وقد ورد اسم الله "الرزّاق" في مواضع من القرآن الكريم، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11]، وقال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج: 58]، وقال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة: 114].
وورد اسم "الرّازق" في السّنة النبويّة، ففي "السنن" و"مسند الإمام أحمد" عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "غلا السِّعر على عهد رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله! لو سعَّرتَ، فقال: إنَّ الله هو الخالق القابض الباسط الرازق المسعِّر، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحدٌ بمظلمة ظلمتها إيَّاه في دمٍ ولا مال"(1).
فالله سبحانه هو الرزَّاق أي: المتكفِّل بأرزاق العباد، القائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّة فِي الْأَرْض إِلَّا عَلَى اللَّه رِزْقهَا} [هود: 6]، وقال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت: 60]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212]، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الإسراء: 30].
هذا؛ وقد ذكَّر سبحانه وتعالى عباده في مواضع عديدة من القرآن الكريم أنه هو وحده رازقهم المتكفل بأقواتهم وأرزاقهم، وقد جاء التذكير بهذا في القرآن في مقامين: مقام التفضل والامتنان، ومقام الدعوة إلى الطاعة والخير والإحسان.
فمن أمثلة الأوَّل قوله سبحانه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72].
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70]، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 64].
وأمَّا الأمثلة على الثاني فإنَّ القرآن الكريم يكثر فيه تذكير الله عباده بذلك في مقام أمرهم بالعبادة وأنواع الطاعة، ومن ذلك قوله تعالى في أمره لهم بالتّوحيد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿٢١﴾ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّـهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].
وقوله تعالى في إبطال الشرك: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم: 40].
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3].
وقوله تعالى في الأمر بالإنفاق في سبيله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254].
وقوله تعالى في الأمر بالشكر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172].
وقوله تعالى في النهي عن قتل الأولاد خوف الفقر: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31].
وقوله تعالى في بيان أثر لزوم تقواه: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3].
وقوله تعالى في ثواب الإيمان والعمل الصالح: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الحج: 50].
وقوله تعالى في ذمّ من قال عليه بلا علم في باب الحلال والحرام: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59].
وقوله تعالى في الحث على السعي في طلب الرزق الحلال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]. والآيات في هذا المعنى كثيرة جدّاً.
ورزق الله لعباده نوعان:
الأوّل : رزق عامٌّ يشمَل البرَّ والفاجر، والمؤمن والكافر، والأوّلين والآخرين، وهو رزقُ الأبدان {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].
ولا يعني رزقه سبحانه للكافر وتوسعته عليه بالأموال والأولاد ونحو ذلك رضاه عنه فإنَّه سبحانه يعطي الدنيا مَنْ يُحبّ ومن لا يُحبّ، قال تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴿٣٥﴾ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٣٦﴾ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَـئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 35-37].
وقال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55-56]، وقال تعالى: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء: 20-21].
وليس كثرة العطاء في الدنيا دليلاً على كرامة العبد عند الله، كما أن قلَّته ليس دليلاً على هوانه عنده، قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ﴿١٥﴾ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴿١٦﴾ كَلَّا} [الفجر: 15-17]، أي: ليس كلُّ من نعّمتُه في الدّنيا فهو كريم عليّ، ولا كل من قدَرْتُ عليه رزقه فهو مهان لدي، وإنما الغنى والفقر والسعة والضيق، ابتلاء من الله، وامتحان، ليعلم الشاكر من الكافر والصابر من الجازع.
النوع الثاني : رزق خاص، وهو رزق القلوب وتغذيتها بالعلم والإيمان والرزق الحلال الذي يعين على صلاح الدين، وهذا خاص بالمؤمنين على مراتبهم منه بحسب ما تقتضيه حكمته ورحمته، ويتم سبحانه كرامته لهم، ومنّه عليهم بإدخالهم يوم القيامة جنات النعيم، قال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق: 11]، وقال تعالى: {هَـذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ﴿٤٩﴾ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ ﴿٥٠﴾ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ﴿٥١﴾ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ﴿٥٢﴾ هَـذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴿٥٣﴾ إِنَّ هَـذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} [ص: 49-54].
وقد حذَّر سبحانه عباده من الانشغال برزق الدّنيا الفاني عن رزق الآخرة الباقي فقال سبحانه: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ ۖ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]، وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16-17]، والعاقل لا يشغله رزق الدّنيا وإن كثر عن الغاية التي خُلِق لأجلها وأوجد لتحقيقها وهي عبادة الله وإخلاص الدين له، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56-58]، بل يجعل ذلك سبيلا لنيل رضا الله وبلوغ جنّاتِ النعيم {جَنّاتِ عَدنٍ الَّتي وَعَدَ الرَّحمـنُ عِبادَهُ بِالغَيبِ إِنَّهُ كانَ وَعدُهُ مَأتِيًّا﴿٦١﴾ لا يَسمَعونَ فيها لَغوًا إِلّا سَلامًا وَلَهُم رِزقُهُم فيها بُكرَةً وَعَشِيًّا ﴿٦٢﴾ تِلكَ الجَنَّةُ الَّتي نورِثُ مِن عِبادِنا مَن كانَ تَقِيًّا} [مريم: 61-63].
جَعَلنا الله من عباده المتقين، وأورثنا بمنّه وكرمه جنّات النّعيم إنه تبارك وتعالى سميع مجيب.
(1) "سنن أبي داود" (رقم: 3451)، والترمذي (رقم: 1314)، وابن ماجه (رقم: 2200)، و"مسند أحمد"