• 7 كانون الأول 2017
  • 25,416

سلسلة من نحب – صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم – (58) سيدنا وحشيُّ بن حربٍ رضي الله عنه :

(قتل خير الناس بعد محمد وقتل شر الناس أيضاً) [المؤرخون]

من هذا الذي أدمى فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قتل عمه حمزة بن عبد المطلب يوم أحدٍ؟!.

ثم شفى قلوب المسلمين حين قتل مسيلمة الكذاب يوم اليمامة؟.

إنه وحشيُّ بن حربٍ الحبشي، المكنَّى بأبي دسمة...

وإن له قصةً عنيفةً حزينةً داميةً...

فأعره سمعك ليروي لك مأساته بنفسه:

قال وحشي: كنت غلاماً رقيقاً لجبير بن مطعم أحد سادة قريش.

وكان عمُّه طُعَيمة، قد قتل يوم بدرٍ على يد حمزة بن عبد المطلب؛ فحزن عليه أشدَّ الحزن، وأقسم باللّات والعزّى(1) ليثأرنَّ لعمه، وليقتلنّ قاتله....

وجعل يتربَّص(2) بحمزة الفرص.

لم يمضِ على ذلك وقت طويل حتى عقدت قريش العزم على الخروج إلى أحُد للقضاء على محمد بن عبد الله، والثأر لقتلاها في بدر... فكتَّبت كتائبها(3)، وجمعت أحلافها، وأعدَّت عُدَّتها، ثم أسلمت قيادها إلى أبي سفيان بن حرب.

فرأى أبو سفيان أن يجعل مع الجيش طائفة من عقيلات(4) قريش ممن قتل آباؤهنَّ أو أبناؤهنَّ أو إخواتهنَّ أو أحدٌ من ذويهنَّ في بدر، ليحمِّسن الجيش على القتال، ويحُلْن دون الرجال ودون الفرار؛ فكان في طليعة من خرج معه من النساء زوجته هند بنت عتبة...

وكان أبوها وأخوها وعمها قد قُتلوا جميعاً في بدر...

ولما أوشك الجيش على الرحيل، التفت إليَّ جبيرٌ بن مطعم وقال:

هل لك يا أبا دسمة في أن تنقذ نفسك من الرقِّ؟

قلت: ومن لي بذلك؟!

قال: أنالك به.

قلت: وكيف؟!

قال: إن قتلت حمزة بن عبد المطلب عمَّ محمدٍ بعمِّي طُعيمة بن عدي فأنت عتيق(5).

قلت: ومن يضمن لي الوفاء بذلك؟

قال: من تشاء، ولأُشهدنَّ على ذلك الناس جميعاً.

قلت: أفعل، وأنا لها...

قال وحشي: وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة فلا أخطئ شيئاً أرميه بها.

فأخذت حربتي ومضيت مع الجيش، وجعلت أمشي في مؤخِّرته قريباً من النساء؛ فما كان لي أربٌ(6) بقتالٍ...

وكنت كلَّما مررت بهندٍ زوج أبي سفيان أو مرَّت بي ورأت الحربة تلتمع في يدي تحت وهج الشمس تقول:

أبا دسمة...

اشفِ واستشف(7)...

فلما بلغنا أُحداً، والتقى الجمعان؛ خرجت ألتمس(8)، حمزة بن عبد المطلب وقد كنت أعرفه من قبل، ولم يكن حمزة يخفى على أحد، لأنَّه كان يضع على رأسه ريشة نعامةٍ ليدلَّ الأقران(9) عليه كما كان يفعل ذوو البأس من شجعان العرب.

وما هو إلا قليلٌ حتى رأيت حمزة يهدر بين الجموع كالجمل الأورق(10) ، وهو يهدُّ الناس بسيفه هدّاً(11) فما يصمد أمامه أحد ولا يثبت له شيء...

وفيما كنت أتهيّأ له، وأستتر منه بشجرة أو حجرٍ متربِّصاً أن يدنو مني، إذ تقدَّمني إليه فارس من قريش يدعى سِباع بن عبد العزى وهو يقول:

بارزني يا حمزة.... بارزني...

فبرز له حمزة وهو يقول: هلُمَّ إليَّ(12) يا ابن المشركة...

هلُّمَ إلي...

ثم ما أسرع أن بادره بضربة من سيفه، فخرَّ صريعاً يتخبّط بدمائه بين يديه...

عند ذلك وقفت من حمزة موقفاً أرضاه، وجعلت أهزُّ حربتي حتى إذا اطمأننت إليها، دفعت بها نحوه، فوقعت في أسفل بطنه، وخرجت من بين رجليه.

فخطا مُتثاقلاً نحوي خطوتين، ثم ما لبث أن سقط، والحربة في جسده. فتركتها فيه حتى أيقنت أنه مات، ثم أتيته وانتزعتها منه ورجعت إلى الخيام، وقعدت فيها؛ إذ لم تكن لي حاجة بغيره، وإنَّما قتلته لأُعتق...

ثم حمي وطيس(13) المعركة وكثر فيها الكرُّ والفرُّ غير أنّ الدائرة ما لبثت أن دارت على أصحاب محمد، وكثر فيهم القتل.

عند ذلك غدت هندُ بنت عتبة على قتلى المسلمين ومن ورائها طائفةٌ من النساء، فجعلت تمثِّل بهم:

فتبقر(14) بطونهم، وتفقأ عيونهم، وتجدع أنوفهم(15)، وتصلم آذانهم(16)...

ثم صنعت من الآناف(17) والآذان قلادةً(18) وأقراطاً(19)، فتحلَّت بها، ودفعت قلادتها وقرطيها الذهبيين إليَّ وقالت:

هما لك يا أبا دسمة... هما لك...

احتفظ بهما فإنهما ثمينان.

ولما وضعت أحدٌ أوزارها(20)، عدت مع الجيش إلى مكة فبرَّ لي جبير بن مطعم بما وعدني به وأعتق رقبتي، فغدوت حراً...

لكن أمر محمد جعل ينمو يوماً بعد يوم وأخذ المسلمون يزدادون ساعة بعد ساعة، فكنت كلما عظم أمر محمد عظم عليَّ الكرب وتمكَّن الجزع والخوف من نفسي.

وما زلت على حالي هذه، حتى دخل محمد مكة بجيشه الجرار فاتحاً.

عند ذلك ولَّيت هارباً إلى الطائف ألتمس فيها الأمن.

لكن أهل الطائف ما لبثوا(21) كثيراً حتى لانوا للإسلام، وأعدوا وفداً منهم للقاء محمد وإعلان دخولهم في دينه.

عند ذلك سُقِط في يدي(22) ، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت وأعيتني(23) المذاهب، فقلت:

ألحق بالشام، أو باليمن، أو ببعض البلاد ألأخرى.

فوالله إني لفي غمرة همِّي(24) هذه إذ رقَّ لي رجلٌ ناصحٌ وقال:

ويحك(25) يا وحشي، إنَّ محمداً – والله – ما يقتل أحداً من الناس إذا دخل في دينه، وتشهَّد بشهادة الحقِّ(26).

فما إن سمعت مقالته حتى خرجت مُيمِّماً(27) وجهي شطر يثرب أبتغي محمداً، فلما بلغتها تحسَّست أمره فعرفت أنَّه في المسجد فدخلت عليه في خِفَّةٍ وحذرٍ ومضيت نحوه حتى صرت واقفاً فوق رأسه وقلت:

أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.

فلما سمع الشهادتين رفع بصره إليَّ، فلما عرفني ردَّ بصره عني وقال:

(أوحشي أنت؟!!)

قلت: نعم يا رسول الله.

فقال: (اقعد وحدِّثني كيف قتلت حمزة).

فقعدت فحدَّثته خبره، فلما فرغت من حديثي، أشاح(28) عني بوجهه وقال:

(ويحك يا وحشي، غيِّب وجهك عنِّي فلا أرينَّك بعد اليوم...)

فكنت منذ ذلك اليوم أتجنَّب أن يقع بصر النبيّ الكريم عليَّ؛ فإذا جلس الصحابة قُبالته(29) أخذت مكاني خلفه.

وبقيت على ذلك حتى قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه.

ثم أردف(30) وحشيٌّ يقول: وعلى الرغم من أني عرفت بأنَّ الإسلام يجبُّ(31) ما قبله، فقد ظللت أستشعر فداحة الفعلة التي اجترحتها(32)، وأستفظع الرُّزء(33) الجليل الذي رزأت به الإسلام والمسلمين، وطفقت أتحيَّن الفرصة التي أكفِّر بها عمّا سلف منِّي.

فلمّا لحق الرسول عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى، وآلت خلافة المسلمين إلى صاحبه أبي بكر، وارتدّت بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب مع المرتدين، جهّز خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً لحرب مسيلمة، وإعادة قومه بني حنيفة إلى دين الله.

فقلت في نفسي: إن هذه – والله – فرصتك يا وحشي فاغتنمها، ولا تدعها تفلت من يديك.

ثم خرجت مع جيوش المسلمين، وأخذت معي حربتي التي قتلت بها سيِّد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وآليت على نفسي أن أقتل بها مسيلمة أو أظفر بالشهادة.

فلما اقتحم المسلمون على مسيلمة وجيشه حديقة الموت(34)، والتحموا بأعداء الله، جعلت أترصَّد مسيلمة، فرأيته قائماً والسيف في يده، ورأيت رجلاً من الأنصار يتربَّص به مثلما أتربَّص أنا به: كلانا يريد قتله...

فلما وقفت منه موقفاً أرضاه، هززت حربتي حتى إذا استقامت في يدي دفعت بها نحوه، فوقعت فيه...

وفي نفس اللحظة التي أطلقت بها حربتي على مسيلمة كان الأنصاري يثب عليه ويكيل له ضربة بالسيف...

فربك يعلم أيُّنا قتله.

فإن كنت أنا الذي قتلته؛ أكن قد قتلت خير الناس بعد محمد... وقتلت شر الناس أيضاً...(*).

 

 

(*) للاستزادة من أخبار وحشي بن حرب انظر:

1- الإصابة (طبعة السعادة): 6/315.

2- أسد الغابة: 5/83-84.

3- الاستيعاب (طبعة حيدر آباد الدكن): 2/608-609.

4- التاريخ الكبير: ج 4 ق 2/180.

5- الجمع بين رجال الصحيحين: 2/546.

6- تجريد أسماء الصحابة: 2/136.

7- تهذيب التهذيب: 11/113.

8- السيرة لابن هاشم: انظر الفهارس.

9- مسند أبي داود 186.

10- الكامل لابن الأثير: 2/108.

11- تاريخ الطبري: (انظر الفهارس في العاشر).

12- إمتاع الأسماع: 1/152-153.

13- سير أعلام النبلاء: 1/129-130.

14- المعارف لابن قتيبة: 144.

15- تاريخ الإسلام للذهبي: 1/252.

وحشيُّ بن حربٍ

 

(1) اللات والعزى: صنمان كبيران من أصنام العرب في الجاهلية.

(2) يتربص: ينتظر ويتحين الفرصة.

(3) كتب كتائبها: نظمت كتائبها وأعدت الكتيبة: القطعة من الجيش.

(4) عقيلات قريش: سيدات قريش.

(5) أنت عتيق: أنت حر.

(6) أرب: غاية ورغبة.

(7) اشف واستشف: أي اشف غيظ قلوبنا من محمد وابن أخيه.

(8) ألتمس حمزة: أبحث عنه وأطلبه.

(9) الأقران: جمع قرن بكسر القاف، وقرن الرجل البطل المماثل له.

(10) الجمل الأورق: الجمل الذي لونه كلون الرماد وهو أقوى الجمال.

(11) يهد الناس هداً: يقطع الناس قطعاً.

(12) هلم إلي: أقبل علي وتعال إلي.

(13) الوطيس: التنور، وحمي وطيس المعركة: التهبت واشتدت.

(14) تبقر بطونهم: تشق بطونهم.

(15) تجدع أنوفهم: تقطع أنوفهم.

(16) تصلم آذانهم: تقطع آذانهم.

(17) الآناف: الأنوف.

(18) قلادة: طوقاً.

(19) القرط: الحلق.

(20) وضعت الحرب أوزارها: توقفت وهدأت.

(21) ما لبثوا كثيراً: ما تأخروا كثيراً.

(22) سقط في يدي: اشتد ندمي وزادت حيرتي.

(23) أعيتني المذاهب: سدت في وجهي الطرق.

(24) غمرة همي: شدة كربي.

(25) ويحك: ويل لك، وكثيراً ما تستعمل للترحم والتوجع.

(26) شهادة الحق: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

(27) ميمماً وجهي شطر يثرب: مولياً وجهي ناحية المدينة.

(28) أشاح عني بوجهه: أعرض عني و أمال وجهه.

(29) قبالته: أمامه.

(30) ثم أردف يقول: تابع قوله

(31) يجّب ما قبله: يمحو ما قبله من الذنوب.

(32) اجترحتها: ارتكبتها.

(33) الرزء الذي رزأت به الإسلام: المصيبة التي أصبت بها الإسلام.

(34) حديقة الموت: الحديقة الكبيرة التي لجأ إليها مسيلمة وأتباعه، وسميت بذلك لكثرة من مات فيها من المرتدين.

مقالات ذات صلة :