قضى الفاروق ليلته تلك سهران يعسّ(1) في أحياء المدينة لينام الناس ملء جفونهم أمنين مطمئنين .
و كان خلال تطوافه بين الدور و الأسواق يستعرض في ذهنه الأنجاد(2) الأمجاد من صحابة رسول الله ليعقد (3) لواحدٍ منهم الراية على الجيش الذاهب لفتح الأهواز(4) . . .
ثم ما لبث أن هتف قائلاً ظفرت به . . . نعم ظفرت به إن شاء الله . . .
و لما طلع عليه الصباح دعى سلمة بن قيسٍ الأشجعيّ و قال له :
إني وليتك على الجيش المتوجه إلى الأهواز ، فسر باسم الله ، وقاتل في سبيل الله من كفر بالله و إذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى الإسلام ، فإن أسلموا : فإما أن يختاروا البقاء في ديارهم و لا يشتركوا معكم في حرب غيرهم فليس عليهم إلا الزكاة ، و ليس لهم في الفيء(5) نصيب .
و إما أن يختاروا أن يقاتلوا معكم فلهم مثل الذي لكم ، و عليهم مثل الذي عليكم .
فإن أبوا الإسلام فادعوهم إلى إعطاء الجزية(6) ، و دعوهم و شأنهم ، و احموهم من عدوهم ، ولا تكلفوهم فوق ما يطيقون .
فإن أبوا فقاتلوهم ، فإنّ الله ناصركم عليهم .
و إذا تحصّنوا بحصن ، ثم طلبوا منكم أن ينزلوا على حكم الله و رسوله فلا تقبلو منهم ذلك ، فإنكم لا تدرون ما حكم الله و رسوله
وإذا طلبوا منكم أن ينزلوا على ذمة الله و رسوله فلا تعطوهم ذمة الله و رسوله ، إنما أعطوهم ذممكم أنتم . . .
فإذا ظفرتم في القتال فلا تسرفوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثّلوا ، و لا تقتلوا وليداً . . .
فقال سلمة : سمعاً وطاعاً يا أمير المؤمنين . . .
فودعه عمر بحرارةٍ ، و شد على يديه بقوةٍ ، و دعا له بضراعةٍ .
فلقد كان يقدر ضخامة المهمة التي ألقاها على عاتقه و عاتق(7) جنوده .
ذلك لأن الأهواز منطقة جبلية وعرة المسالك ، حصينة المعاقل ، واقعة بين البصرة و تخوم فارس ، يسكنها قوم أشداء من الأكراد .
ولم يكن للمسلمين بدّ من فتحها أو السيطرة عليها ليحموا ظهورهم من هجمات الفرس على البصرة ، و يمنعوهم من اتخاذها ميداناً لجنودهم فتتعرض سلامة العراق و أمنه للخطر . . .
مضى سلمة بن قيس على رأس جيشه الغازي في سبيل الله ، غير أنهم ما كادوا يتوغّلون(8) قليلاً في أرض الأهواز حتى دخلوا في صراع مرير مع طبيعتها العصية .
فقد طفق الجيش يعاني من جبالها النخرة و هو مصعد(9) و يكابد من مستنقعاتها الموبوءة و هو مسهل (10) .
و يصارع أفاعيها القاتلة و عقاربها السامة يقظان نائماً .
لكن روح سلمة بن قيس المؤمن الشفّافة كانت ترفرف بأجنحتها فوق جنده فإذا العذاب عذب و إذا الحزن(11) سهل .
فلقد كان يتخولهم (12) بالموعظة التي تهز نفوسهم هزّاً .
و يترع (13) لياليهم بأرج القرآن (14) . . .
فإذا هم مغمورون بضيائه . . .
سابحون في لآلئه . . .
ناسون ما مسهم من عناء ونصب . . .
امتثل سلمة بن قيس لأمر خليفة المسلمين ، فما إن التقى بأهل الأهواز حتى عرض عليهم الدخول في دين الله فأعرضوا و نفروا . . .
فدعاهم إلى إعطاء الجزية فأبوا و استكبروا . . .
فلم يبق أمام المسلمين غير ركوب الأسنّة (15) ، فركبوها مجاهدين في سبيل الله ، راغبين بما عنده من حسن الثّواب . .
دارت المعارك حامية اللظى مستطيرة الشرر ، و أبدى فيها الفريقان من ضروب البسالة ما لم تشهد له الحروب نظيراً إلا في القليل النادر .
ثم ما لبثت أن انجلت المعارك عن نصر مؤزّرٍ(16) للمؤمنين المجاهدين لإعلاء كلمة الله ، و هزيمةٍ منكرةٍ للمشركين أعداء الله .
و لما وضعت الحرب أوزارها(17) ، بادر سلمة بن قيس إلى قسمة الغنائم بين جنوده .
فوجد فيها حلية نفيسة ، فأحب أن يتحف(18) بها أمر المؤمنين ، فقال لجنوده :
إنّ هذه الحلية لو قسمت بينكم لما فعلت معكم شيئاً . . .
فهل تطيب أنفسكم إذا بعثنا بها إلى أمير المؤمنين ؟
فقالوا : نعم .
فجعل الحلية في سفط(19) ، و ندب رجلاً من قومه بني أشجع و قال له :
امض إلى المدينة أنت وغلامك ، و بشّر أمير المؤمنين بالفتح ، و أطرفه(20) بهذه الحلية .
فكان للرجل الأشجعيّ مع عمر بن الخطاب خبر فيه عبر وعظات . . .
فلنترك الكلام له ليوري لنا خبره بنفسه .
قال الرجل الأشجعيّ : مضيت أنا وغلامي إلى البصرة فاشترينا راحلتين مما أعطانا سلمة بن قيس ، و أوقرناهما زاداً (21) .
ثم يممنا وجهينا شطر(22) المدينة ، فلما بلغناها ، نشدت (23) أمير المؤمنين فوجدته واقفاً يغدّي المسلمين و هو متكئ على عصاه كما يصنع الراعي و كان يدور على القصاع و هو يقول لغلامه يرفأ :
يا يرفأ زد هؤلاء لحماً . . .
يا يرفأ زد هؤلاء خبزاً . . .
يا يرفأ زد هؤلاء مرقاً . . .
فلما أقبلت عليه قال : اجلس .
فجلست في أدنى الناس و قدم لي الطعام فأكلت .
فلما فرغ الناس من طعامهم قال : (يا يرفأ) ارفع قصاعك .
ثم مضى فتبعته .
فلما دخل داره استأذنت عليه فأذن لي فإذا هو جالس على رقعة من شعر ، متكئ على وسادتين من جلد محشوتين ليفاً ، فطرح لي أحداهما فجلست عليها .
و إذا خلفه ستر فالتفت نحو الستر وقال : يا أم كلثوم غداءنا(24) . . .
فقلت في نفسي : ماذا عسى أن يكون طعام أمير المؤمنين الذي خص به نفسه ؟!
فناولته خبزةً بزيتٍ عليها ملح لم يدق . . .
فالتفت إلي وقال : كل ، فامتثلت و أكلت قليلاً .
و أكل هو ، فما رأيت أحداً أحسن منه أكلاً .
ثم قال : اسقونا فجاءوه بقدح فيه شراب من سويق (25) الشعير فقال :
أعطوا الرجل أولاً ، فأعطوني .
فأخذت القدح فشربت منه قليلاً ، إذ كان سويقي أطيب منه و أجود ثم أخذه فشرب منه حتى روي ثم قال : الحمد لله الذي أطعمنا فأشبعنا و سقانا فأروانا .
عند ذلك التفت إليه و قلت : جئتك برسالة يا أمير المؤمنين .
فقال : من أين ؟
فقلت : من عند سلمة بن قيسٍ .
فقال : مرحباً بسلمة بن قيسٍ ، و مرحباً برسوله . . .
حدّثني عن جيش المسلمين . . .
فقلت : كما تحب يا أمير المؤمنين . . . السامة ’ و الظفر على عدوهم و عدو الله .
و بشّرته بالنصر و أخبرته خبر الجيش جملةً و تفصيلاً .
فقال : الحمدلله . . . أعطى فتفضل ، و أنهم فأجزل(26)
ثم قال : هل مررت بالبصرة ؟
فقلت : نعم يا أمير المؤمنين .
فقال : كيف المسلمون ؟
فقلت : بخير من الله
فقال : كيف الأسعار ؟
فقلت : أسعارهم أرخص أسعارٍ
فقال : و كيف اللحم ؟ فإن اللحم شجرة العرب ، و لا تصلح العرب إلا بشجرتها .
فقلت : اللحم كثير وفير
فالتفت إلى السفط الذي معي وقال : ما هذا الذي بيدك ؟!
فقلت : لما نصرنا الله على عدونا جمعنا الغنائم فرأى سلمة فيها حليةً ، فقال للجند : إن هذه لو قسمت عليكم لما بلغت منكم شيئاً . . . فهل تطيب نفوسكم إذا بعثت بها لأمير المؤمنين ؟
فقالوا : نعم .
ثم دفعت إليه بالسفط . . .
فلما فتحه و نظر إلى الفصوص(27) التي فيه بين أحمر و أصفر و أخضر ، وثب من مجلسه ، و جعل يده في خاصرته و ألقى بالسفط على الأرض فانتثر ما فيه ذات اليمين و ذات الشمال .
فظن النساء أني أريد اغتياله ، فأقبلن نحو الستر . . . ثم التفت إليّ
وقال : اجمعه . . .
و قال لغلامه يرفأ : اضربه و أوجعه . . .
فجعلت أجمع ما انتثر من السفط ، و يرفأ يضربني .
ثم قال : قم غير محمود لا أنت ولا صاحبك .
فقلت : إئذن لي بمركب يحملني أنا وغلامي إلى الأهواز ، فقد أخذ
غلامك راحلتي .
فقال : يا يرفأ أعطه راحلتين من إبل الصدقة له ولغلامه .
ثم قال لي : إذا قضيت حاجتك منهما ، و وجدت من هو أحوج لهما منك فادفعهما إليه .
قلت : أفعل يا أمير المؤمنين . . . نعم أفعل إن شاء الله .
ثم التفت إلي و قال : أما والله لئن تفرّق الجند قبل أن يقسم فيهم هذا الحلي لأفعلنّ بك و بصاحبك الفاقرة(28) .
فمضيت من توي حتى أتيت سلم وقلت : ما بارك الله لي فيما اختصصتني به . . .
اقسم هذا الحليّ في الجند قبل أن تحل بي وبك داهيةٌ(29) .
و أخبرته الخبر . . .
فما غادر مجلسه ألا بعد أن قسمه فيهم (*).
_________________________________________________________
(*) للاستزادة من أخبار سلمة بن قيس الأشجعي انظر :
1- الإصابة : 2، 7
2- الاستيعاب بهامش الإصابة : 2 ، 89
3- أسد الغابة : 2، 432
4- تهذيب التهذيب : 4 ، 154
5- معجم البلدان 1، 284 عند الكلام عن الاهواز .
6- حياة الصحابة : 1 ، 341
7- قادة فتح فارس لمحمود شيت خطاب
سلمة بن قيس الأشجعي
(1) العس : السهر في الليل للحراسة.
(2) الأنجاد : أصحاب النجدة و المروءة.
(3) عقد الراية لفلان على الجيش : جعله قائداً له.
(4) الأهواز : منطقة تقع في غربي إيران.
(5) الفيء : ما يغنمه المسلمون من غنائم الحرب .
(6) الجزية : ما يفرضه المسلمون على أهل الذمة من المال لقاء حمايتهم.
(7) العاتق : الكتف .
(8) يتوغلون : يدخلون بعيداً.
(9) مصعد : صاعد.
(10) مسهل : سائر في السهل.
(11) الحزن : الوعر.
(12) يتخولهم بالموعظة : يتعهدهم بالموعظة حيناً بعد حين.
(13) يترع : يملأ.
(14) أرج القرآن : عطر القرآن و شذاه.
(15) ركوب الأسنة : كناية عن الحرب.
(16) نصر مؤزر : نصر مبين.
(17) وضعت الحرب أوزارها : انتهت توقفت.
(18) يتحف بها أمير المؤمنين : يقدم له ما يجده بديعاً طريفاً.
(19) السفط : صندوق صغير.
(20) أطرفه : أتحفه.
(21) أوقرناهما زاداً : حملناهما طعاماً و غيره مما يتزود به المسافر.
(22) يممنا وجهينا شطر المدينة : وجهنا وجهينا جهة المدينة.
(23) نشدت أمير المؤمنين : طلبته وبحثت عنه.
(24) غداءنا : أي أعطنا غداءنا.
(25) سويق الشعير : نقيع الشعير.
(26) أجزل : أكثر.
(27) الفصوص : الأحجار الكريمة التي توضع في الحلي.
(28) الفاقرة :الداهية الشديدة كأنها تكسر فقار الظهر.
(29) داهية : مصيبة.