إن أنواع هجر القرآن ستة أنواع:
الأول: هجر التلاوة.
الثاني: هجر الاستماع.
الثالث: هجر التدبر.
الرابع: هجر العمل.
الخامس: هجر التحاكم.
السادس: هجر التداوي والاستشفاء.
هجر التلاوة :
قد هجر كثير من الناس كتاب ربهم هجراً لم تعرفه الأمة من قبل، فإذا بالواحد منا - إلا مَنْ رحم الله - في هذه الأوقات لا نقول تمر عليه الساعات لكن الأيام والأسابيع بل الشهور، وهو لا يتذكر أنه فتح مصحفاً أو قرأ آيات من كتاب ربه - سبحانه وتعالى - على الرغم من حرصه الشديد على قراءة الجرائد والصحف والمجلات ليتابع بلهف وشوق أخبار من لا خلاق لهم من اللاعبين واللاعبات، والفنانين والفنانات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكم من بيوت خربة وصدور جوفاء تعيش بيننا ولا تدري عن هذا الخراب شيئاً .
أسباب هجر التلاوة :
إن أسباب هجر القرآن كثيرة ومتعددة تختلف من شخص لآخر وكذلك تختلف حسب نوع هجر القرآن ولكننا نذكر أهم الأسباب العامة التي تؤدي إلى هجر التلاوة وهي:
أولاً : الجهل بفضل تلاوة القرآن الكريم .
إن جهل الكثير من أبناء المسلمين بفضل تلاوة القرآن الكريم، والثواب المترتب عليه، من أكبر الدواعي لهجر تلاوة القرآن، وعدم الاعتناء بتحصيله، والمداومة على تلاوته.
ولو يعلم المرء ما في هذا القرآن الكريم من الفضل العظيم، والثواب الجزيل، ومنزلة قارئه في الدنيا والآخرة؛ لجعله أنيسه آناء الليل وأطراف النهار ، وما غفل عنه طرفة عين، ويكفي أن تعلم - أخي الحبيب - حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» (1)
وحديث: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» (2).
ثانياً: الانشغال بالدنيا:
إن الواقع الذي يعيشه بعض هذه الأمة من البعد عن الله، والجرأة على ما حرم الله، والتعامل بالربا، وغير ذلك من المعاصي والآثام؛ أوقعهم في المعيشة الضنك التي توعد الله بها أمثالهم قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} سورة طه (124 - 126)
فبدأ الناس يلهثون وراء الدنيا، ويواصلون الليل بالنهار، لسد تلك الاحتياجات الضرورية فضلاً عن الكمالية وقلَّما يجد أحدهم وقتاً يقرأ فيه القرآن أو يستمعه، فما أن يعود إلى بيته فيجد نفسه منهكاً متعباً يتمنى رؤية الفراش، فمثله كما روي ذلك عن النبي: - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يبغض كل جعظري جواظ (3)، سخاب في الأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بالدنيا، جاهل بالآخرة» (4).
ولو يعلم هؤلاء الغاية التي خلقوا من أجلها - لتغير حالهم قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} سورة الذاريات (56 - 58) . - لوجب عليهم الاعتناء بما خلقوا له والإعراض عن حظوظ الدنيا بالزهادة، فإنها دار نفاد لا محل إخلاد، ومركب عبور لا منزل حبور، ومشرع انفصام لا موطن دوام، فملكها يفنى، وجديدها يبلى، وكثيرها يقل، وعزيزها يذل، وحيها يموت، وخيرها يفوت ، ولهذا كان الأيقاظ من أهلها هم العباد، وأعقل الناس فيها هم الزهاد، وصدق الله إذ يقول: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا} سورة الكهف الآية (45)
فينبغي للعاقل أن يعمل للآخرة، ويسعى لها، وأن يأخذ من الدنيا بقدر ما يوصله إلى الآخرة قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} سورة القصص الآية (77)
ثالثاً: الفتور وضعف الهمة:
إن الفتور وضعف الهمة من الأمراض التي تكاد تعصف بالكثير منا، فلا تكاد تجد من يحافظ على شيء، أو يهتم به _ إلا من رحم الله _، فما أن يمسك المرء المصحف يوماً حتى يتركه أياماً.
ومن الأدوية النبوية لعلاج ضعف الهمة: المداومة على الأعمال الصالحة والاستمرار عليها وإن قلَّت .
عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها امرأة فقال: «مَنْ هذه؟» قالت: فلانة تذكر من صلاتها. قال: «مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا» وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه (5).
قال الإمام النووي - رحمه الله - : بدوام القليل تستمر الطاعة بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله، بخلاف الكثير الشاق حتى ينمو القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة .
رابعاً : تقديم طلب العلوم الأخرى على القرآن :
إن عدم المنهجية في طلب العلم لدى كثير من طلاب العلم، وعدم التلقي عن العلماء؛ أدى إلى ذلك التخبط، وذلك الغبش الذي أصاب الكثير منهم، حتى قدموا كلام البشر على كلام رب البشر، وأقبلوا على حفظ المتون في شتى الفنون، وما حفظوا كلام الله الذي هو أساس العلوم، وما هكذا فعل السلف الصالح، ولا هذه طريقتهم في طلب العلم .
دخل أحد فقهاء مصر على الإمام الشافعي - رحمه الله - في المسجد وبين يديه المصحف، فقال له الشافعي: (شغلكم الفقه عن القرآن! إني لأصلي العتمة وأضع المصحف في يدي فما أطبقه حتى الصبح
خامساً : الغزو الفكري والحرب المعلنة ضد القرآن :
لما عجز أعداء الله عن السيطرة على بلاد المسلمين عن طريق الغزو العسكري، إذا بهم يلجؤون إلى حيل ماكرة، وطرق ملتوية؛ للقضاء على الإسلام والمسلمين عن طريق الغزو الفكري، وركزوا على إبعاد المسلمين عن كتابهم - القرآن الكريم - الذي منه يستمدون منهجهم، وأسلوب حياتهم .
ويتضح ذلك من خلال تصريحات الأعداء المعلنة ومنها:
ما قاله جلادستون - رئيس وزراء إنجلترا - وقد وقف في أواخر القرن الماضي في مجلس العموم البريطاني، وقد أمسك بيده القرآن المجيد وصاح في أعضاء البرلمان قائلاً: (إن العقبة الكؤود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد المسلمين هي شيئان، ولابد من القضاء عليهما مهما كلفنا الأمر: أولهما: هذا الكتاب، وسكت قليلاً، بينما أشار بيده الأخرى نحو الشرق، وقال هذه الكعبة) .
وقال أيضاً: (مادام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان) (1).
واتخذوا في ذلك أساليب شتى منها:
1 - الازدراء بحفظة القرآن الكريم، والعلماء، والدعاة، وتصويرهم بصور قبيحة حتى يحال بينهم وبين مجتمعاتهم.
2 - السخرية من اللغة العربية - لغة القرآن الكريم -، ومهاجمتها من حين لآخر، ورفع شأن اللغات الأخرى .
3 - إغراق المجتمعات المسلمة بالحشد الهائل من الصحف والمجلات، التي تبعد عن الله، وتقرب من الشيطان، وتنشر الفاحشة والرذيلة، وأصدق وصف لها أنها (حمَّالة للكذب، قتَّالة للوقت).
4 - تدمير عقيدة المسلمين وأخلاقهم وذلك من خلال البث المباشر، والقنوات الفضائية، فضلاً عن البرامج الهدامة التي تعرض على شاشات التلفاز.
5 - صرف الناس عن القرآن والصلاة ومجالس العلم عن طريق الرياضة وبخاصة كرة القدم التي تحولت إلى عبادة! وليس أدل على ذلك من الولاء لهذه الأندية، فضلاً عن متابعة المباريات والحرص عليها .
**********************************
(1) (حديث صحيح) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ورواه الحاكم، والدارمي، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (660)، وصحيح الجامع الصغير (6469).
(2) (حديث صحيح) رواه الترمذي وقال: حديث صحيح. ورواه أبوداود، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1317)، وصحيح الجامع (8122).
(3) (جعظري): فظ غليظ متكبر، (جواظ): الجموع المنوع. انظر صحيح الجامع (1/ 382).
(4) رواه البيهقي عن أبي هريرة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1878)
(5) رواه البخاري (ح43) كتاب الإيمان: باب (أحب الدين إلى الله أدومه).