الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ. وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ هُوَ مَا خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ ، و هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ وَأَفْضَلِ الطَّاعَاتِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
عن أَبُي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، رضي الله عنه َقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ " (1)
المرتبة الأولى : الإنكار باليد وشروطه :
وهي أقوى مراتب الإنكار وأعلاها، وذلك كإراقة الخمر، وكسر الأصنام المعبودة من دون الله، ومنع من أراد الشر بالناس وظلمهم من تنفيذ مراده، وكإلزام الناس بالصلاة، وبحكم الله الواجب اتباعه ونحو ذلك .
وذلك لمن كان له ولاية على مرتكب المنكر كما المسلم مع أهله وولده، يلزمهم بأمر الله، ويمنعهم مما حرم الله، باليد إذا لم ينفع فيهم الكلام يقوم بهذا حسب الوسع والطاقة
وهذا دليل ونظيره كثير يدل على تغيير المنكر باليد، بالقول والفعل من الرسول صلى الله عليه وسلم
ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}(1) » .(2)
ولكن التغيير للمنكر باليد لا يصلح لكل أحد وفي كل منكر، لأن ذلك يجر من المفاسد والإضرار الشيئ الكثير، وإنما يكون ذلك لولي الأمر أو من ينيبه، كالرجل في بيته يغير على أولاده، وعلى زوجته وعلى خدمه، فهؤلاء يغيرون بأيديهم بالطريقة الحكيمة المشروعة .
المرتبة الثانية : تغيير المنكر باللسان و خطواته :
ولتغيير المنكر باللسان أربع خطوات :
الخطوة الأولى: التعريف باللين واللطف :
وذلك بأن يُعرَّف مرتكب المنكر - إما بالإشارة أو التعريض حسب الموقف - بأن هذا العمل لا ينبغي أو حرام، وأنت لستَ ممن يفعل ذلك بالقصد، فأنت أرفع من ذلك، فإن الجاهل يقدم على الشيئ لا يظنه منكرا، فإذا عرف أنه منكر تركه وأقلع عنه، فيجب تعريفه باللطف والحكمة والرفق واللين، حتى يقبل ولا ينفر. ويقال له مثلا: إن الإنسان لا يولد عالما ولقد كنا جاهلين بأمور الشرع حتى علمنا العلماء.. وهكذا يتلطف به ليحصل التعريف من غير إيذاء .
فعن عائشة -رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله» (3) .
الخطوة الثانية: النهي بالوعظ والنصح والتخويف من الله تعالى:
وهذه الخطوة تتعلق غالبا في مرتكب المنكر العارف بحكمه في الشرع بخلاف الخطوة الأولى، فهي في الغالب تستعمل للجاهل في الحكم.
وأما العارف بالحكم فيستعمل معه أسلوب الوعظ والنصح والتخويف من الله تعالى، ويذكر له بعض النصوص من القرآن والسنة المشتملة على الترهيب والوعيد، كما يذكر له بعض أقوال السلف في ذلك، ويكون بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة.. وحتى لو كان عارفا لهذه النصوص فلها تأثيرها، لأن ذلك من قبل الذكرى، والله تعالى يقول: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (4) .
الخطوة الثالثة: الغلظة بالقول :
وهذه الخطوة يلجأ إليها المُنكِر بعد عدم جدوى أسلوب اللطف واللين، فحينئذ يغلظ له القول، ويزجره مع مراعاة قواعد الشرع في ذلك. وعليه ألا ينطق إلا بالصدق، ولا يطيل لسانه بما لا يحتاج إليه بل على قدر الحاجة.
وقد استعمل أبو الأنبياء إبراهيم - عليه السلام - هذا الأسلوب، قال تعالى حكاية عنه: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (5)
المرتبة الثالثة: الإنكار بالقلب :
إذا عجز المؤمن عن الإنكار باليد واللسان، انتهى إلى الإنكار بالقلب فيكره المنكر بقلبه، ويبغضه، ويبغض أهله - يعلم الله ذلك منه - إذا عجز عن تغييره بيده ولسانه - وهذا الواجب لا يسقط عن المؤمن بوجه من الوجوه، إذ لا عذر يمنعه ولا شيئ يحول بينه وبينه، وليس هناك شيء من التغيير ما هو أقل منه، كما جاء في حديث أبي سعيد المتقدم «وذلك أضعف الإيمان» يعني أقل ما يمكن به تغيير المنكر.
وإذا لم يستطع الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، تغيير المنكر بيده، ولا بلسانه، فإنه يجب عليه حينئذ إنكاره بقلبه - كما سبق بيانه - وعليه أن يهجر المنكر وأهله، فإن عجزه عن الإنكار ليس عذرا يبيح له مشاهدة ذلك المنكر أو مجالسة أهله.
قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (6) .
وقال سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (7) .
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - عند هذه الآية (وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يُستهان فيها بأوامر الله ونواهيه، وتقتحم حدوده التي حدها لعباده..) (8) .
وبهذا يتبين لنا أن الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر الداعي إلى الله على علم وبصيرة، لا بد له من معرفة مراتب إنكار المنكر وضوابطها وخطواتها، والالتزام بالعمل بها، حتى ينجح في دعوته، وتؤتي ثمارها الطيبة.
*************************************
(1) سورة الإسراء، الآية 81.ولفظ الآية وقل جاء الحق.. الآية.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، 8 / 400، كتاب التفسير، باب وقل جاء الحق وزهق الباطل، رقم 4720 .
(3) صحيح البخاري مع الفتح، 10، 449، كتاب الأدب، رقم 6024، ومسلم، 4 / 1706، كتاب السلام، رقم 2165.
(4) سورة الذاريات، الآية 55.
(5) سورة الأنبياء، الآية 67.
(6) سورة الأنعام، الآية 68.
(7) سورة النساء، الآية 140.
(8) تيسير الكريم الرحمن، 2 / 93 - 94.