• 5 شباط 2018
  • 6,533

سلسلة من نحب - الله تعالى - (35) الشّهيد، الرّقيب :

أمَّا "الشّهيد" فقد تكرر في مواضع عديدة من القرآن، قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج: 9]، وقال تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79]، وقال تعالى: {إإِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17].

وأمَّا "الرقيب" فقد ورد في ثلاثة مواطن، قرن معه في أحدها اسم الشهيد، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وقال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا} [الأحزاب: 52]، وقال تعالى: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117].

ومعنى الشّهيد أي: المطّلع على كلِّ شيءٍ الذي لا يخفى عليه شيءٌ، سمع جميع الأصوات خفيها وجليها، وأبصر جميع الموجودات دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، وأحاط علمه بكل شيء، الذي شهد لعباده وعلى عباده بما عملوه.

ومعنى الرقيب أي: المطَّلع على ما أكنَّتهُ الصدور، القائم على كل نفس بما كسبت، الذي حفظ المخلوقات وأجراها على أحسن نظام وأكمل تدبير، رقيب للمبصرات ببصره الذي لا يغيب عنه شيء، ورقيب للمسموعات بسمعه الذي وسع كل شيء، ورقيب على جميع المخلوقات بعلمه المحيط بكلّ شيء.

ومن يتأمَّل مدلول هذين الاسمين يجد بينهما شيئاً من الترادف؛ ولهذا قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: "الرّقيب والشّهيد مترادفان، وكلاهما يدلّ على إحاطة سمع الله بالمسموعات وبصره بالمبصرات وعلمه بجميع المعلومات الجلية والخفية، وهو الرقيب على ما دار في الخواطر وما تحركت به اللواحظ، ومن باب أولى الأفعال الظاهرة بالأركان قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج: 9]؛ ولهذا كانت المراقبة التي هي من أعلى أعمال والباطنة قد أحاط الله بعلمها، واستحضر هذا العلم في كل أحواله أوجب له ذلك حراسة باطنه عن كل فكر وهاجس يبغضه الله وحفظ ظاهره عن كل قول أو فعل يسخ الله، وتعبد بمقام الإحسان فعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه"(1). اهـ

قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235]، وقال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52]، وقال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]، وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14]، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، وقال تعالى: {يَعْلَم خَائِنَة الْأَعْيُن وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

وفي حديث جبريل عليه السّلام أنه سأل النبيَّ ﷺ عن الإحسان فقال له: "أنْ تعبدَ الله كأنّك تراه، فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنّه يراكَ"، رواه مسلم(2).

فتأمّلُ هذه النّصوص وما في معناها يحرِّك في العبد مراقبة الله عزّ وجل في كل أعماله وجميع أحواله، إذ المراقبة ثمرة من ثمار علم العبد بأن الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، مطَّلع على عمله في كلّ وقت، وكلّ لحظة، وكل نَفَس، وكلّ طرفة عين.

والمراقبة مَنزلة عليّة من منازل السّائرين إلى الله والدار الآخرة، وحقيقتها دوام علم العبد وتيقنه باطّلاع الحقّ سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه، فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة، وهي مراقبة لله عند أمره ليفعله العبد على أحسن حال، ومراقبة له عند نهيه ليجتنبه العبد وليحذر من الوقوع فيه. كما قال الشّاعر:

إذا ما خلوتَ الدَّهْرَ يوماً فلا تَقُلْ        خلوتُ ولكنْ قُلْ عليَّ رقيبُ

ولا تحسبنَّ الله يغفلُ ساعةً              ولا أن ما يخفى عليه يَغيبُ

وهذه المراقبة تحتاج من العبد إلى حضور القلب واجتناب الغفلة وداوم الذِّكر، وهذا يثمر سرور القلب وانشراح الصّدر وقرّة العين بالقرب من الله، وهو نعيم معجَّل يناله العبد في دنياه قبل أخراه.

قال ابن القيِّم رحمه الله: "فإنَّ سرور القلب بالله، وفرحه به، وقرّة العين به، لا يشبهه شيء من نعيم الدّنيا البتّه، وليس له نظير يقاس به، وهو حال من أحوال أهل الجنّة، حتى قال بعض العارفين: "إنه لتمر بي أوقاتٌ أقول فيها: إن كان أهلُ الجنّة في مثل هذا إنّهم لفي عيش طيب". "الحق الواضح المبين" (ص / 31-32).

ولا ريب أنَّ هذا السرور يبعثه على دوام السير إلى الله عز وجل، وبذل الجهد في طلبه، وابتغاء مرضاته، ومن لم يجد هذا السرور ولا شيئا منه فليتهم إيمانه وأعماله، فإن للإيمان حلاوة من لم يذقها فليرجع وليقتبس نوراً يجد به حلاوة الإيمان، وقد ذكر النبي ﷺ ذوق طعم الإيمان ووَجد حلاوته فذكر الذوق والوجد وعلقه بالإيمان فقال: "ذاقَ طعم الإيمان من رضي بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّد رسولاً"(2)، وقال: "ثلاث من كنّ فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، ومن كان يحبُّ المرءَ لا يحبُّه إلَّا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النّار"(3).

وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه يقول: إذا لم تجدْ للعمل حلاوةً في قلبك وانشراحاً فاتهمه، فإنَّ الربَّ تعالى شكور، يعني أنه لا بد أن يثيبَ العامِلَ على عمله في الدُّنيا من حلاوة يجدها في قلبه وقوّةٍ وانشراحٍ وقرةِ عين؛ فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول" اهـ(4).

****

(1) (رقم: 8) من حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه مطوّلاً.

(2) رواه مسلم (رقم: 34) من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.

(3) رواه البخاري (رقم: 16)، ومسلم (رقم: 43) من حديث أنس رضي الله عنه.

(4) "مدارج السالكين" (3/ 67-68).

مقالات ذات صلة :