• 19 نيسان 2018
  • 3,031

عاقبة هجر القرآن (5) :

هجر تدبر القرآن :

التدبر لغةً :

كلمة التدبر في اللغة: مصدر فعله الماضي (تَدَبَّر)

و (التدبير) في الأمر: النظر إلى ما تؤول إليه عاقبته. (1)

و (تدبر الأمر): رأى في عاقبته ما لم ير في صدره، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} سورة المؤمنون الآية (68) ، أي: ألم يتفهموا ما خوطبوا به في القرآن (2).

تدبر القرآن اصطلاحاً:

قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله -:

(وهو - أي تدبر القرآن -: التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك) (3) .

إن تدبر القرآن الكريم من أجَلِّ الطاعات، وأفضل القربات ، وأسمى العبادات ؛ لأنه من خلاله يفهم الإنسان مراد الله - سبحانه وتعالى -؛ ولهذا قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} سورة ص الآية (29) .

قال الإمام القرطبي - رحمه الله -:

(وفي هذا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن، ودليل على أن الترتيل أفضل من الهذ (4)، إذ لا يصح التدبر مع الهذ، قال الحسن: تدبر آيات الله اتباعها) (5).

قال الإمام الزركشي - رحمه الله - : (كراهة قراءة القرآن بلا تدبر).

تكره قراءة القرآن بلا تدبر ، وعليه حُمِل حديث عبد الله بن عمرو: "لا يفقه مَنْ قرأ القرآن في أقل من ثلاث " (6).

وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في صفة الخوارج: " يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولا حناجرهم" (7)

أسباب هجر تدبر القرآن الكريم

قلَّ مَنْ يقرأ القرآن، وقلَّ مِنْ هؤلاء القارئين مَنْ يتدبر القرآن، ويقف مع وعده ووعيده؛ حتى تتحقق له الدعوة إلى الطاعة، والزجر عن المعصية، فإذ بالقرآن - الذي لو أنزله الله على الجبال الرواسي الشامخات لتصدعت من خشية الله - إذا به يقرأ، وآيات الوعد والوعيد تسمع، ولكن قلوب قاسية، وأبدان جامدة، وأعين متحجرة، فلا قلب يخشع، ولا بدن يخضع، ولا عين تدمع.

وترجع (ظاهرة) هجر تدبر القرآن إلى أسباب كثيرة منها:

أولاً: الذنوب والمعاصي :

من عقوبات الذنوب والمعاصي أنها تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه، فلا يزال مريضاً معلولاً لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه، فإن تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان، قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}  سورة المطففين الآية (14) . قال العلماء: هو الذنب بعد الذنب حتى يطبع على قلب صاحبها فيكون من الغافلين .

ثانياً: ترك الدعاء :

إن الدعاء سلاح المؤمن في جميع أموره، ولذلك فإن سير الأنبياء والصالحين مليئة بالأدعية الصالحة المستجابة، وكان السلف الصالح إذا استعصى عليهم فهم آية من كتاب الله وتدبرها، لجأوا إلى الله بالتضرع والدعاء مع تخير الأوقات المناسبة للإجابة

فالزم - أخي الحبيب - الدعاء دائماً، وسل الله من فضله أن يرزقك فهم كتابه، وتدبر معانيه، وقل: (اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي) (8) .

 

ثالثاً: الجهل باللغة العربية :

إن الله - تعالى - أنزل القرآن الكريم بلغة العرب قال تعالى:

{وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (103) سورة النحل، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (192 - 195) سورة الشعراء.

قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -:

(وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات، وأبينها، وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس؛ فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات) (9).

وبَيَّنَ اللهُ - تعالى - الحكمة من إنزاله بلغة العرب فقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} سورة يوسف الآية (2) . {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} سورة الزمر الآية (28) . {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} سورة فصلت الآية (3) .

وإذا كان العبد لا يعرف لغة العرب ولا أساليب كلامهم؛ فأنى له أن يفهم مقصود ربه - سبحانه وتعالى - أو يتدبر آيات القرآن الكريم) (10).

رابعاً: عدم التخلي عن موانع الفهم :

وموانع الفهم كثيرة منها:

1 - أن يكون الهم منصرفاً إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها، وعدم التفكر في معاني كلام الله عز وجل .

2 - أن يكون المسلم مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة، فهذا إن سمع تفسيراً للآية غير ما سمع، إذا به يرده من غير تردد

3 -  أن يكون المسلم مُصِّراً على ذنب، أو متصفاً بكبر ، أو مبتلى - في الجملة - بهوى في الدنيا، فإن ذلك يسبب ظلمة القلب وصدئه، وقد شرط الله الإنابة في الفهم والتذكير، فقال تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ}  سورة ق الآية (8) . وقال عز وجل: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} سورة غافر الآية (13) . وقال تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} سورة الرعد الآية (19) . فالذي آثر غرور الدنيا على نعيم الآخرة فليس من ذوي الألباب؛ ولذلك لا تنكشف له أسرار الكتاب (11).

خامساً: هجر كتب التفسير :

قال الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله - : (إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله - تفسيره - كيف يلتذ بقراءته) (12).

كيف يتدبر القرآن من هجر كتب تفسير القرآن ولم يطالعها ويدارسها، ولم يعرف أسباب النزول ... وغيرها من علوم القرآن، وغالباً لا يسلم صاحب هذا المنهج من الخطأ في فهم الآيات، والاستدلال بها، والخطأ في العمل والتطبيق.

كيف نتدبر القرآن الكريم ؟

يتم ذلك من خلال طريقين: العلمي و العملي .

أولاً: الطريق العلمي: وذلك من خلال أن يعرف المسلم قيمة تدبر القرآن الكريم، وعِظَم مكانته، وكثرة فوائده، وأن تدبر القرآن سبيل إلى العلم النافع، والعمل الصالح، وطريق إلى حياة القلوب.

ثانياً: الطريق العملي: وذلك باتباع الخطوات الآتية:

1 - الالتزام بآداب التلاوة وبخاصة الإخلاص والطهارة والسواك والاستعاذة واختيار المكان المناسب ... وقد سبق ذكرها بشيء من التفصيل في هجر التلاوة.

2 - تفريغ القلب من الشواغل، والتخلي عن موانع الفهم وبخاصة الذنوب والمعاصي

3 - ترتيل القرآن، قال تعالى: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (4) سورة المزمل. إن ترتيل القرآن يساعد على تدبر الآيات، وفهم معانيها.

فوائد تدبر القرآن وثمراته :

قال العلامة السعدي - رحمه الله -: فإن في تدبر القرآن :

1 - مفتاحاً للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير، وتستخرج منه جميع العلوم.

2 - وبه يزداد الإيمان في القلب، وترسخ شجرته.

3 - فإنه يُعَرِّفُ بالرب المعبود، وما له من صفات الكمال، وما يتنزه عنه من سمات النقص.

4 - وبه يُعْرَفُ الطريق الموصلة إليه، وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه.

5 - وبه يُعْرَفُ العدو الذي هو العدو على الحقيقة، والطريق الموصلة إلى العذاب، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب.

6 - وكلما ازداد العبد تأملاً في القرآن ازداد علماً، وعملاً، وبصيرة.

*********************************************

(1) مختار الصحاح الإمام الرازي ص (197 - 198) بتصرف، المطبعة الأميرية بالقاهرة.

(2) القاموس المحيط للفيروز آبادي (2/ 84) طبعة دار الكتب العلمية.

(3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ السعدي (2/ 112) تحقيق محمد زهري النجار، طبعة الرئاسة العامة للدعوة والإرشاد.

(4) الهذ: سرعة القراءة بدون تأمل.

(5) الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي (15/ 192) المجلد الثامن، طبعة مناهل العرفان.

(6) (حديث صحيح) رواه أبوداود وأحمد والترمذي وابن ماجه، انظر صحيح الجامع (7743).

(7) متفق عليه من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - انظر فتح الباري (12/ 295)، صحيح الجامع (8053).

(8) (حديث صحيح) أخرجه أحمد وابن حبان من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً، انظر السلسلة الصحيحة (199).

(9) تفسير ابن كثير (2/ 467) طبعة دار الفكر.

(10) كيف يحفظ القرآن لإبراهيم الشربيني ص (81 - 82).

(11) إحياء علوم الدين للإمام الغزالي (1/ 235 - 236) بتصرف

(12) مقدمة تفسير الطبري لمحمود شاكر (1/ 10).