• 26 شباط 2018
  • 3,676

التواضع :

وهو معرفة المرء قدر نفسه، وتجنب الكبر الذي هو بطر الحقّ وغمط الناس . كما قال صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم وغيره. (1)
والتواضع في الأصل إنما هو للكبير الذي يخشى عليه أن يكبر في عين نفسه
أما الإنسان العادي فلا يقال له: تواضع، وإنما يقال له: اعرف قدر نفسك، ولا تضعها في غير موضعها!

روى الخطابي في العزلة أنَّ الإمام الفذ عبد الله بن المبارك، قدم خراسان فقصد رجلاً مشهوراً بالزهد والورع، فلما دخل عليه لم يلتفت الرجل إليه ولم يأبه به، فخرج

من عنده عبد الله بن المبارك

فقال له بعض من عنده: أتدري من هذا؟  قال: لا .

قال: هذا أمير المؤمنين في الحديث.. هذا.. هذا.. هذا.. عبد الله بن المبارك فبُهِتَ الرجل وخرج إلى عبد الله بن المبارك مسرعاً يعتذر إليه ويتنصل مما حدث وقال: يا أبا

عبد الرحمن اعذرني وعظني !

قال ابن المبارك : نعم .. إذا خرجت من منزلك فلا يقع بصرك على أحدٍ إلا رأيتَ أنَّه خيرٌ منك !

وذلك أنه رآه معجباً بنفسه، ثم سأل عنه ابن المبارك فإذا هو حائك !! (2)

- ومن التواضع ، بل من معرفة قدر النفس ألا ينظر الشاب المبتدئ إلى نفسه على أنه ند لهذا العالِم أو ذاك ، ويقول: هم رجال.. ونحن رجال!!

والحال أن الرجولة تختلف.. فإن صفة الرجولة في القرآن الكريم سيقت مساق المدح في مواضع عدة:

{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} (سورة التوبة / الآية 108) .

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (سورة النور / الآيتان 36-37)

وقد يعبر بالرجولة عن الفحولة والذكورية فحسب، في مواضع أخرى:

{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} (سورة الجن / الآية 6) .

فالرجال ليسوا سواء، وأين الثرى من الثريا؟!

ولربما رأيت طويلب علم لا يحفظ من القرآن إلا اليسير، ولا يكاد يحفظ حديثاً من البخاري أو مسلم بحروفه، فضلاً عن سنده ومعناه.. ومع هذا قد يقف أمام جهابذة

العلماء وكأنه أبو حنيفة أو الشافعي! وهجيراه أن يقول: أرى، وأنا، وقلت، وعندي!

- ومن التواضع أن يتواضع المرء مع أقرانه، وكثيرا ما تثور بين الأقران والأنداد روح المنافسة والتحاسد ، وربما استعلى الإنسان على قرينه، وربما فرح بالنيل منه،

والحط من قدره وشأنه، وعيبه بما ليس فيه، أو تضخيم ما فيه، وقد يظهر ذلك بمظهر النصيحة والتقويم وإبداء الملاحظات، ولو سمى الأمور بأسمائها الحقيقية لقال:

الغيرة.

- ومن التواضع التواضع مع من هو دونك، فإذا وجدت أحدا أصغر منك سنا، أو أقل منك قدرا فلا تحقره، فقد يكون أسلم منك قلباً ، أو أقل منك ذنباً، أو أعظم منك

إلى الله قرباً.

حتى لو رأيت إنساناً فاسقاً وأنت يظهر عليك الصلاح فلا تستكبر عليه، واحمدِ الله على أن نجاك مما ابتلاه به، وتذكر أنه ربما يكون في عملك الصالح رياء أو عجب

يحبطه، وقد يكون عند هذا المذنب من الندم والانكسار والخوف من خطيئته ما يكون سببا في غفران ذنبه.

عن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث: «أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وأن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر

لفلان؟ فإني غفرت لفلان وأحبطت عملك» (3) .

فلا تستكبر على أحد، وحتى حين ترى الفاسق لا تستعلِ عليه، أو تعامله بأسلوب المتسلط المتكبر.

ولو شعر الناصح الداعية أنه قد يكون لهذا الفاسق طاعات ليست عنده، وأن عنده هو عيوباً قد لا تكون عند صاحبه لعامله برفق، وتلطف معه في الدعوة بما يُرجى أن

يكون سبباً في القبول والذكرى.

- ومن التواضع ألا يعظم في عينك عملك، إن عملت خيراً، أو تقربت إلى الله تعالى بطاعة، فإن العمل قد لا يُقبل 

و {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (سورة المائدة / الآية 27) ، ولهذا قال بعض السلف: لو أعلم أن الله قبل مني تسبيحة لتمنيتُ أن أموت الآن!

- ومن ذلك التواضع عندما تسمع نصيحة، فإن الشيطان يدعوك إلى ردّها، وسوء الظن بالناصح، لأن معنى النصيحة أن أخاك يقول لك: إن فيك من العيوب كيت وكيت

أما من عصَمَه الله تعالى فإنه إذا وجد من ينصحه ويدله على عيوبه قهر نفسه، وقبل منه، ودعا له وشكره.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم، في تعريف الكبر: «الكبر بطر الحق وغمط الناس» - يعني رد الحق، وبخس الناس أشياءهم -

فالمستكبر صاحب نفسية متعاظمة لا يكاد يمدح أحداً أو يذكره بخير، وإن احتاج إلى ذلك شفعه بذكر بعض عيوبه.

أما إن سمع من يذكره ببعض عيوبه فهيهات هيهات أن ينصاع أو يلين، وما ذاك إلا لمركب النقص في نفسه، ولهذا كان من كمال الإنسان أن يقبل النقد والملاحظة بدون

حساسية أو انزعاج أو شعور بالخجل والضعف، وها هو أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحمل الراية، ويرفع الشعار:

*** رحم الله امرأ أهدى إلينا عيوبنا ***

للإغناء انقر هنا : التواضع



(1) رواه مسلم 91، والترمذي 1999، وأبو داود 4092.
(2) العزلة 220
(3) رواه مسلم 2621.

مقالات ذات صلة :