• 25 نيسان 2017
  • 3,512

سلسلة من نحب - الرسل والأنبياء - (11) سيدنا أيوب عليه الصلاة والسلام :

المقدمة :

حديثنا في هذا المقام عن قدوة الصابرين، نبي الله أيوب صلوات الله وسلامه عليه الذي صار مضرب المثل في الصبر، حتى إذا بلغ الصبر بالإنسان مبلغه، قال: يا صبر أيوب، يعني اللهم أعطني صبر أيوب.

وأيوب عليه السلام من ذرية إبراهيم على الصحيح، وعلى المشهور هو من ذرية العيص بن إسحاق بن إبراهيم.

قال الله - جلّ وعلا - عن إبراهيم عليه السلام: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ داوودَ وَسُلَيمانَ وَأَيّوبَ وَيوسُفَ وَموسى وَهارونَ} [الأنعام: 84].

ورَدَ ذكره في القرآن أربع مرات، والصحيح المشهور أنه نبي، قال الله - جلّ وعلا -: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ} [النساء: 163] ولم يذكر الله تبارك وتعالى رسالته، ولا بُعث إلى مَنْ، ولا ذكر دعوته لقومه، ولا ذكر ردَّهم عليه، ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى أن أيوب ليس بنبي، ولكنه رجل صالح كلقمان، وذي القرنين، وغيرهما من الصالحين الذين ذكرهم الله - جلّ وعلا - من بني إسرائيل، أو ذكرهم النبي ﷺ، وأياً كان الأمر، فالمشهور أنه نبي، ونحن نذكر قصته صلوات الله وسلامه عليه.

 

فصل - ابتلاء الله عزّ وجلّ لأيوب عليه السلام:

كان في أرض حوران في الشام، ويقترن اسمه بالصبر، لأنه كان أشد الأنبياء بلاءً في جسده صلوات الله وسلامه عليه، ذُكر عن أيوب أنه كان كثير المال من جميع أصنافه، من أراضٍ، ومزارع، وأنعام، وذهب، وفضة، وغيرها.

وله كذلك أولاد كُثُر، وأهلون كُثُر، فسَلَبه الله - جلّ وعلا - جميع ذلك، هذا هو الأمر الأول.

الأمر الثاني: أنه ابتُلي في جسده بأنواع ا لبلاء، حتى قيل: إنه لم يبقَ من جسده مما لم يُصب إلا لسانه، وقلبه.

الأمر الثالث: طال بلاؤه جداً.

الأمر الرابع: ملّ الناس زيارته لطول البلاء، وقيل: لخشية العدوى منه، ونحن نلاحظ أن بعض الناس إذا دخل إلى المستشفى أو مَرِضَ، يزوره الناس أول جمعتين، أو أول شهر، ثم بعد ذلك يملُّ الناس من زيارته، ثم يصير الطيب من الناس من يذكره في كل شهر مرة، ثم بعد ذلك ينساه الناس تماماً، لأن الناس يملون، فما يبقى معه إلا مَنْ يحبه، وأيوب هجره جميع الناس، ما بقي معه إلا امرأته، وهذه لا شك مصائب يصيب الله بها العباد، ولكن هذه المصائب في نظر العاقل المتدبر هي نعمٌ لمن صبر واحتسب، لأنها أجر يقدمه الإنسان لنفسه يوم القيامة، وهي كالدواء المُر يشربه المريض، ولكن في النهاية عاقبته إلى خير.

اختلف أهل السير والتاريخ في مدة بلائه، فقيل استمر بلاؤه ثلاث سنين، وقيل استمر سبع سنين، وقيل استمر ثمان عشرة سنة، وكل هذه الأقوال لا دليل عليها، لا من كتاب، ولا من سنة، وإذا لم يكن ثمة خبر من الله - جلّ وعلا - أو من نبيه ﷺ، فكل ما بقي رجمٌ بالغيب، لكننا نعلم علم اليقين أنه ابتلي.

 

فصل - صبر أيوب عليه السلام:

ومع هذا الابتلاء ظلَّ أيوب عليه السلام صابراً محتسباً للأجر عند الله تبارك وتعالى، ويكثر من ذكر الله - جلّ وعلا - ليله ونهاره، لم يفتُرْ لسانه ولا قلبه عن ذكر الله - جلّ وعلا -، وهو كما قال النبي ﷺ "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان فيه دينه صلابة شُدِّدَ عليه في البلاء"، إذاً الابتلاءات هذه لا تدل على أن الله لا يحب هذا الإنسان، بل لعل العكس هو الصحيح، وذلك أنه جاء في الحديث عن النبي ﷺ: "من يرد الله به خيراً يُصب منه"(2)، أي: يبتليه سبحانه وتعالى، كالذهب يعرض على النار، فتنقي النار هذا الذهب من الشوائب حتى يصير بعد ذلك خالصاً من هذه الشوائب التي كانت عالقة فيه.

وظلَّت امرأة أيوب عليه السلام صابرةً محتسبةً معه، وقامت بحقِّ زوجها خيرَ قيام مع طول المدة، وشدة البلاء إلا أن أيوب عليه السلام لم يسأل ربَّه كشف ذلك الضر، وهذا جائز، فيجوز للإنسان أن يصبر ويحتسب الأجر، ويجوز له أن يدعو الله - جلّ وعلا - فيُذهب عنه ما يجد، وذُكر أنه قال: عشتُ سبعين سنة صحيحاً، فهل قليل علي أن أصبر سبعين سنة؟

وقد جاء عن عمران بن حصين الصحابي رضي الله عنه أنه جلس في فراشه ثمان عشرة سنة، فقيل له: ألا تدعو الله أن يشفيك، قال: حتى تتم سنوات عافيتي مع سنوات مرضي، ولكن هل استمرَّ أيوب ولم يدعُ الله - جلّ وعلا -؟

 

 (2) أخرجه البخاري (5645) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

 

فصل - أيوب عليه السلام يرفع يديه بالدعاء بعد صبر طويل:

ضعُفَ حال امرأته، وقلَّ كسب يدها، وما كانت تجد من يُنفق عليها، كانت تعمل لتطعم نفسها وتأتي لتطعم أيوب صلوات الله وسلامه عليه، حتى ملَّها الناس، بل خافوا منها أن تعديهم لكثرة ترددها على هذا المريض أيوب صلوات الله وسلامه عليه، فلم تجد بُداً من أن تبيع شعرها، وقالوا: كان لها شعرٌ حسنٌ فباعتْ ضفيرتيها لبعض نساء الأشراف في تلك البلاد، وأخذت المال واشترتْ به طعاماً لها ولزوجها.

جاءت أيوب ومعها طعام حسن لا كما كانت تأتيه في كل يوم، فشك في أمرها وحلف لا يأكل من هذا الطعام حتى تخبره من أين أتت به، فكشفت عن رأسها وأرتْه أنها باعت ضفيرتيها، فلما رآها، رفع رأسه إلى السماء، وقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] دعا الله - جلّ وعلا -، قلنا: لم يصبر، لا أنه لم يصبر لشدة الألم، ولكن لِمَا رأى من حال زوجته، فقال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83] أي: في أهلي، وفي هذا أن الإنسان إذا ضاقتْ به الدنيا أنه لا ملجأ ولا منجا إلا إلى الله سبحانه وتعالى، فلجأ هذا العبد التقي إلى ربه سبحانه وتعالى، وكما قال الله - جلّ وعلا -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴿١٥٥﴾ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴿١٥٦﴾ أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157:155]، ولو طبقنا هذه الآية لوجدناها على أيوب مطابقة تماماً.

وقيل: إنه سبب آخر، قام رجلان قريبان من أيوب، كانا يترددان عليه، فقال أحدهما: لو كان الله علم من أيوب خيراً، ما ابتلاه بهذا، فجزع أيوب من قولهما جزعاً لم يجزع مثله، وخرَّ للّه ساجداً، وقال: اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبداً حتى تكشف عني، فما رفع رأسه حتى كشف الله عنه ما يجد، جاء في هذا حديث مرفوع عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة..، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له، كانا يغدوان له ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: نعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثمان عشرة سنة لم يرحمه ربُّه فيكشف عنه، فلما دخلا على أيوب صلوات الله وسلامه عليه لم يصبر الرجل حتى ذكر له ذلك، قال أيوب: لا أدري ما تقول غير أن الله عزّ وجلّ يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان، فيذكران اللّه - هذا يحلف وهذا يحلف - فأرجع إلى بيتي، فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق"(1).

قال النبي ﷺ: "وكان يخرج في حاجته فإذا قضاها، أمسكتْ امرأته بيده، حتى يرجع، فلما كان ذات يوم أبطأت عليه، وأوحى اللّه إلى أيوب في مكانه: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]" أي: اضرب برجلك الأرض، "فضرب برجله الأرض، فنبعت عين، قال: {هَـذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] فاستبطأته، فتلقته تنظر، وأقبل عليها، وقد أذهب الله ما به من البلاء، وهو على أحسن ما كان، فلما رأته قالت: بارك الله فيك، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى؟ فوالله القدير على ذلك، ما رأيت رجلاً أشبه به منك إذ كان صحيحاً، قال: فإني أنا هو، أنا نبي الله المبتلى".

قال الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللهُ: "رفع هذا الحديث غريب جداً"(2).

والأشبه أن يكون موقوفاً، يعني من روايات بني إسرائيل، وليس من قول النبي ﷺ.

 

(1) أخرجه الطبري في تفسيره (21/211)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (17).

(2) "تفسير ابن كثير" (5/362).

 

فصل - حقيقة مرض أيوب عليه السلام:

نسب الناس إلى أيوب أشياء كثيرة، قالوا - كما يوجد في بعض الكتب -: إنه مرض حتى عافه الناس لقذارته ونتنه، وقالوا: كان الدود في جسده كثيراً حتى إنه خرجت دودة وسقطت في الأرض، فأخذها ووضعها في جسده مرة ثانية.

وقيل: إنه لما أنتنت رائحته من كثرة ما أنتن من لحمه أن قومه أخذوه وألقوه في الزبالة.

وقيل: تساقط لحمه كله حتى لم يبق إلا العظم والعصب.

وكل هذه ترّهات لا يجوز أن تقبل، على الحالين، إذا قلنا: إنه نبي، وإذا قلنا: إنه رجل صالح، فمثل هذا كيف يقبل الناس دعوته، والذي نؤمن به ونصدقه أن الله ابتلى أيوب عليه السلام بمرض شديد، وبفقد أمواله، وطالت مدة مرضه، ولكن لا يتصور أبداً أن يكون نبي يبلغ به هذا الحال أن يكون قذراً مستقذراً، هذا لا يمكن أن يصدق، إلا إذا قيل: إن هذا كان قبل النبوة، ولا حاجة لنا لهذا الاحتمال، لأن هذه الروايات لو كانت في القرآن أو عن النبي ﷺ لقلنا: على العين والرأس، لكن لما كانت من روايات بني إسرائيل، فتضرب بعرض الحائط، ولا كرامة.

يقول القاضي أبو بكر بن العربي رَحِمَهُ اللهُ: "لم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين:

الأولى: قول الله - جلّ وعلا -: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83].

والثانية: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، هذا الذي صح عن أيوب عليه السلام.

أما النبي ﷺ فلم يصح عنه أنه ذكره بحرف واحد، إلا قوله:

"بينا أيوب يغتسل إذ خرّ عليه رجل من جراد من ذهب"(1)، وإذا لم يصح فيه قرآن ولا سنة إلا ما ذكرناه، فمن الذي يوصل السامع إلى خبر أيوب، أم على أي لسان سمعه؟! والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البتات، فأعرض عن سطورها بصرك، وأصمم عن سماعها آذانك فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالاً، ولا تعطي فؤادك إلا خبالاً".

هذا ما ذكره القاضي أبو بكر العربي، ونِعْمَ ما قال رحمه الله ورضي عنه.

 

(1) أخرجه البخاري (279) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

 

فصل - هل يعارض الدعاءُ الصبر؟

قال الله - جلّ وعلا -: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، وقال الله - جلّ وعلا -: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83].

هل هذا يتنافى مع قول الله - جلّ وعلا - في شأن أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] هل يتنافى هذا مع الصبر؟

والجواب: هو صابر مع ذكر هذه الآيات، لا تعارض أبداً، لأنه لا تعارض بين الدعاء والصبر، والدعاء لا ينافي الصبر، والذي ينافي الصبر الشكوى إلى الخلق، أما الذي يشتكي إلى الله، فهذا هو الصابر المحتسب.

وأيوب لم يشتكِ إلى الخلق، بل لجأ إلى الله سبحانه وتعالى، وأيوب كان داعياً، ولم يكن شاكياً، بدليل أنه لما قال هذا الكلام، قال الله تعالى: {فَاستَجَبنا لَهُ} [الأنبياء: 76]، والاستجابة لا تكون إلا للدعاء، فهو دعا، ولم يشتكِ صلوات الله وسلامه عليه، بل إنه لما جمع في دعائه بين حقيقة التوحيد وإظهار الحاجة والفاقة إلى الله - جلّ وعلا -، بل والتوسل إليه بأسمائه وصفاته، استجاب الله سبحانه وتعالى له.

 

فصل - هل الشيطان يمس بالشر؟

وهنا قوله: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83]، {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] فهل الشيطان يمس بالشر أم أن الأمر كله بيد الله - جلّ وعلا -؟

والجواب: إن الأمر كله بيد الله - جلّ وعلا -، خلق الخير وخلق الشر، بل رأس الشر الشيطان، والذي خلقه هو الله سبحانه وتعالى، هو النافع الضار سبحانه وتعالى، ولكن هذا الكلام من أيوب صلوات الله وسلامه عليه جاء من باب الأدب مع الله - جلّ وعلا - كما جاء في دعاء النبي ﷺ: "والخير كله في يديك والشر ليس إليك"(1)، أي: لا يُنسب إليه سبحانه وتعالى.

قال الله - جلّ وعلا - عن إبراهيم: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]، ولم يقل: وإذا أمرضني مع أن الذي أمرضه هو الله، والذي شفاه هو الله، ولكنه أدباً مع الله - جلّ وعلا - قال: {مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80].

وقال سبحانه وتعالى عن الخضر: {وَأَمَّا الغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤمِنَينِ فَخَشينا أَن يُرهِقَهُما طُغيانًا وَكُفرًا ﴿٨٠﴾ فَأَرَدنا أَن يُبدِلَهُما رَبُّهُما خَيرًا مِنهُ زَكاةً وَأَقرَبَ رُحمًا} [الكهف: 81:80]، فنسب الفعل إلى نفسه، لأن ظاهر الفعل شر، وهو قتل غلام، لكن لما جاء إلى الجدار قال: {وَأَمَّا الجِدارُ فَكانَ لِغُلامَينِ يَتيمَينِ فِي المَدينَةِ وَكانَ تَحتَهُ كَنزٌ لَهُما وَكانَ أَبوهُما صالِحًا فَأَرادَ رَبُّكَ} [الكهف: 82]، ولم يقل: فأردنا، لأنه خير محض، وهذا مع حسن الأدب مع الله - جلّ وعلا -.

 

(1) أخرجه مسلم (771) من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

 

فصل - استجابة الله عزّ وجلّ لأيوب عليه السلام:

كان يخرج لحاجته مع امرأته وأنه في يوم من الأيام أبطأت عليه، فأوحى الله إليه أن {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42] اضرب برجلك، {هَـذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] الذي نبع من الأرض هو مغتسل بارد، وهو أيضاً شراب، نبعتْ من الأرض عين، فلما اغتسل منها برأ ظاهره، ولما شرب منها برأ باطنه، فهما عينان، عين اغتسل منها وعين شرب منها صلوات الله وسلامه عليه.

بعد أن شافاه الله - جلّ وعلا - قال: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [ص: 43] في معناها ثلاثة أقوال:

القول الأول: رد الله عليه ماله وولده الذين ماتوا، أحياهم الله له مرة ثانية، ثم كثرهم.

القول الثاني: رد لزوجته شبابها.

القول الثالث: آجره الله فيمن بقي من أهله، وجمع بينه وبينهم في الآخرة.

قال الله - جلّ وعلا -: {وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [ص: 43]، وقال في سورة الأنبياء: {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 84]، فالعابدون هم أولوا الألباب، أي: تذكرة لمن ابتلي فصبر، فإن له مثل ما لأيوب عليه السلام.

 

فصل - واحفظوا أيمانكم:

قال الله له بعد أن شفاه ورد عليه أهله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44]، ذُكر أن أيوب حلف ليضربنّ امرأته مائة سوط، لأنها باعت ضفائرها، أو أنها تأخرتْ عليه يوماً، فحلف ليضربنها، أو جاءها الشيطان، فقال لها: إن شفيتُ لك أيوب هل تقولين إني أنا شفيته؟ فقالت: أسأل أيوب، فسألته، فحلف ليضربنها، يعني كيف تقبلين مثل هذا الكلام، والشافي هو الله - جلّ وعلا -، وأياً كان فالله أعلم بالسبب الذي من أجله حلف أيوب صلوات الله وسلامه عليه.

وهذه كلها روايات بني إسرائيل، فلا تُصدَّق ولا تُكذَّب، ولكن الذي جاء في كتاب الله - جلّ وعلا - قوله سبحانه وتعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]، الضغث قيل: هي أعواد النخيل يعني الجريد أو السعف الجاف.

وقيل: الضغث هو الحشيش الذي يَبُس، جمع مائة عود، فضرب بها زوجته ضربة واحدة، بدل أن يضربها مائة سوط، حتى لا يحنث في يمينه، وهو كما قال الله - جلّ وعلا -: {وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2].

 

فصل - جراد من ذهب:

قال رسول الله ﷺ: "بينما يغتسل أيوب عرياناً خرّ عليه رِجْل من جراد من ذهب" أي: مجموعة من جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، ناداه ربه فقال: "يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى" يعني: في القناعة التي جعلتها في قلبك، قال: "بلى، ولكن لا غنى لي عن بركتك"(1).

أولاً: قصة أيوب هي قصة الإيمان الكامل، والصبر الجميل.

ثانياً: كفارة اليمين لم تُشرع لمن قبلنا، على الأقل لأيوب، فإن الإنسان إذا حلف يميناً، فإنه يُكفّر عنها إذا لم يستطع أن يوفيها أو كانت يمين على غير خير، ووجد غيرها خيراً منها، يقول النبي ﷺ: "ما حلفتُ على شيء ووجدت غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير"(2)، ولو كان هذا مشروعاً في زمنهم لكفر أيوب عن يمينه، ولكن لم يجد بُداً من تنفيذ ما حلف عليه، ولذلك ضرب زوجته بهذا الضغث.

ثالثاً: من لا يحتمل إقامة الحد عليه لضعفه، فإنه يُقام عليه مسمى ذلك، يعني أيوب لما رأى أن هذا الضرب لا تستحقه هذه المرأة جعل الله له مخرجاً بهذه الأعواد، فلو قُدِّر أن مريضاً لا نستطيع أن نقيم عليه الحد، برأي الطبيب أنه لن يبرأ، لا يُترك الحد، بل يقام عليه مسمى الحد، بأقل ما يكون، لأن المقصود من الحد هو التنكيل، العذاب النفسي، حتى يرى غيره، {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] وليس المقصود من الحد الإتلاف، ولذلك كان شارب الخمر إنما يُضرب بالسعف والنعال.

رابعاً: المرء يبتلى على قدر دينه.

خامساً: من يتق الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، فهذه المرأة لما اتقت الله - جلّ وعلا -، جعل الله لها مخرجاً، بأن جمع لها أيوب هذه الأعواد وضربها بها ضربة واحدة حتى لا يحنث في يمينه، وجعل الله لأيوب أيضاً مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب.

سادساً: الدعاء لا ينافي الصبر، لأن الله مدحه بالدعاء، ومدحه كذلك بالصبر.

سابعاً: ما بين غمضة عين والتفاتتها يغير الله من حال إلى حال، ذهب معها مريضاً، أبطأت عليه، ورجعت وإذا هو معافى ليس به بأس، {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، فكان كأن شيئاً لم يكن.

ثامناً: جواز الاستكثار من الحلال، لما قال أيوب: "لا غنى لي عن بركتك".

 

(1) أخرجه البخاري (279).

(2) أخرجه البخاري (3133)، ومسلم (1649) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.

مقالات ذات صلة :