• 6 تموز 2016
  • 1,681

من مشكاة النبوة - أوامر إلهية لأصحاب القلوب التقية

كتبه عادل عبد الكريم‏

عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال :

(يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب واحد منكم ما نقص من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني ، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه) ، رواه الإمام مسلم في صحيحه.

بين يديك - أخي الكريم - أحد الأحاديث القدسية العظيمة ، التي يرويها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة جل وعلا ، فتعال بنا نعيش مع هذا الحديث ، ونستظل بفيئه ، وننهل من عذبه الصافي . لقد بدأ الحديث بإرساء قواعد العدل في النفوس ، وتحريم الظلم والعدوان ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه : * يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا * ، وحقيقة الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، وهذا مناف لكمال الله تعالى وعدله ، فلذلك نزه الله تعالى نفسه عن الظلم فقال : * وما أنا بظلام للعبيد * * ق : 29 * ، وقال أيضا : * وما الله يريد ظلما للعباد * * غافر : 31 * .

ولئن كان الله تعالى قد حرم الظلم على نفسه ، فقد حرمه على عباده ، وحذرهم أن يقعوا فيه ؛ وما ذلك إلا لعواقبه الوخيمة على الأمم ، وآثاره المدمرة على المجتمعات ، وما ظهر الظلم بين قوم إلا كان سببا في هلاكهم ، وتعجيل العقوبة عليهم ، كما قال سبحانه في كتابه العزيز : * وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد * * هود : 102 * ، ومن ثم كانت دعوة المظلوم عظيمة الشأن عند الله ، فإن أبواب السماء تفتح لها ، ويرفعها الله فوق الغمام يوم القيامة ، بل إنه سبحانه وتعالى يقول لها * وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين * كما صح بذلك الحديث .

ثم انتقل الحديث إلى بيان مظاهر افتقار الخلق إلى ربهم وحاجتهم إليه ، وذلك في قوله : * يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم * ، فبين أن الخليقة كلها ليس بيدها من الأمر شيء ، ولا تملك لنفسها و لا لغيرها حولا ولا قوة ، سواء أكان ذلك في أمور معاشها أم معادها ، وقد خاطبنا القرآن بمثل رائع يجسد هذه الحقيقة ، حيث قال : * يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب * * الحج : 73 * أي : إذا أخذ الذباب شيئا من طعامهم ثم طار ، وحاولوا بكل عدتهم وعتادهم أن يخلصوا هذا الطعام منه ما استطاعوا أبدا ، فإذا كان الخلق بمثل هذا الضعف والافتقار ، لزمهم أن يعتمدوا على الله في أمور دنياهم وآخرتهم ، وأن يفتقروا إليه في أمر معاشهم ومعادهم .

وليس افتقار العباد إلى ربهم مقصورا على الطعام والكساء ونحوهما ، بل يشمل الافتقار إلى هداية الله جل وعلا ، ولهذا يدعو المسلم في كل ركعة بـ : * اهدنا الصراط المستقيم * * الفاتحة : 6 * . ثم بين الله تعالى بعد ذلك حقيقة ابن آدم المجبولة على الخطأ ، فقال : * يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا ، فاستغفروني أغفر لكم * ، إنه توضيح للضعف البشري ، والقصور الذي يعتري الإنسان بين الحين والآخر ، فيقارف الذنب تارة ، ويندم تارة أخرى ، وهذه الحقيقة قد أشير إليها في أحاديث أخرى ، منها : ما رواه الإمامابن ماجة بسند حسن ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : * كل بني آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون * ، فإذا كان الأمر كذلك فإن على الإنسان المسلم أن يتعهد نفسه بالتوبة ، فيقلع عن ذنبه ، ويستغفر من معصيته ، ويندم على ما فرط في جنب الله ، ثم يوظف هذا الندم الذي يصيبه بأن يعزم على عدم تكرار هذا الذنب ، فإذا قدر عليه الوقوع في الذنب مرة أخرى ، جدد التوبة والعهد ولم ييأس ، ثقة منه بأن له ربا يغفر الذنب ويقبل التوبة من عباده المخطئين .

ثم بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - شيئا من مظاهر الكمال الذي يتصف به الله جل وعلا ، مبتدئا بالإشارة إلى استغناء الله عن خلقه وعدم احتياجه لهم ، كما قال تعالى : * يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد * * فاطر : 15 * ، فالله تعالى غني حميد ، لا تنفعه طاعة عباده ، ولا تضره معصيتهم ، بل لو آمن من في الأرض جميعا ، وبلغوا أعلى مراتب الإيمان والتقوى ، لم يزد ذلك في ملك الله شيئا ، ولو كفروا جميعا ، ما نقص من ملكه شيئا ، لأن الله سبحانه وتعالى مستغن بذاته عن خلقه ، وإنما يعود أثر الطاعة أو المعصية على العبد نفسه ، وقد جاء في القرآن الكريم ما يؤكد هذه الحقيقة ويوضحها ، قال الله عزوجل : * قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها * * الأنعام : 104 * ، فمن عرف حجج الله وآمن بها واتبعها ، فقد بلغ الخير لنفسه ، ومن تعامى عن معرفة الحق ، وآثر عليها ظلمات الغواية ، فعلى نفسه جنى ، وأوردها الردى .

وبالرغم من ذلك فإن نعم الله سبحانه مبثوثة للطائع والعاصي على السواء ، دون أن يجعل تلك المعاصي مانعا لهذا العطاء ، وهذا من كرم الله تعالى وجوده ، وهي أيضا مظهر من مظاهر سعة ملك الله تعالى ، فإن الله لو أعطى جميع الخلق ما يرغبون ، لم ينقص ذلك من ملكه شيئا يذكر.

ولما كانت الحكمة من الخلق هي الابتلاء والتكليف ، بين سبحانه أن العباد محاسبون على أعمالهم ، ومسؤولون عن تصرفاتهم ، فقد جعل الله لهم الدنيا دارا يزرعون فيها ، وجعل لهم الآخرة دارا يجنون فيها ما زرعوه ، فإذا رأى العبد في صحيفته ما يسره ، فليعلم أن هذا محض فضل الله ومنته ، إذ لولا الله تعالى لما قام هذا العبد بما قام به من عمل صالح ، وإن كانت الأخرى ، فعلى نفسها جنت براقش ، ولا يلومن العبد إلا نفسه.

وصلى الله على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

مقالات ذات صلة :