تعالى: {علّم بالقلم} (العلق: 4) وفي آيات أخرى. والخبز في قوله تعالى: {أحملُ فوق رأسي خُبزًا} (يوسف: 36)، والطبخ في قوله تعالى: {بعجلٍ حنيذٍ} (هود: 69)، والقصارى بعد غسل الملابس وتنظيفها في قوله تعالى: {وثيابك فطهّر} (المدثر: 4). {قال الحواريُّون} (الصف: 14) قيل: وهم القصارون وكذلك الجزارة في قوله تعالى: {إلّا ما ذكّيتُم} (المائدة: 3) والبيع والشراء في آيات، والصبغ في قوله تعالى: {صبغة اللّه} (البقرة: 138) و {جُددٌ بيضٌ} (فاطر: 27). والحجارة في قوله تعالى: {وتنحتُون من الجبال بُيُوتًا} (الشعراء: 149)، والكيالة والوزن في آيات كثيرة، والرمي في قوله تعالى: {وما رميت إذ رميت} (الأنفال: 17)، وفي قوله تعالى: {وأعدُّوا لهُم ما استطعتُم من قُوّةٍ} (الأنفال: 60). وفي القرآن الكريم من أسماء الآلات، وضروب المأكولات والمشروبات والمنكوحات، وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله تعالى: {ما فرّطنا في الكتاب من شيءٍ} (الأنعام: 38).

قال السيوطي: انتهى كلام أبي الفضل المرسي ملخصًا مع زيادة". ثم بعد رواية السيوطي لهذه المقالة الطويلة نجده يذكر عن أبي بكر بن العربي أنه قال في كتابه (قانون التأويل): "علوم القرآن خمسون علمًا، وأربعمائة علم وسبعة آلاف علم وسبعون ألف علم على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة. إذ لكل كلمة ظهر وبطن وحد ومطلع، وهذا مطلق دون اعتبار الترتيب وما بينها من روابط، وهذا ما لا يحصى وما لا يعلمه إلا الله". وأخيرًا عقب السيوطي على هذه النقول وغيرها، فقال: "وأنا أقول: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء، أما أنواعه فليس منها باب ولا مسألة هي أصلًا وإلا وفي القرآن ما يدل عليها، وفيه عجائب المخلوقات، وملكوت السموات والأرض وما في الأفق الأعلى وما تحت الثرى. وإلى غير ذلك مما يحتاج شرحه إلى مجلدات".

ومن هنا يتبين كيف ظهرت آثار الثقافات العلمية للمسلمين في تفسير القرآن الكريم وكيف حاول هؤلاء العلماء المتقدمون أن يجعلوا القرآن منبع العلوم كلها ما جد، وما يجد إلى يوم القيامة، هذه النزعة التفسيرية العلمية للقرآن الكريم تمتد من عهد النهضة العلمية العباسية إلى يومنا هذا. وفي بداية الأمر كانت عبارة عن محاولات يقصد منها التوفيق بين القرآن، وما جد من العلوم، ثم وجدت الفكرة مركزة وصريحة على لسان الغزالي وابن العربي والمرسي والسيوطي، وهذه الفكرة قد طبقت علميًّا. وظهرت في مثل محاولات الفخر الرازي ضمن تفسيره للقرآن، ثم وجدت بعد ذلك كتب مستقلة لاستخراج العلوم من القرآن، وتتبع الآيات الخاصة بمختلف العلوم. وراجت هذه الفكرة في العصر المتأخر رواجًا كبيرًا بين جماعة من أهل العلم، ونتج عن ذلك مؤلفات كثيرة تعالج هذا الموضوع، كما ألفت بعض التفاسير التي تسير على ضوء هذه الفكرة. هؤلاء هم المؤيدون للتفسير العلمي.

انتهى ...

مقالات ذات صلة :