• 21 تشرين الثاني 2017
  • 3,976

سلسلة من نحب - الله تعالى - (31) القدُّوس، السبُّوح :

أما اسمه تبارك وتعالى "القدوس" فقد ورد في القرآن مرتين: قال تعالى: {هُوَ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّـهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23]، وقال تعالى: {سَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة: 1].

وأمّا "السبّوح" فقد ورد في السنَّة، وذلك فيما رواه مسلم في "صحيحه"(1) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله ﷺ كان يقول في ركوعه وسجوده: "سُبُّوح قُدُّوس ربُّ الملائكة والرُّوح".

وقد جمع عليه الصّلاة والسّلام في هذا الحديث بين التسبيح والتقديس كما جُمع بينهما في قوله تعالى في ذكر تسبيح الملائكة وتقديسهم لله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30].

و"السُّبُّوح القُدُّوس" اسمان عظيمان دالَّان على تنزيه الله عن النقائص والعيوب، وتبرئته عن كل ما يضاد كماله وينافي عظمته، كالسِّنَة والنوم واللّغوب والوالد والولد وغيرها، وعن أن يشبهه أحد من خلقه أو أن يشبه هو أحدا من خلقه، تعالى وتقدس وتنزه عن الشبيه والنظير والمثال {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

ومجموع ما ينزَّه عنه تبارك وتعالى شيئان:

أحدهما: أنه منزَّهٌ عن كلِّ ما ينافي صفات كماله، فإن له المنتهى في كل صفة كمال، فهو الموصوف بكمال العلم وكمال القدرة، منزه عما ينافي ذلك من النّسيان والغفلة، وأن يعزب عنه مثقال ذرة في السّموات والأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ومنزَّه عن العجز والتعب والإعياء واللّغوب، وموصوف بكمال الحياة والقيوميَّة، منزه عن ضدها من الموت والسِّنَة والنوم، موصوف بالعدل والغنى التام، منزع عن الظلم والحاجة إلى أحد بوجه من الوجوه، وموصوف بكمال الحكمة والرحمة، منزه عما يضادّ ذلك من العبث والسَّفَه، وأن يفعل أو يشرع

ما ينافي الحكمة والرحمة، وهكذا جميع صفاته منزه عن كل ما ينافيها ويضادُّها.

الثاني: أنه منزَّهٌ عن مماثلة أحد من خلقه، أو أن يكون له ند بوجه من الوجوه، فالمخلوقات كلها وإن عظمت وشرفت وبلغت المنتهى الذي يليق بها من العظمة والكمال اللائق بها؛ فليس شيء منها يقارب أو يشابه الباري، بل جميع أوصافها تضمحل إذا نسبت إلى صفات باريها وخالقها، بل جميع ما فيها من المعاني والنعوت والكمال هو الذي أعطاها إياه، فهو الذي خلق فيها العقول والسمع والأبصار والقوى الظاهرة والباطنة، وهو الذي علمها وألهمها، وهو الذي نماها ظاهرا وباطنا وكملها.

فهو المنزه عن كل ما ينافي صفات المجد والعظمة والكمال، وهو المنزه عن الضد والند والكفؤ والأمثال.

وينبغي أن يعلم هنا أن تسبيح الله وتقديسه إنما يكون بتبرئة الله وتنزيهه عن كل سوء وعيب، مع إثبات المحامد، وصفات الكمال له سبحانه على الوجه اللائق به.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والأمر بتسبيحه يقتضي تنزيهه عن كل عيب وسوء، وإثبات المحامد التي يحمد عليها، فيقتضي ذلك تنزيهه وتحميده وتكبيره وتوحيده"(1).

وبه يعلم أنَّ ما يفعله المعطِّلة من أهل البدع من تعطيلٍ للصفات وعدم إثبات لها وجحد لحقائقها ومعانيها بحجة أنهم يسبحون الله وينزهونه فهو في الحقيقة ليس من التسبيح والتقديس في شيء، بل هو إنكار وجحود، وضلال وبهتان.

قال ابن رجب رحمه الله في معنى قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [الحجر: 98]: "أي: سبحه بما حمد به نفسه، إذ ليس كل تسبيح بمحمود، كما أن تسبيح المعتزلة يقتضي تعطيل كثير من الصِّفات"(2).

فقوله رحمه الله: "إذ ليس كلُّ تسبيح بمحمود" كلامٌ في غاية الأهمية، إذ إن تسبيح الله بإنكار صفاته وجحدها وعدم إثباتها أمر لا يحمد عليه فاعله، بل يذم غاية الذمّ، ولا يكون بذلك من المسبحين بحمد لله، بل يكون من المعطلين المنكرين الجاحدين، من الذي نزه الله نفسه عن

(2) "تفسير سورة النصر" (ص/ 73).

قولهم وتعطيلهم بقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180-182]، فسبح الله نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه في حق الله من النّقص والعيب.

والتسبيح طاعة عظيمة وعبادة جليلة حبيبة إلى الرحمن، ثقيلة في الميزان، كما قال ﷺ: "كلمتان خفيفتان على اللّسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم". متفق عليه(1).

وهو صلاة جميع المخلوقات كما قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]، وبه ترزق، كما صحّ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبيّ ﷺ أنّ نوحاً عليه السّلام قال لابنه عند موته: "آمرك بـ "لا إله إلاّ الله"؛ فإنّ السموات السبع، والأرضين السَّبْع لو وُضعت في كفّة، ووضعت "لا إله إلا الله" في كِفّة رجحتْ بهنّ "لا إله إلا الله". ولو أنّ السموات السبع، والأرضين السّبع كنَّ حَلْقةً مُبهمةً قصمتهنَّ "لا إله إلَّا الله"، و"سبحان الله وبحمده"؛ فإنها صلاةُ كلِّ شيء، وبها يُرزق الخلق" رواه الإمام أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد"(2).

جعلنا الله من المسبِّحين بحمده، المؤمنين بأسمائه وصفاته، المحققين لتوحيده وتعظيمه، إنه سميع مجيب.

****

 

(1) (رقم: 487).

(1) "دقائق التفسير" لابن تيمية (5/59).

(1) البخاري (رقم: 6043)، ومسلم (رقم: 2694).

(2) "مسند الإمام أحمد" (2/ 170)، و"الأدب المفرد" (548) وغيرهما وإسناده صحيح. وانظر: "السلسلة الصّحيحة" (رقم: 134).

 

مقالات ذات صلة :