• 14 تشرين الثاني 2017
  • 8,066

سلسلة من نحب – صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم – (49) سيدتنا صفيَّة بنتُ عبد المطَّلب رضي الله عنها :

((صفيَّة أول امرأة مسلمةٍ قتلت مشركاً دفاعاً عن دين الله))

من هذه السيِّدة الجزلة الرَّزان(1) التي كان يَحسُبُ لها الرجال ألف حساب؟.

من هذه الصحابية الباسلة التي كانت أول امرأة قتلت مشركاً في الإسلام؟.

من هذه المرأة الحازمة التي أنشأت للمسلمين أوَّل فارس سلَّ سيفاً في سبيل الله؟.

إنها صفيَّة بنت عبد المطلب الهاشميَّة القرشيَّة عمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اكتَنفَ المجد صفيَّة بنت عبد المطلب من كل جانب:

فأبوها عبد المطلب بن هاشم جدُّ النبي وزعيم قريشٍ وسيِّدها المطاع. وأمُّها هالة بنت وهب أخت بنت وهب والدة الرسول.

وزوجها الأول، الحارث بن حرب أخو أبي سفيان بن حرب زعيم بني أمية، وقد توفيَّ عنها.

وزوجها الثاني، العوَّام بن خويلدٍ أخو خديجة بنت خويلدٍ سيدة نساء العرب في الجاهلية، وأولى أمهات المؤمنين في الإسلام.

وابنها، الزبير بن العوَّام حواريُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أفبعدَ هذا الشرف شرفٌ تطمح إليه النفوس غير شرفِ الإيمان؟!.

لقد توفِّي عنها زوجها العوَّام بن خويلدٍ وترك لها طفلاً صغيراً هو ابنها ((الزبير)) فنشأته على الخشونة والبأس، وربَّته على الفروسية والحرب، وجعلت لعبه في بَري السهام وإصلاح القِسِيِّ.

ودأبت على أن تقذفه في كلِّ مخوفَةٍ، وتقحمه في كل خطرٍ، فإذا رأته أحجَمَ أو تردَّد ضربته ضرباً مبرِّحاً، حتى إنَّها عوتبت في ذلك من قبل أحد أعمامه حيث قال لها: ما هكذا يُضرب الولد... إنك تضربينه ضرب مُبغضةٍ لا ضرب أمٍّ فارتجزت قائلة:

من قال قد أبغضتُه فقد كذبْ

وإنما أضربه لكي يَلِبْ(2)

ويهزم الجيش ويأتي بالسَّلّبْ

ولما بعث الله نبيَّه بدين الهدى والحقِّ، وأرسله نذيراً وبشيراً للناس، وأمره بأن يبدأ بذوي قرباه جمع بني عبد المطّلب: نساءهم ورجالهم وكبارهم وصغارهم، وخاطبهم قائلاً:

(يا فاطمةُ بنتُ محمد يا صفيَّة بنت عبد المطّلب، يا بني عبد المطلب إنِّي لا أملك لكم من الله شيئاً).

ثم دعاهم إلى الإيمان بالله، وحضَّهم على التصديق برسالته...

فأقبل على النور الإلهي منهم من أقبل، وأعرض عن سناه(3) من أعرض؛ فكانت صفيَّة بنت عبد المطّلب  في الرعيل(4) الأول من المؤمنين المصدقين.. عند ذلك جمعت صفيَّة المجد من أطرافه: سؤدَدَ الحَسب، وعزَّ الإسلام.

انضمت صفيَّة بنت عبد المطّلب إلى موكب النور هي وفتاها الزبير بن العوَّام، وعانت ما عاناه المسلمون السابقون من بأس قريش وعَنَتِها وطغيانها. فلما أذن الله لنبيِّه والمؤمنين معه بالهجرة إلى المدينة خلَّفت السيدة الهاشميَّة وراءها مكة بكلِّ ما فيها من طيوب الذكريات، وضروب المفاخر والمآثر، ويمَّمت وجهها شطر المدينة، مهاجرةً بدينها إلى الله ورسوله.

وعلى الرَّغم من أنَّ السيدة العظيمة كانت يومئذٍ تخطو نحو الستين من عمرها المديد الحافل، فقد كان لها في ميادين الجهاد مواقف ما يزال يذكرها التاريخ بلسانٍ نديٍّ بالإعجاب رطيبٍ بالثناء، وحسبُنا من هذه المواقف مشهدان اثنان: كان أولهما يوم أُحُدٍ وثانيهما يوم الخندق.

أمَّا ما كان منها في أحد فهو أنَّها خرجت مع جند المسلمين في ثلَّةٍ(5) من النساء جهاداً في سبيل الله.

فجعلت تنقل الماء، وتروي العطاش، وتبري السهام، وتصلح القِسِيَّ(6).

وكان لها مع ذلك غرضٌ آخر هو أن ترقب المعركة بمشاعرها كلِّها...

ولا غَرْوَ(7) فقد كان في ساحتها ابن أخيها محمد رسول الله...

وأخوها حمزة بن عبد المطّلب أسد الله...

وابنها الزبير بن العوَّام حواريُّ(8) نبيِّ الله...

وفي المعركة – قبل ذلك كلِّه وفوق ذلك كلِّه – مصير الإسلام الذي اعتنقته راغبةً ... وهاجرت في سبيله مُحتسبةً...

وأبصرت من خلاله طريق الجنَّة.

ولما رأت المسلمين ينكشفون(9) عن رسول الله إلا قليلاً منهم ...

ووجدت المشركين يوشكون أن يصلوا إلى النبيِّ ويقضوا عليه؛ طرحت سِقاءها أرضاً...

وهبَّت كاللبؤة(10) التي هُوجم أشبالها وانتزعت من يد أحد المنهزمين رمحه، ومضت تشقُّ به الصفوف، وتضرب بسنانه الوجوه، وتزأر في المسلمين قائلة:

ويحكم، أَنْهَزَمتم عن رسول الله؟!!

فلما رآها النبيُّ عليه الصلاة والسلام مقبلةً خشي عليها أن ترى أخاها حمزةَ وهو صريعٌ، وقد مَثِّل به المشركون أبشع تمثيل(11) فأشار إلى ابنها الزبير قائلاً:

(المرأة يا زبير... المرأة يا زبير...)

فأقبل عليها الزبير وقال:

يا أمَّه إليك... إليك يا أمَّه(12).

فقالت: تنحَّ لا أمَّ لك.

فقال: إن رسول الله يأمرك أن ترجعي...

فقالت: ولم؟! إنَّه قد بلغني أنَّه مُثِّل بأخي، وذلك في الله..

فقال له الرسول: (خلِّ سبيلها يا زبير)؛ فخلَّى سبيلها.

لما وضعت المعركة أوزارها وقفت صفيَّة على أخيها حمزة فوجدته قد بُقر(13) بطنه، وأُخرجت كبده،

وجُدع أنفه(14) ، وصُلمت(15) أذناه، وشوه وجهه، فاستقرت له وجعلت تقول:

إن ذلك في الله ...

لقد رضيت بقضاء الله.

والله لأصبرنَّ، ولأحتسبنَّ(16) إن شاء الله.

ذلك موقف صفيَّة بنت عبد المطلب يوم أحد...

أما موقفها يوم الخندق فله قصة مثيرة سداها(17) الدَّهاء والذكاء ولُحْمَتُها البسالة والحزم...

فإليك(18) خبرها كما وعته كتب التاريخ.

لقد كان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عزم على غزوةٍ من الغزوات أن يضع النساء والذَّراري في الحصون خَشية أن يغدر بالمدينة غادرٌ في غيبة حماتها.

فلما كان يوم الخندق جعل نساءه وعمَّته وطائفةً من نساء المسلمين في حصنٍ لحسَّان بن ثابت ورثه عن أباه، وكان من أمنع حصون المدينة مناعةً وأبعدها منالاً.

وبينما كان المسلمون يرابطون على حوافِّ(19) الخندق في مواجهة قريشٍ وأحلافها، وقد شغلوا عن النساء والذَّراري بمنازلة العدوِّ.

أبصرت صفيَّة بنت عبد المطّلب شبحاً يتحرك في عتمة الفجر، فأرهفت له السمع، وأحدَّت إليه البصر، فإذا هو يهوديٌّ أقبل على الحصن، وجعل يطيف به متحسِّساً أخباره متجسِّساً على من فيه.

فأدركت أنَّه عينٌ(20) لبني قومه جاء ليعلم أفي الحصن رجالٌ يدافعون عمَّن فيه أم إنَّه لا يضمُّ بين جدرانه غير النساء والأطفال.

فقالت في نفسها: إن يهود بني قريظة قد نقضوا ما بينهم وبين رسول الله من عهد وظاهروا(21) قريشاً وأحلافها على المسلمين.

وليس بيننا وبينهم أحدٌ من المسلمين يدافع عنا، ورسول الله ومن معه مرابطون في نحور العدوِّ.

فإن استطلع عدوُّ الله أن ينقل إلى قومه حقيقة أمرنا سبى اليهود النساء، واسترقوا الذراري، وكانت الطامَّة(22) على المسلمين.

عند ذلك بادرت إلى خمارها فلفَّته على رأسها، وعمدت إلى ثيابها فشدَّتها على وسطها، وأخذت عموداَ على عاتقها(23)، ونزلت إلى باب الحصن فشقَّته في أناة وحذق، وجعلت ترقب من خلاله عدو الله في يقظةٍ وحذرٍ، حتى إذا أيقنت أنه غدا في موقفٍ يمكِّنها منه حملت عليه حملةً حازمةً صارمةً، وضربته بالعمود على رأسه فطرحته أرضاً ... ثم عزَّزت الضربة الأولى بثانيةٍ وثالثةٍ حتى أجهزت عليه، وأخمدت أنفاسه بين جنبيه.

ثم بادرت إليه فاحتزَّت رأسه بسكين كان معها، وقذفت بالرأس من أعلى الحصن، فطفق يتدحرج على سفوحه حتى استقر بين أيدي اليهود الذين كانوا يتربَّصون(24) في أسفله.

فلما رأى اليهود رأس صاحبهم؛ قال بعضهم لبعض:

قد علمنا أنَّ محمداً لم يكن ليترك النساء والأطفال من غير حماةٍ...

ثم عادوا أدراجهم...

رضي الله عن صفيَّة بنت عبد المطلب.

فقد كانت مثلاً فذَّاً للمرأة المسلمة.

ربَّت وحيدها فأحكمت تربيته.

وأصيبت بشقيقها فأحسنت الصبر عليه.

واختبرتها الشدائد فوجدت فيها المرأة الحازمة العاقلة الباسلة...

ثم إنَّ التاريخ كتب في أنصع صفحاته: إن صفيَّة بنت عبد المطلب كانت أول امرأة قتلت مشركاً في الإسلام(*) .

 

 

(*) للاستزادة من أخبار صفية بنت عبد المطلب انظر:

1- أسد الغابة: 7/174

2- الطبقات الكبرى: 8/41

3- سير أعلام النبي: 2/193

4- الإصابة: /348

5- الاستيعاب: 4/345

6- سمط اللآلئ 8: 1/18

7- حياة الصحابة: 1/154 وانظر الفهارس

8- السيرة النبوية لابن هاشم: انظر الفهارس

9- ذيل تاريخ الطبري: انظر الفهارس

10- الكامل في التاريخ: انظر الفهارس

11- أعلام النساء لكحالة: 2/341 – 346

12- فتوح البلدان للبلاذري

13- الأغاني لأبي الفرج: انظر الفهارس

14- المستطرف للأبشيهي: انظر الفهرس

15- المعارف لابن قتيبة: انظر الفهرس

صفيَّة بنتُ عبد المطَّلب

 

(1) الجزلة: الأصيلة الرأي، والرزان: الرصينة الرزينة.

(2) يلب: يصبح لبيباً، اللبيب الذكي العاقل.

(3) سناه: ضياؤه.

(4) الرعيل الأول: الفوج الأول.

(5) ثلة: طائفة.

(6) القسي: جمع قوس وهو آلة من آلات الحرب يرمى بها السهام.

(7) لا غرو: لا عجب.

(8) الحواري: الناصر، وحواري الرسل الخاصة من أنصارهم.

(9) ينكشفون: يتفرقون.

(10) اللبؤة: أنثى الأسد.

(11) التمثيل: تشويه جسد الميت.

(12) إليك يا أمه: ابتعدي يا أماه.

(13) بقر بطنه: شق بطنه.

(14) جُدع أنفه: قطع أنفه.

(15) صُلمت أذناه: قطعت أذناه.

(16) لأحتسبن: لأجعلن ذلك المصاب في الله ولأطلبن الأجر عليه منه.

(17) السدى: الخيوط الطويلة للنسيج واللحمة الخيوط العريضة.

(18) إليك خبرها: خذ خبرها.

(19) حواف الخندق: أطرافه.

(20) عين: جاسوس.

(21) ظاهروا قريشاً: أعانوا قريشاً.

(22) الطامة: المصيبة الكبرى، وسميت القيامة طامة لأنها تطم كل شيء.

(23) على عاتقها: على كتفها.

(24) يتربصون: ينتظرون ويترقبون.

 

مقالات ذات صلة :