وجميع هذه الأسماء وردت في القرآن، وأكثرها وروداً "القدير"، ثم "القادر"، ثم "المقتدر"، قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284]، وقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44]، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65]، وقال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا} [الكهف: 45].
وجميعها تدل على ثبوت القدرة صفة لله، وأنه سبحانه كامل القدرة، فبقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبرها، وبقدرته سواها وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، الذي إذا أراد شيئاً قال له: كن؛ فيكون، وبقدرته يقلب القلوب ويصرِّفها على ما يشاء ويريد، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويجعل المؤمن مؤمنا، والكافر كافرا، والبرَّ بَرّاً، والفاجر فاجراً.
ولكمال قدرته لا يحيط أحدٌ بشيء من علمه إلا بما يشاء أن يُعلِّمه إياه، ولكمال قدرته خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب، ولا يعجزه أحدٌ من خلقه ولا يفوته، بل هو في قبضته أين كان، الذي سلمت قدرته من اللُّغوب والتعب والإعياء والعجز عما يريد، ولكمال قدرته كلُّ شيء طوع أمره وتحت تدبيره، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
ومن أصول الإيمان العظيمة الإيمان بالقدر، قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [ق: 49]، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} [الأحزاب: 38]، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].
روى مسلم في "صحيحه"(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله ﷺ في القدر، فنزلت: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴿٤٧﴾ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ﴿٤٨﴾ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [ق: 47-49]".
ومَن لا يؤمن بالقدر لا يؤمن بالله عزَّ وجل، قال الإمام أحمد رحمه الله: "القدر قدرة الله"(1)، فإنكار القدر إنكار لقدرة الله عز وجل، وجحد صفاته سبحانه أو شيء منها يتنافى مع الإيمان به سبحانه؛ إذ من أصول الإيمان به الإيمان بأقداره.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "القَدر نظام التوحيد، فمن وحَّد الله عزّ وجلّ وآمن بالقدر فهي العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن وحّد الله تعالى وكذّب القدر نقض التوحيد"(2).
وقال عوفٌ سمعت الحسن يقول: "مَن كذَّب بالقدر فقدر كذَّب بالإسلام، إن الله تبارك وتعالى قدَّر أقداراً، وخَلق الخلْق بقدر، وقسم الآجال بقدر، وقسم الأرزاق بقدر، وقسم البلاء بقدر، وقسم العافية بقدر"(3).
والإيمان بالقدر من أجلّ أوصاف أهل العلم به، روى ابن جرير في "تفسيره"(4)، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، قال: الذين يقولون: "إن الله على كل شيء قدير".
قال ابن القيِّم رحمه الله: "وهذا من فقه ابن عباس رضي الله عنهما وعلمه بالتأويل، ومعرفته بحقائق الأسماء والصّفات، فإنَّ أكثر أهل الكلام لا يوفون هذه الجملة حقَّها، وإن كانوا يقرُّون بها، فمنكرو القدر وخلق أفعال العباد لا يقرون بها على وجهها، ومنكرو أفعال الرب تعالى القائمة به لا يقرون بها على وجهها، بل يصرِّحون أنه لا يقدر على فعل ما يقوم به، ومن لا يقر بأن الله سبحانه كل يوم هو في شأن، يفعل ما يشاء؛ لا يقر بأن الله على كل شيء قدير، ومن لا يقرُّ بأنَّ قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وأنه سبحانه مقلب القلوب حقيقة، وأنه إن شاء أن يقيم القلب أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه؛ لا يقر بأن الله على كل شيء قدير ... إلى غير ذلك من شؤونه، وأفعاله التي من لم يقر بأن الله على كل شيء قدير، فيا لها كلمة من حبر الأمة، وترجمان القرآن رضي الله عنه" اهـ .
هذا؛ وإن للإيمان بقدرة الله عز وجل التي دل عليها أسماؤه "القدير، القادر، المقتدر" آثارا عظيمة، وثمارا مباركة، تعود على العبد في دنياه وأخراه، كيف لا والإيمان به قطب رحا التوحيد ونظامه، ومبدأ الإيمان وتمامه، وأصل الدّين وقوامه، فهو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان.
فمن ثماره المباركة أنه يقوي في العبد الاستعانة بالله وحسن التّوكل عليه، وتمام الالتجاء إليه، روى الترمذي في "جامعه"(2) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كنت خلف النبي يوما فقال لي: يا غلام؛ إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف".
ومن آثاره تكميل الصّبر وتتميمه وحسن الرّضا عن الله، قال ابن القيم رحمه الله: "من ملأ قلبه من الرضا بالقدر ملأ الله صدره غنى وأمنا وقناعة، وفرّغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، ومن فاته حظه من الرضا امتلأ قلبه بضد ذلك، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه "(3).
ومن آثاره سلامة الإنسان من أمراض القلوب، كالحقد والحسد ونحوهما؛ لإيمانه أن الأمور كلها بتقدير الله عز وجل، وأنه سبحانه هو الذي أعطى العباد وقدر لهم أرزاقهم، فأعطى من شاء، ومنع من شاء، فالفضل فضله سبحانه والعطاء عطاؤه، ولهذا يقال عن الحاسد: إنه عدو نعمة الله على عباده.
ومن آثاره تقوية عزيمة العبد وإرادته في الحرص على الخير وطلبه، والبعد عن الشر والهرب منه، وفي "صحيح مسلم"(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال: "احْرِص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزْ، وإن أصابك شيءٌ فلا تقلْ: لو أنّي فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قُلْ: قَدَرُ الله وما شاء فعل؛ فإنّ لو تفتح عمل الشّيطان".
ومن آثاره حسن رجاء الله ودوام سؤاله، والإكثار من دعائه؛ لأن الأمور كلَّها بيده، روى الإمام أحمد في كتاب "الزهد"(2) عن مطرِّف بن عبد الله ابن الشّخِّير قال: "تذكرت ما جماع الخير؛ فإذا الخير كثير: الصوم، والصلاة، وإذا هو في يد الله عز وجل، وإذا أنت لا تقدر على ما في يد الله عز وجل إلا أن تسأله فيعطيك، فإذا جماع الخير الدعاء".
وكان من أكثر دعاء نبيِّنا ﷺ: "اللهمّ يا مقلب القلوب ثبِّتْ قلبي على دينك".
روى الترمذي وابن ماجه، عن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسولُ الله ﷺ يكثر أن يقول: "يا مقلِّب القلوب ثبِّتْ قلبي على دينِك، فقلت: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: نعم؛ إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلِّبُها كيف يشاء"(3).
****
(1) (رقم: 2656).
(2) رواه الفريابي في "القدر" (رقم: 205) - واللفظ له -، وابن بطة في "الإبانة" (رقم: 1624)، واللالكائي في
(3) رواه ابن بطة في "الإبانة" (رقم: 1676)، واللالكائي في "أصول الاعتقاد" (رقم: 1255).
(4) (19/ 3649).
(1) "شفاء العليل" (1/ 130-131).
(2) (رقم: 2516) وقال: حسن صحيح.
(3) "مدارج السالكين" (2/ 202).
(1) (رقم: 2664).
(2) (رقم: 1346).
(3) "جامع الترمذي" (رقم: 2140) - واللفظ له -، وسنن ابن ماجه (رقم: 3834). وصحّحه الألباني في "صحيح الجامع " .