(ارمِ سَعدُ ارم . . . فِداكَ أبي و أمّي) {سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرّض سعداً يوم أحد}
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم . بسم الله الرحمن الرحيم .
( ووصّينا الإنسان بوالديه حملته أمُّهُ وهناٌ(1) على وهنٍ , وفصاله(2) في عامين أنِ اشكر لي و لوالديكَ إليَّ المصير * وإن جاهداك(3) على أن تشرك بي ما ليس لك به علمٌ فلا تطعهما , وصاحبهما في الدُّنيا معروفا , واتَّبِع سبيلَ من أنابَ(4) إليَّ , ثمَّ إليَّ مرجعكم فأُنبِّئُكُم بما كنتم تعملون(5) ) .
لهذه الآيات قصّة فذّة(6) رائعة , اصطرعت فيها طائفةٌ من العواطف المتناقضة , في نفس فتى طريِّ العود ؛ فكان النّصر للخير , وللإيمان على الكفر .
أمّا بطل هذه القصّة ففتى من أكرم فتيان مكّة نسباً و أعزِّهم أمّا و أبا .
ذلك الفتى هو سعدُ بن أبي وقَّاص رضي الله عنه و أرضاه .
كان سعد حين أشرق نور النبوّة في مكّة شابّا ريّان الشّباب(7) غصَّ الإهاب(8) رقيق العاطفة كثير البِرِّ بوالديه شديد الحبّ لأمّه خاصَّة .
و على الرُّغم من أنَّ سعدا كان يومئذٍ يستقبل ربيعه السابع عشر فقد كان يضم بين برديه(9) كثيرا من رجاحة(10) الكهول و حكمة الشّيوخ .
فلم يكن – مثلا – يرتاح لما يتعلق به لِداتُه(11) من ألوان اللهو , وإنّما كان يصرف همّه إلى بَري(12) السهام و إصلاح القِسِيِّ(13) , والتمرُّس بالرِّماية حتى لكأنّه كان يُعِدُّ نفسه لِأمر كبير .
ولم يكن – أيضا – يطمئنّ إلى ما وجد عليه قومه من فساد العقيدة و سوء الحال , حتّى لكأنّه ينتظر أن تمتدّ إليهم يد قويّة حازمة حانية , لتنتشلهم ممّا يتخبّطون فيه من ظلمات .
وفيما هو كذلك شاء الله جلّ وعزّ أن يكرم الإنسانية كلَّها بهذه اليد الحانية البانية .
فإذا هي يد سيّد الخلق محمّد بن عبد الله ...
وفي قبضتها الكوكب الإلهيُّ الذي لا يخبو : كتاب الله ...
فما أسرع أن استجاب سعد بن أبي وقَّاص لدعوة الهدى و الحق ؛ حتّى كان ثالث ثلاثة أسلموا من الرّجال أو رابع أربعة .
ولذا كثيرا ما كان يقول مفتخرا :
لقد مكثت سبعة أيامٍ و إنّي لثُلُثُ الإسلام .
كانت فرحة الرسول صلوات الله عليه بإسلام سعد كبيرة ؛ ففي سعدٍ مَخايِلِ(14) النَّجابة , وبواكير الرُّجولة(15) ما يبشّر بأنّ هذا الهلال سيكون بدرا كاملا في يوم قريب .
ولسعد من كرم النّسب , وعزّة الحسب ما قد يغري(16) فتيان مكّة بأن يسلكوا سبيله وينسحبوا على منواله(17) .
ثم إن سعداً فوق ذلك كلّه من أخوال النبيّ عليه الصلاة و السلام ؛ فهو من بني زُهْرَةَ , وبنو زُهْرَة أهل آمِنَةَ بنت وهب , أمّ النبيّ صلّى الله عليه و سلّم .
وقد كان رسول الله صلوات الله عليه يعتزُّ بهذه الخُؤولة .
فقد رُوِيَ أنّ النبيّ الكريم كان جالسا مع نفر من أصحابه فرأى سعد بن أبي وقّاص مقبلا فقال لمن معه : (هذا خالي فلْيُرِني امرؤٌ خاله ) .
***
لكنّ إسلام سعد بن أبي وقّاص لم يمرُّ سهلا هيِّنا , وإنما عرَّض الفتى المؤمن لتجربة من أقسى التجارب قسوة و أعنفها عنفاً , حتَّى بلغ من قسوتها وعنفها أن أنزل الله سبحانه في شأنها قرآنا . فلنترك لسعد الكلام ليقصَّ علينا هذه التّجربة الفذّة .
قال سعد : رأيت في المنام قبل أن أُسلم بثلاث ليال كأنّي غارق في ظلمات بعضها فوق بعض , وبينما كنت أتخبّط في لُجَجِها(18) إذ أضاء لي قمرٌ فاتّبعته فرأيت نفراً أمامي قد سبقوني إلى ذلك القمر : رأيت زيد بن حارثة , و عليَّ بن أبي طالب , و أبا بكر الصدّيق , فقلت لهم : منذ متى أنتم هنا ؟! فقالوا السّاعة .
ثمّ إنّي لمّا طلع عليَّ النهار بلغني أنّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يدعو إلى الإسلام مَسْتَخْفِياً , فعلمت أنّ الله أراد بي خيرا , وشاء أن يخرجني بسببه من الظلمات إلى النور .
فمضيت إليه مسرعا , حتّى لقيته في شِعْبِ جياد(19) , وقد صلّى العصر , فأسلمت , فما تقدّمني أحد سوى هؤلاء النّفر الذين رأيتهم في الحلم .
ثم تابع سعد رواية قصّة إسلامه فقال : وما إن سَمِعَت أمّي بخبر إسلامي حتّى ثارت ثائرتها(20) وكنت فتى برّا بها محبا لها , فأقبلت عليَّ تقول : يا سعد ما هذا الدين الذي اعتنقته فَصَرَفَكَ عن دين أمّك و أبيك ... والله لَتَدَعَنَّ دينك الجديد أو لا آكل و لا أشرب حتّى أموت ... فيتفطّر(21) فؤادك حزنا عليَّ , ويأكلك النّدم على فعلتك التي فعلت , و تعيّرك الناس بها أَبَدَ الدَّهرِ .
فقلت , لا تفعلي يا أمّاه , فأنا لا أدع ديني لأيِّ شيء .
لكنّها مضت في وعيدها , فاجتنبت الطّعام و الشّراب ومكثت أياما على ذلك لا تأكل ولا تشرب فهزل جسمها ووهن عظمها وخارت قواها .
فجعلت آتيها ساعةً بعد ساعة أسألُها أن تتبلّغ(22) بشيء من طعام أو قليل من شراب فتأبى ذلك أشدَّ الإباء وتقسم ألَّا تأكل أو تشرب حتى تموت أو أدع ديني .
عند ذلك قلت لها : يا أمَّاه إني على شديد حبي لك لأشدُّ حباً لله و رسوله . . . و والله لو كان لك ألف نفسٍ فخرجت منك نفساً بعد نفس ما تركت ديني هذا الشيء .
فلما رأت الجد مني أذعنت للأمر و أكلت و شربت على كره منها ، فأنزل الله فينا قوله عزَّ و جلّ :
"و إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمها و صاحبهما في الدنيا معروفاً "
لقد كان يوم إسلام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من أكثر الأيام براً بالمسلمين و أجزلها خيراً على الإسلام .
ففي يوم بدر كان لسعد و أخيه عمير موقف مشهود ، فقد كان عمير يومئذ فتى حدثاً لم يجاوز الحلم إلا قليلاً فلما أخذ الرسول عليه السلام بعرض جند المسلمين قبل المعركة توارى عمير أخو سعد خوفاً من أن يراه الرسول فيرده لصغر سنه لكن الرسول عليه السلام أبصره و رده فجعل عمير يبكي حتى رقَّ له قلب النبي و أجازه .
عند ذلك أقبل عليه سعد فرحاً ، و عقد عليه حمالة(23) سيفه عقداً لصغره و انطلق الإخوان يجاهدان في سبيل الله حق الجهاد
فلما انتهت المعركة عاد سعد إلى المدينة وحده ، أما عمير فقد خلَّفه شهيداً على أرض بدر و احتسبه (24) عند الله .
و في أحد حين زلزلت الأقدام (25) و تفرق المسلمون عن النبي عليه الصلاة و السلام حتى لم يبق إلا نفر قليل لا يتمُّون العشرة وقف سعد بن أبي وقاص يناضل عن رسول الله صلوات الله عليه بقوس ، فكان لا يرمي رمية إلا أصابت من مشرك مقتلاً .
ولما رآه الرسول عليه السلام يرمي هذا الرمي جعل يحضّه (26) و يقول له : (ارم سعد . . . ارم فداك أبي و أمي) ، فظلَّ سعد يفتخر بها طوال حياته و يقول : ما جمع الرسول لأحدٍ أبويه إلا لي و ذلك حين فداه بأبيه و أمه معاً .
ولكن سعد بلغ ذروة مجده حين عزم الفاروق على أن يخوض مع الفرس حرباً تديل(27) دولتهم و تثلّ(28) عرشهم ، و تجتث(29) جذور الوثنية من على ظهر الأرض فأرسل كتبه إلى عماله في الآفاق أن أرسلوا إلى كل من كان له سلاح أو فرس أو نجدة أو رأي أو مزية من شعر أو خطابة أو غيرها مما يجدي على المعركة .
فجعلت وفود المجاهدين تتدفق على المدينة من كل صوب(30) فلما تكاملت أخذ الفاروق يستشير أصحاب الحل و العقد(31) في من يوليه على الجيش الكبير و يسلم إليه قياده ، فقالو بلسان واحدٍ : الأسد عادياً سعد بن أبي وقاص ، فاستدعاه عمر رضوان الله عليهما ، و عقد له لواء الجيش (32) .
و لما همَّ الجيش الكبير بأن يفصل(33) عن المدينة وقف عمر بن الخطاب يودعه و يوصي قائده فقال :
يا سعد ، لا يغرنَّك من الله أن قيل : خال رسول الله ، و صاحب رسول الله ، فإنّ الله عز و جل لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكنه يمحوا السيئة بالحسنة .
يا سعد : إن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا الطاعة ، فالناس شريفهم و وضيعهم في ذات(34) الله سواء ، الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالتقوى و يدركون ما عند الله بالطاعة فانظر الأمر الذي رأيت النبي عليه فالتزمه فأنهِ الأمر (35) .
ومضى الجيش المبارك و فيه تسع و تسعون بدرياً (36) و ثلاثمائة وبضعة عشرى ممن كانت لهم صحبة فيما بين بيعة الرضوان فما فوق ذلك وثلاثمائة ممن شهدوا فتح مكة مع رسول الله وسبعمائة من أبناء الصحابة .
مضى سعد و عسكر بجيشه في القادسية(37) . ولما كان يوم الهرير(38) عزم المسلمون على أن يجعلوها القاضية(39) فأحاطوا بعدوهم إحاطة القيد بالمعصم ، و نفذوا إلى صفوفه من كل صوب مهللين(40) مكبرين ، فإذا رأس رستم قائد جيش الفرس مرفوع على رماح المسلمين و أذا بالرعب والهلع يدبان في قلوب أعداء الله حتى كان المسلم يشير إلى الفارسي فيأتيه فيقتله ، و ربما قتله بسلاحه .
أمَّا الغنائم فحدّث عنها ولا حرج ، و أمَّا القتلى فيكفيك أن تعلم أن الذين قضوا غرقاً فحسب قد بلغوا ثلاثين ألفاً
عمَّر سعد طويلاً و أفاء الله عليه من المال الشيء الكثير ، لكنه حين أدركته الوفاة دعا بجبّة من صوف بالية و قال :
كفنوني بها فإني لقيت بها المشركين يوم بدر . . . و إني أريد أن ألقى بها الله عز و جل أيضاً(*)
(*) للاستزادة من أخبار سعد بن أبي وقاص انظر :
1- الاستيعاب : 2
2- الإصابة : 2 ، 30
3- الملل والنحل : 1 ، 20
4- أشهر مشاهير الإسلام : 3 ، 525
5- الطبقات الكبرى : 1 ، 21
6- تحفة الأحوذي : 10 ، 253
7- سير أعلام النبلاء : 1 ، 62
8- زعماء الإسلام : 114
9- رجال حول الرسول :141
10- سعد بن أبي وقاص و أبطال القادسية للسحار
11- الرياضة النضرة : 2 ، 292
12- صفة الصفوة : 1 ، 138
13- تهذيب ابن عساكر : 6 ، 93
14- المعارف : 106
15- النجوم الزاهرة (انظر الفهارس)
16- أسد الغابة : 2 ، 290
17- جمهرة أنساب العرب : 71
18- تاريخ الإسلام : 1 ، 79
19- فتوح مصر و أخبارها : 318
20- البداية و النهاية : 8 ، 72
سَعدُ بن أبي وقّاص
(1) وهْناً : ضعفا ومشقَّة .
(2) فصاله : فطامه عن الرِّضاع .
(3) جاهداك : دفعاك بالقوّة .
(4) أناب إلي : رجع إلي بالإخلاص و الطاعة .
(5) سورة لقمان الآية 14 .
(6) فذِّة : فريدة نادرة .
(7) ريّان الشباب : طريّ الشباب مونقه .
(8) غضّ الإهاب : غض الجلد : كناية عن أنّه في مقتبل العمر و رونفه .
(9) برديه : ثوبيه .
(10)رجاحة الكهول : عقل الكهول ورصانتهم
(11)لداته : المماثلون له في السن .
(12)بري السّهام : إعدادها و إصلاحها .
(13)القِسِيُّ : الأقواس التي يُرْمى بها .
(14) مخايل : علامات .
(15) بواكير الرجولة : تباشيرها و أوائلها .
(16) يغري : يرغّب و يحضَ .
(17) ينسجوا على منواله : يسلكوا طريقته فيسلموا كما أسلم .
(18) اللجج : جمع لجّة وهي معظم الماء وأعمقه
(19)شعب جياد : أحد شعاب مكّة المكرّمة .
(20)ثارت ثائرتها : اشتعلت نار غضبها .
(21) يتفطّر : يتشقَّق .
(22) تتبلغ: تتناول القليل الذي يحفظ حياتها.
(23) حمالة السيف : ما يعلق به على عاتق صاحبه
(24) احتسبه عند الله : طلب من الله أجره على فقده
(25) زلزلت الأقدام : دب الضعف و الخوف في النفوس
(26) يحضه : يحثه
(27)تديل دولتهم : تطيح بدولتهم و تذهب بها
(28) تثل عرشهم : تهدم ملكهم
(29) تجتث جذور الوثنية : تقتلعها من أصولها
(30) من كل صوب : من كل جهة
(31) أصحاب الحل و العقد : أهل الشورى و ذوو الرأي و المكان
(32) عقد له لواء الجيش : ولاَّه عليه
(33) يفصل : يخرج
(34) في ذات الله : عند الله
(35) فأنه الأمر : أي فأنهِ الأمر الذي يجب إنقاذه .
(36) بدرياً : البدري من شهد معركة بدر
(37) القادسية : موضع يبعد عن الكوفة خمسة عشر فرسخاً ، وقعت فيها المعركة الفاصلة بين المسلمين و الفرس سنة ست عشرة للهجوم و انتصر فيها المسلمون نصراً كبيراً لم تقم بعدها للفرس قائمة .
(38) يوم الهرير : اليوم الأخير من أيام القادسية و مسي كذلك لأنه لم يكن يسمع للجند أصوات ألا الهرير من شديد القتال
(39) القاضية : المهلكة المدمرة
(40) مهللين : صائحين لا إله إلا الله